إذا أردتَ أن تثقب سفينة ففرّقْ جمْع ربّانها «ج2»

إذا أردتَ أن تثقب سفينة ففرّقْ جمْع ربّانها «ج2»
أدار فهمان الحديث نحو القضية الفلسطينيّة بقوله: «وأنفاق اتحاد المقاومة، هل تظنّ أنّ الحصار عليها سينجح؟»
قال آسفا: «سينجح، فالرئيس الأمريكيّ يساعدهم في هذا الشأن، ودول الغرب سامحهم الربّ معظمهم يقف بجانب إسرائيل وخاصة إنجلترا.»
تساءل دهشًا: «لِم يساعدونهم؟»
– «بسبب أنّ أكثر اقتصاد العالم تحت أيدي اليهود، كما أنّ دول أوروبا لا تحبّ بقاء اليهود على أراضيها بسبب نصوص توراتهم الداعية إلى تميّزهم عن بقية البشر.»
قال متألمًا وهو يرفع سبابة يده المرتعشة ويحركها للأمام والخلف، بينما رأسه تكاد تلامس الثرى: «ألَا تقف الدول العربيّة إذن في وجه اليهود ولو بالكلمة؟ بالكلمة، كلمة؟!»
– «لا، لا كلمة واحدة، فالثورات العربيّة هي الداء العُضال في وجه أمّتكم يا فهمان، الآن كلّ رئيس غير شرعيّ أو حتى شرعيّ في كلّ بلد يخشى المحاسبة إذا انتصرتْ الثورة، ولذلك فهو يبذل قصارى جهده للتخلص مِن الثوّار ولا يألوا جُهدًا من أجل التضحية بأيّ شيء مهما كان الثمن ولو كان الثمن فادحًا.»
وأي شيء أفدح من ذلك، أيحكم هم إذن! بئس أولئك الحكام!»
هزّ رأسه ممتعضًا: «العروش لها صولجانات تدكّ الضمائر، وتدروش العقول، وتضرب بلا رحمة، لا تتورّع لفعل أيّ شيء من أجل بقاء حكمهم.» صمت هنيهة ثم قذفه متألمًا: «تخيّل أنّهم لا يمانعون دخول أيّ قوات أجنبيّة على أراضيهم التي يحكمونها بشرط بقائهم في السلطة، وأهم شيء في هذا الشأن أنَّ معاداة اليهود في مثل هذه الظروف المشتعلة على أراضيهم لا يصبّ في مصلحتهم مطلقًا، ولذلك فهم يخدمون المخطط الصهيونيّ لينالوا التأييد الأمريكيّ فتسقط الثورات على أراضيهم، وبذلك تظلّ القضية الفلسطينية ميتة لا روح فيها.»
– «وينجح الحصار، ثمّ يقبضون على كلِّ أفراد المقاومة ويلقونهم في السجون.»
جُن جاك، وقد عبر عن هذيانه بالكثير من الضحك الذي فتت عظمه، حيث لم سارعت نفسه بالتعبير عن الألم بالضحكات الصارخة بدلا من الدموع: «لا، لا، سيحصدونهم، فلا وقت لدى هذا المدعو يعقوب إسحاق لمسألة حقوق الأسري و.. الخ، اليهود يريدون شعب فلسطين إناثاً فقط، هم على حقّ حسب عقيدتهم، فلا وقت لديهم، فعهد الاستنكار والمناهضة والشجب قد ولّى وقد آن الأوان لهم أن يثخنوا في الأرض، لا وقت لديهم لإطعام رجال فلسطين.»
– «وأحداث مصر، ماذا تقول فيها؟»
– «الضرْب المتبادل بين أرباب الكنائس والمساجد لإحداث فتنة طائفيّة هو مِن مضامين المخطط الصهيونيّ، وهي طريقة قديمة منذ الأزل، قائمة على قول مأثور وهو «فرق تسد »، ولقد استعصتْ عليهم مصر فلم يتمكنوا من إحداث ضرر بالغ كسائر البلاد العربية، ولذلك لجأوا إلى هذه الخطة، كما أن تمزيق الاتفاقية الرباعية قد أثار حفيظة إسحاق يعقوب فنفث عن غضبه بإحداث تلك الفتنة كي يرتدع رئيسكم مهدي فيترْك الجيش الإسرائيليّ يتوغل في سيناء، ويحاصر الأنفاق، وخاصة أنفاق غزّة الواقعة على الحدود الشماليّة الغربيّة من سيناء.»
