حدث في زيارة البابا العراق

ولاء سعيد السامرائي

البابا فرنسيس في “صلاة الأديان” في مدينة أور الأثرية العراقية (6/3/2021/

زار بابا الفاتيكان فرنسيس العراق، أخيرا، ثلاثة أيام. وحسبما رشح كان سبب الزيارة إعادة أملاك العراقيين المسيحيين المستلبة من الأحزاب الحاكمة ومليشياتها، والطلب منهم عدم مغادرة وطنهم، وتحفيز المهجّرين للعودة إليه، وهو ما يتمنّاه كل عراقي سلبت أملاكه، وهم عشرات آلاف الأشخاص، مسلمين ومسيحيين، تتلكأ الحكومة في إرجاع ما سرقته منهم بحجج ما أنزل الله بها بسلطان، لأن من يضع يده على كل هذه الممتلكات هي الأحزاب، وما يتبعها من مليشيات تقرصن الشعب والعراق كله. ولم ينقطع ذلك في أي وقت، بل يزداد ويتمدّد مع تعاقب الحكومات، ويجري تحت سمع دول الاحتلال وسفاراتها وأنظارها، وتحت سمع سفارة الفاتيكان وأنظارها، وسمع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأبصاره الذي يقول جنراله ورئيس بعثته إنهم مسؤولون عن تأمين العراق.

وضعت سفارة الفاتيكان في العراق برنامج الزيارة بالكامل، غير أن واحدا من مراسم الاستقبال كان غريبا، بمجموعة تلبس الزي البدوي وبالسيوف، لم تكن مراسم عراقية، ويمكن لطفل صغير أن يلتقط ذلك من الوهلة الأولى. كان هذا الاستقبال صادما للعراقيين، وأثار استهجانهم، فلم تحصل قط، في كل تاريخ العراق الذي كان يستقبل زواره بشكل مدني ومعاصر، مثل هذه المراسم التي فصلت خصيصا. ولا مؤامرة هنا للإعلام الغربي، عندما تقترن صورة العربي بسيفه وزيه، وهي صورة نمطية سائدة، تسوّق منذ قرن، في سينما هوليوود وفي الحروب وفي الإعلام، وعبر منظمات إرهابية.

شيء غريب في مراسم الاستقبال، مجموعة تلبس الزي البدوي وبالسيوف! هذه، ليست مراسم عراقية

ليس هذا فحسب، بل إن رغبة البابا بالقيام بالصلاة الإبراهيمية في مدينة أور يجمع فيها الديانات هي أيضا أمر إشكالي، فليس هناك مثل هذه الصلاة، بل هناك مشروع إبراهيمي للتطبيع. وقد عبر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورابطة علماء المسلمين في المغرب العربي عن رفضهم هذه الصلاة، فليس هناك صلاة يؤم بها بابا الفاتيكان باقي الديانات، ولم يحدث في تاريخ الديانات أن أدّى أي راع للكنيسة مثل هذه الصلاة. بل من الغريب أن تدبج فقرات عن تحويل مدينة أور إلى مكان حج ومزار يدرّ أموالا هائلة! فهل العراق مؤهّل حاليا، وهو تحت احتلالات، وفيه القتل، ويتبوأ، منذ سنوات، المركز الأول لأسوأ بلد في العيش والفساد.

أما مراسم استقبال في “زقورة أور”، فقد تبين، في يوم مغادرة البابا العراق، إنها لم تكن منظمة من الدولة، بل من شركة لبنانية، وقد وضعت صاحبة هذه الشركة يدها على الكرسي الذي جلس عليه البابا، ما يعد فضيحة للحكومة العراقية أمام الفاتيكان والعالم، كما أن الحكومة اختارت بالأسماء الشخصيات التي ستظهر في المشهد المرافق لما سميت “الصلاة الإبراهيمية” وفقا للمحاصصة التي تفرضها أحزاب المنطقة الخضراء.

رغبة البابا بالقيام بالصلاة الإبراهيمية في مدينة أور يجمع فيها الديانات أمر إشكالي، فليس هناك مثل هذه الصلاة، بل هناك مشروع إبراهيمي للتطبيع

ولا تزال شخصيات عراقية مطلعة على ملف طلب زيارة البابا يوحنا بولص الثاني عام 1999 بقصد زيارة مدينة أور عام 2000 وافتتاح الألفية الميلادية الثالثة على قيد الحياة تتذكر ما حصل وقتها، حيث كتب أحد المطلعين: لمّا عرض الموضوع على الرئيس صدّام حسين، لم يتخذ قرارا منفردا لتلبية هذا الطلب، بل استعان بلجنة موسعةٍ من علماء الدين، سنة وشيعة، ومن أساتذة جامعيين بتخصصات مختلفة، لاستطلاع رأيهم بزيارة البابا. ويقول الراوي إنه كان من ضمنهم، وكان بمعيته عالم الآثار بهنام أبو الصوف، وهو مسيحي. وحين اجتمعت اللجنة، كان هذا الرجل أول المعترضين على الزيارة، ودافع عن رأيه بقوة وصرامة، على الرغم مما رغبة لدى أعضاء اللجنة الآخرين في عدم الممانعة، لكنه أصرّ علي رأيه، معزّزا بالأدلة التي يحملها بحكم تخصصه، ومنها أن الزيارة ستنعكس على العراق بالخطر الكبير، لأن البابا يريد من هذه الزيارة إعطاء الحق لليهود فيما يدّعون إن أور هي أرضهم. وقد تم الاعتذار في وقتها للبابا عن قبول الزيارة بطريقة دبلوماسية. وقد تأكد هذا الكلام، حين حصلت زيارات لشخصيات رفيعة قبل الحرب لمنع العدوان على العراق. وعندما زار المبعوث البابوي بغداد، والتقى بالرئيس صدّام حسين، طلب منه موقفا من السلام مع إسرائيل لقاء رفع الحصار عن العراق، قائلا “كنت بطلا في الحرب فكن بطلا في السلام”، فلم يستجب صدّام لهذه الدعوة.

