ساهر عريبي
سرت موجة من التفاؤل بإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران عقب فوز الرئيس الأميركي جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأخيرة التي اجريت في نوفمبر من العام الماضي . ولاشك بان أسباب التفاؤل معلومة للقاصي والداني ومن بينها إعلان جو بايدن خلال حملته الانتخابية عزمه العودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في العام 2018 خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترمب.
وكان من بينها أيضا عودة الطاقم الديمقراطي إلى الواجهة وهو الذي شارك في المفاوضات الأميركية مع إيران التي أثمرت عن إبرام الاتفاق النووي بين طهران ودول مجموعة 5+1 في العام 2015, وأبرز رموزه وزير الخارجية أنتوني بلينكن, ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان, والمبعوث الخاص بإيران روبرت مالي, وويندي شيرمان وآخرين.
وماعزز الآمال كذلك بقرب عودة أميركية وشيكة إلى الاتفاق النووي عقب جلوس بايدن في المكتب البيضاوي في 20 يناير الماضي, هو توقف إدارة الرئيس الجديد عن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على طهران باستثناء فرض عقوبات على شخصيتين في الحرس الثوري اتهمتهما واشنطن بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان رافقت التصدي للتظاهرات التي خرجت في عدد من المدن الإيرانية في نوفمبر 2019 عقب رفع الحكومة لأسعار المحروقات.
يضاف إلى ذلك الموقف الأوروبي الداعم لعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي إضافة بالطبع إلى موقف روسيا والصين الداعم للاتفاق. لكن هذه الآمال سرعان ما تلاشت حتى دخل ملف الاتفاق النووي في مرحلة الجمود وهو الذي لم يخرج من غرفة الإنعاش بالرغم من جرعة الأمل التي تلقاها عقب رحيل ترمب عن سدة الحكم.
هنا تثار تساؤلات عن أسباب هذا الجمود بالرغم من أن الملف النووي استحوذ على اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة بمختلف أركانها من خارجية وأمن قومي بالإضافة إلى البيت الأبيض.
إلا أن الأمر وصل وبعد نحو شهرين من عمر الإدارة الأميركية الجديدة إلى الحد الذي تحول به هذا الملف إلى كرة ترميها واشطن وطهران في ملعب الآخر, وكانت آخر رمية صوبها بلينكن نحو الساحة الإيرانية خلال إجتماع الناتو يوم الأربعاء الماضي في بروكسل.
كلاهما يطالب الآخر بالعودة اولا إلى الاتفاق وما يترتب عليه من التزامات, فإيران تطالب واشنطن بالعودة ورفع العقوبات عنها لأنها خرجت أحاديا من الاتفاق في الوقت الذي كانت طهران ملتزمة حرفيا ببنوده, في حين تطالب واشنطن بالعكس متذرعة بان إيران خرجت من الاتفاق عبر خرق بنوده, بالرغم من أن خفض التزامها للاتفاق جاء نتيجة للانسحاب الأميركي!
كلا الطرفين لايريد أن يفرط باوراقه الرابحة دون الحصول على مايريد من الطرف الآخر. فطهران لا تريد التخلي عن ورقة خفض التزاماتها سواء برفع مستوى تخصيب اليورانيوم أو تشغيل أجهزة طرد مركزية أحدث, او عبر تشغيل بعض المنشآت التي توقف عملها وفقا للاتفاق, هي لا تريد سوى عودة أميركية غير مشروطة إلى الاتفاق.
غير ان للولايات المتحدة طموحات اكبر! فهي لا تريد العودة بل تريد ما هو أبعد من ذلك! تسعى لإعادة النظر في الاتفاق وتوسيعه ليشمل ملفات أخرى مثل نفوذ إيران في المنطقة الذي يثير مخاوف حلفاء واشنطن وفي مقدمتهم إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى برنامج طهران الصاروخي, ولأجل تحقيق ذلك لايريد سيد البيت الأبيض الجديد التفريط بورقة العقوبات التي ورثها عن ترمب, رغم إقراراه في مناسبات شتى بأن نهج العقوبات لن يحجم البرنامج النووي بل سيطلق له العنان, بالرغم من إيمانه وإيمان الديمقراطيين بان المقاربة المثلى لتطويق البرنامج النووي الإيراني مبنية على الجهود الدبلوماسية.
لكن هذه الجهود لن تمر فوق جثة العقوبات! كما تشير التطورات الأخيرة للمقاربة الأميركية لهذا الملف الذي شغل العالم منذ عقدين من الزمن. فمالذي تغير؟ وما حدا مما بدا؟ لاشك بأن الزمان غير ذلك الزمان وإن كان بذات الرجال! فظريف وبلينكن ومالي لايزالون لاعبين كبار في هذا الملف, لكن العام 2021 هو غير العام 2015.
حينها كانت إيران تعاني من وطأة العقوبات, وكان نفوذها مهددا في المنطقة عندما أقام تنظيم داعش دولته الممتدة من سوريا إلى العراق وطالت يده لبنان, وكانت السعودية قد بدأت بقيادة تحالف يشن الحرب على اليمن, كانت طهران في لحظة ضعف تحاول انقاذ وضعها الداخلي المنهار اقتصاديا ومشغولة بالمعارك في سوريا والعراق. لكن المعادلة سرعان ماتغيرتّ! سقطت“ دولة الخلافة“, فزال الخطر عن بغداد, واستعاد نظام الأسد شيئا لابأس به من عافيته, وسيطر حزب الله على المعادلة السياسية في لبنان, وفشل التحالف السعودي الإماراتي في القضاء على جماعة انصار الله الحوثيين في اليمن, بل إن الجماعة تحولت من حالة الدفاع إلى الهجوم على المرافق النفطية والمطارات والقواعد العسكرية السعودية.