– «تقصد بأن له دافعين، دافع الآن، ودافع على المدى الطويل؟»
– «هو كذلك بالفعل.»
– «وهل تظن أن الرئيس مهدي سيترك لهم التفتيش عن الأنفاق؟»
قال جاك دون تفكير: «لا، رجل بهذه الحكمة وتلك الصرامة وهذه الشجاعة لن يدعهم يدخلون سيناء أصلاً.»
– «الحمد لله.»
صمت لحظة ثم سأله: «ولماذا دخل الجيش الأمريكيّ تايوان؟»
– «بداية، الصين تعتبر تايوان جزءًا منها، بينما تايوان تعتبر نفسها دولة مستقلة عن الصين، ووجود الجيش الأمريكيّ هناك يكشف الصين عسكريًا فيسهل ضربها.»
– «ولماذا تريد ضربها؟»
– «الصين ضربتْ الاقتصاد الأمريكيّ على مرِّ عقود طِوال بسبب تعويم اليوان؛ هذا التعويم قد أضرَّ بنا، ولقد أنذرهم الرئيس الحالي أكثر مِن مرّة، لذلك دخل تايوان ليضغط عليهم.»
– «إذن، اليهود ليس لهم علاقة بدخول تايوان.»
– «على الرغم أنّ زحف أمريكا إلى تايوان يصبُّ في مصلحة المخطط الصهيونيّ إلّا أنّي اعتقد أنّه قرار أمريكيّ خالص، فالرئيس الحالي استطاع أن يقلّص حجم الدين الأمريكي إلى درجة كبيرة جدًا، ولولا تعويم اليوان لأصبحتْ أمريكا أغنى دولة في العالم.»
– «أعتقد أن الشيطان قد نال من البشر؟»
– «النفس هي أساس الشر، ولن يفلح الشيطان مع نفس مطمئنة، فليرحمنا الربّ.»
زمّ شفتاه وقال حنقًا: «لو أستطيع أن أنضمّ إلى الخيّرين من الجان لحاربت الأشرار منهم، عندئذٍ، ينتشر السلام بين البشر.» صمت هنيهة ثمّ زفر كاظمًا وأعاد نفس الجملة: «لو …»
– «لن تستطيع، فهم يعيشون في أبعاد غير أبعادنا، بُعدهم مطوىٌّ غير مرئيّ لنا، وإن استطعتَ الوصول إليهم فلن يتركوك، سوف يقبضون عليك حال عبور بوابتهم فورًا ثمّ يقتلوك.»
– «سأرى بُعدهم بعد كشفه، واخترقه، ثمّ أقفز على إبليس وأقتله.»
– «أنا كفيزيائيّ علوم فضائيّة وفلك، أقول لك إنّ أبعادهم لن تكون مطلقًا خلف الثقوب السوداء السماويّة؛ بل الأرضيّة منها، والعالم فشل في توليد أيّ ثقب أسود أرضيّ لأنّه يتلاشى حال تكونه فورًا، وحتى لو نجحتَ، فخلف البوابة جنٌ لهم قدرات تفوق قدراتك بكثير وسوف يقتلونك بمجرد العبور كما قلت لك منذ لحظات.» صمت طويلا ثم قال: «فهمان دعك مِن هذا، دعك مِن هذا الصراع الأزليّ بين الإنس والجنِّ، لننظر في الصراع الدائر بيننا نحن البشر، لنحاول نجد حلاً.»
– «ماذا تقصد؟»
– «نبحث عن وسائل دعم الحياة مِن كوكب يدعمها، نذهب إليه، نأخذ منه بديلاً من التنازع على خيرات الأرض.»