بدت زيارة البابا فرنسيس الزقورة في أور الأهم في البرنامج العام لأنشطته في زيارته العراق، وهو يصلّي بمجموعة مختارة من الحكومة يغلب عليها نظام المحاصصة الذي أسّسه الغزو واحتلال العراق أكثر مما يمثل الواقع ليبدو اختيارا لمرحلة جديدة رسمها الاحتلال الأميركي الأطلسي، فقد اختفت من مشهد اللقاء مع البابا شخصياتٌ مثل مقتدى الصدر، بينما وقف إلى جانب البابا الشاب جواد الخوئي، وهو ابن أخ عبد المجيد الخوئي الذي اغتيل في اليوم التالي لإعلان العراق محتلا، 10 إبريل/ نيسان 2003، وتردد أن مقتدى الصدر وآخرين وراء قتله. ولم تتضمن زيارة البابا لقاء علماء المجمع السني الذين تساووا في التمثيل لهم مع أصغر الديانات في العراق.

أهدى البابا سبحته للمليشياوي رايان الكلداني، صاحب مليشيا بابليون العاملة تحت إشراف الحرس الإيراني، وقائدها سليماني!

محطة بابا الفاتيكان الأخيرة كانت مدينة الموصل الشهيدة، العريقة التي يتعايش فيها العراقيون منذ قرون، وأدخل الاحتلال الأطلسي عليها عصاباتٍ برايات إسلامية، بالتنسيق مع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، المغتال قاسم سليماني، وحكومة نوري المالكي، ليتم للاحتلال تهجير أهلها، مسلمين ومسيحيين، وتدميرها. وقد أهدى البابا سبحته للمليشياوي رايان الكلداني، صاحب مليشيا بابليون العاملة تحت إشراف الحرس الإيراني، وقائدها سليماني. وهناك تصريحات للكلداني يمجد فيها بقائده، ويقول إنه من جنود جيش الحسين الذي يحارب جيش يزيد. وقد دخل هذا المليشياوي عام 2016 قاعة مفوضية حقوق الإنسان التي كانت تناقش جرائم المليشيات في البلاد، مع آخرين، واعتدوا على العراقيين ومن كان معهم من شخصيات عربية، مستعملين السلاح الأبيض خارج القاعة، ما دعا بطريرك الطائفة الكلدانية إلى إصدار بيان عنه يقول فيه إن هذا الرجل لا يمثل الطائفة، ويمثل نفسه. كما وضعت وزارة الخزانة الأميركية اسمه على لائحة الإرهاب عام 2019. ولا يمكن للفاتيكان ولا لسفارته المؤثرة في العراق، أن تجهل هذا المليشياوي، بل هي تعرفه حق المعرفة، ولا يرسل مشهد إهداء البابا السبحة له رسالة سلام إلى العراقيين؟

مراسم استقبال البابا في “زقورة أور”، تبين أنها لم تكن منظمة من الدولة، بل من شركة لبنانية

صحيحٌ أن كل مقاطع الإنجيل المختارة في ما قيل في أثناء أنشطة الزيارة البابوية، وكذا كلمات البابا فرنسيس، كانت عن حق الجميع في العيش المشترك، ورفض التسلط على الضعفاء، وهو ما يتمناه كل أبناء الشعب العراقي المظلوم، لكن الفاتيكان يتغاضى عن ذكر الاحتلال الذي هو سبب معاناة العراقيين بكل مكوناتهم، ويدعم مليشيات تهدّد حياتهم وتسلب أملاكهم، يقول رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، إن الحكومة لن تتصادم معها.

الفاتيكان مؤسسة دينية غربية تتبع الدول الغربية في سياساتها، وقد أفرحت زيارة البابا فرنسيس أهلنا المسيحيين، وهي تظهر أن هذه المؤسسة لا يمكن أن تتجاوز مخططات الدول المحتلة للعراق، بل هي تسير جنبا لجنب معها، وأهل العراق، بكل مكوناتهم، ومنهم المسيحيون، يعرفون هذه الحقائق، وهم أول من أوصل شهادات كثيرة عما حصل في بغداد والموصل من قتل وتهجير وسلب ونهب، وقد عبر قساوستهم عن ذلك عدة مرات، بوصفهم عراقيين أصلاء، وقفوا ضد الاحتلال، ورفضوا المحاصصة والطائفية وتدمير وطنهم.

دلالات

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here