– «اختلف معك، فلو كانتْ الدنيا كلّها جنّة مِن جنان الله على الأرض لتنافسوا عليها واقتتلوا، صدقني.»
– «فعلا.»
– «لنعود إلى الصراعات القائمة الآن، لماذا الانتخابات الأمريكيّة حامية هذه المرّة؟»
سكت هنيهة حتى يكظم الحنق الذي بداخله، ثمّ قال مستاءً: «المنافس للرئيس الحالي متصهين -وهو جورج رامسفيلد- أمّا رئيسنا الحالي فقد أبعدهم عن التدخل في شئوننا.»
زفر زفرة المستاء واستنشق هواءً جديداً كأنّما يفرغ ما في صدره من نيران ليتلقّى النسائم وقال: «لندع السياسة جانبًا ونتكلّم عن حِب قلبينا وروضته، قدس الأقداس وعبوديته، عن العلم، صديقي، نتكلم عن خبر المصاعد الفضائيّة.»
زفر وشهق وحسَّ مثلما شعر فهمان ثمّ قال: «إنّي أرجو ألّا يكون النزاع العالميّ أيضًا على سطح القمر، فها هي آسيا تستقلُّ بنفسها وتنقّب عن هيليوم -3 وتقوم بعمل محطة شمسيّة خاصة بها، وإنّي أرجو السفر إلى هناك؛ ليكون سُكنى في حالة وقوع كارثة على الأرض، فمن الممكن أن تنذرنا الأرض بحرْقِنا مِن خلال زلزال أقوى بملايين المرات مِن زلزال كاليفورنيا، وهذا الزلزال بالطبع قد يفني الحياة على الأرض. كما أروم أن تصبح قاعدة لانطلاق المركبات الفضائيّة المأهولة للبحث عن كواكب تدعم الحياة حتى لا يكون هناك فقيرًا واحدًا في الكون.»
– «أوَ تظنُّ أنّنا في هذا العالم نحتاج إلى كوكب يدعم الحياة لنقص مصادر الطبيعة الأرضيّة؟»
– «لا، لا، لو عاش العالم بلا أحقاد وأقسطوا فيما بينهم لوسعتهم مصادر الطبيعة، لكنّهم متنازعون، صراعات أديان وعنصريّة ومطامع، والنفس في نهمٍ متواصل نحو السيادة والجنس والمال.»
– «صدقتْ.»
– «أمّا بالنسبة للمصعد الفضائيّ، فهي فكرة قديمة، لكنّها لمْ تخرجْ إلى النور وتطبق على أرض الواقع إلّا منذ سنين قلائل، تلك السنوات التي تقدّمَ العلم فيه تقدمًا مذهلاً. فإنشاء مصعد فضائيّ مِن الأرض إلى القمر كان أُضحوكة الفيزيائيين منذ زمن؛ والآن يرون بأعينهم الجدّ بعد الهزل. هذه الأضحوكة هي كلمة السرّ أو حجر الزاوية الذي من خلاله استطاعوا أن يشيّدوا المحطات الشمسيّة، وإنّي أرى أنّ أعظم مصلحة من هذا المصعد هو إنشاء محطات ليزر ضخمة على سطح القمر تلك التي تدفع المركبات الفضائيّة لاستكشاف الكون؛ فلم تعد مسألة الصواريخ التي تعمل بالوقود مجدية في السفر إلى الفضاء نظرًا لسرعتها المتواضعة.»
– «فكرة لا يهتدي إليها إلا الأفذاذ من العلماء، فأرجو لك التوفيق يا صديقي.»
– «استكمالا للفكرة؛ أرى مدَّ المصاعد بصواريخ للمناورة -هذه الصواريخ تفادي الحبل من الاصطدام سواء حطام قمر صناعيّ أو أيّ شيء آخر تائه أو عائم في الفضاء- وللأسف، لم يفعلوا ذلك؛ إذ كلّ همّهم هو نقل الكهرباء مِن القمر إلى الأرض والبحث عن هيليوم -3 لخدمة أغراضهم الدنيئة، كما أنّ القمر ال.. »
وهنا طُرق الباب، إنه رسول من عند رئيس الجامعة يطلبهما على الفور.
قال رئيس الجامعة: «ماذا تنوي فعله يا جاك؟ الحكومة الفيدراليّة أبلغتني بتلبية كلّ طلباتك.»
ردّ : «أنوي تحضير رسالة الماجستير هنا والعمل في وكالة ناسا بواشنطن.»
– «رائع، سوف أعدّ لك خطاب تزكية لوكالة ناسا وسيقبلونك على الفور.»
ثمّ نظر إلى فهمان وسأله نفس السؤال.
ردّ: «أريد تحضير رسالة الماجستير مِن إحدى جامعات جنيف بسوسرا، والعمل في مصادم الهادرونات الجديد FCC-1.»
فقال له متألمًا بصوت لا يكاد يخرج من فيه: «كنْ كجاك، حضّر رسالة الماجستير هنا في بيركلي، بعدها سوف نرسلك إلى جنيف بمنح مفتوحة لك.»
أجابه باستحياء شديد: «أريد أن أمارس التجارب على المصادم FCC-1 بسيرن أثناء تحضير رسالة الماجستير، أودُّ التطبيق العمليّ على رسالتي.»
قال رئيس الجامعة له بأسلوب تودد وعتاب: «ألَا تحبُّ جاك يا ولدي؟ ألًا تحبّني كما أحبّك؟ أمريكا علّمتك وتحتاجك، ولدي، كلّ ما أريده منك أن تكمل دراساتك هنا في بيركلي، بجانب جاك وبجانبي.»
لم يجد فهمان وسيلة لكبح جماح ملامة نفسه إلا أن يبكي بكاء حارقًا، وقال له بصوت متقطع: «سيدي، لن أستطيع أن أكمل دراساتي العليا إلّا بجانب مصادم سيرن، فإنّي أحلم بتصميم مصادم أكبر منه.»
فوجئ رئيس ناسا مِن وقْع الجملة الأخيرة، وازداد حسرة أخرى ثمّ قال: «ماذا؟» صمت هنيهة ثمّ استأنف يائسًا: «أين ستبنى المصادم يا ولدي لو وفقك الربّ فيه؟»
كذبه بقوله: «أبنيه في أمريكا.»
تنفس الصعداء لمظنته بصدقه ولم يدر أنه كذبه كي لا يكدر صفو نفسه أكثر.
قال رئيس ناسا له جملة ليحفزه بها على بناء المصادم على أرض أمريكا: «إن وصلتَ إليه، فسوف أناشد الحكومة الفيدراليّة بتوفير كلّ الأمكانات لك، سأكتب لمختبر سيرن FCC-1 لتتمكن من الانضمام إليه.» سكت لحظات وهو ينظر إليه متحسرا، بينما فهمان مائل برأسه على الأرض، أما جاك فيتابع المشهد من أوله، وآثر الصمت، ولم يود التدخل كي لا يقول قولا لا يرضى عنه فهمان؛ لأن جاك يعلم أن فهمان كذب عليه، قرّبه رئيس ناسا إليه واحتضنه داعيًا له بالسداد والتوفيق مرّة أخرى.»
وفور خرجوهما أمسك هاتفه واتصلَّ برئيس مخابرات السي آى أي وقال له: «إنّ الفتى مخلص لنا، ولكنّه يريد تتمة دراساته في جنيف ليكون بجانب مصادم FCC-1.»
– «أو نفذتَ له ما يريد؟»
– «نعم.»
– «جيد، حيث إنّنا نريد قلبه قبل عقله، نريد ولاءه بخشوع لا بخنوع، سنرسل لكَ خطاب توصية مختومًا من الحكومة الفيدراليّة نفسها، ضمّه إلى خطاب توصيتك واجعلهما في خطاب واحد وأعطه للفتى.»
بقلمي: إبراهيم أمين مؤمن

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here