والنتيجة ان الخشية ازدادت من تعاظم النفوذ الإيراني ومن القوة العسكرية الإيرانية وخاصة لدى الدولة العبرية, التي يزيد رئيس وزرائها من ضغوطه على إدارة الرئيس بايدن التي لا تكن لنتنياهو ودا. لكن المعادلات الحاكمة في واشنطن تغيرت هي الأخرى ولم تعد كما كانت عليه في زمن ولاية الرئيس باراك اوباما. فواشنطن تواجه تحديا كبيرا من الصين في المحيطين الهادئ والهندي وتحديها الاقتصادي هو الأكبر, والغريم الروسي يتمدد في المنطقة عبر البوابة السورية, ولابد لواشنطن من أن تعزز موقعها في مناطق نفوذها التقليدية وخاصة منطقة الشرق الأوسط وخاصة في منطقة الخليج الغنية بالنفط.
وفي خضم كل ذلك لابد لواشنطن من طمأنة الحلفاء وخاصة السعودية التي لم تعد بمأمن كما كانت عليه في السابق, فهي تدفع اليوم فاتورة حربها الباهضة على اليمن, وإسرائيل قلقة من تنامي القوة العسكرية الإيرانية وتزايد احتمال إنتاج طهران لقنبلة نووية. هنا أيقنت واشنطن بان العودة للاتفاق النووي ستعني تقوية نفوذ إيران في المنطقة وتعاظمه بغض النظر عن تحجيم برنامجها النووي. فإيران تجيد لعبة السياسة بمهارة بمراتب تفوق فيها سياسات الدول التي تعاديها في المنطقة, قهي تحسن استثمار اوراق قوتها بالرغم من ضعفها الاقتصادي فكيف سيكون الوضع لو رفعت عنها العقوبات؟ كما انها تطور برنامجها الصاروخي بشكل متسارع لربما تتحول فيه إلى أعظم قوة صاروخية في المنطقة.
هذه الحقائق يعيها اليوم أركان السياسة الأميركية سواء في البيت الأبيض أو في الكونغرس, وهي حقائق تعزف على وترها اللوبيات النافذة في واشنطن والتي لها تاثير ونفوذ على كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وهكذا تبدو إدارة الرئيس بايدن مكبلة وغير قادرة على اتخاذ الخطوة الأولى, بالرغم من تعهد طهران بالعودة الكاملة إلى الالتزام ببنود الاتفاق حال رفع العقوبات. عرض لم يعد مغريا لواشنطن!
هي تريد أكثر من ذلك وإن كان في موقفها نكث للعهود والمواثيق الدولية, فالضرورات تبيح المحظورات والأمر خرج من يدي إدارة بايدن! وهكذا وصل الملف النووي إلى طريق مسدود, فلا البيت الأبيض مستعد للغض عن كل هذه التطورات وإن أعطى العهود والمواثيق لحلفائه في المنطقة بضمان أمنهم, ولا المقاربة الديمقراطية لهذا الملف تبدو مغرية لأركان السياسة في الولايات المتحدة وحتى داخل الحزب الديمقراطي مثلما كانت عليه قبل ست سنوات.
وأما طهران فهي الأخرى لاتريد التنازل عن حقوقها التي ضمنها الاتفاق وتعتبر أي مفاوضات بشأن رفع العقوبات عنها أو بشان عودة واشنطن إلى الاتفاق, تعتبرها تسويفا ودخولا في دهليز مظلم لا يرى النور في آخره. ومما يزيد المشهد تعقيدا في طهران هي الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر يونيو المقبل المتوقع ان تخرج التيار الإصلاحي الذي يقوده الرئيس حسن روحاني من المشهد السياسي, الذي سيصاحبه إحكام المحافظين قبضتهم على مفاصل السلطة وبشكل مطلق ولأول مرة منذ تأسيس الجمهورية قبل اربعة عقود. فهذا التيار يتبنى مواقف متشددة وليس بوارد إعادة التفاوض على الاتفاق النووي.
إلا ان هناك بصيص أمل في كسر هذا الجمود النووي! فهناك طريقان وكلاهما يبدآن من طهران! اولهما ان تبادر إيران إلى وقف خفضها للتصعيد والعودة للاتفاق والالتزام ببنوده كاملة كما كان عليه الحال في السنة الاولى عقب انسحاب ترمب منه, فمثل هذه الخطوة ستحرج الإدارة الأميركية وتسحب البساط من تحتها أرجلها وتكشف حقيقة نواياها والتزامها بالعودة للاتفاق حال التزام طهران به كما تؤكد دوما.
أو أن طهران تتبنى خيار التشدد, عبر الاستمرار في سياسات التصعيد النووي والضغط على خلفاء واشنطن في المنطقة, وفي ذات الوقت تدخل في مفاوضات مع واشنطن دعا لها الاتحاد الأوروبي, متسلحة بأوراق قوتها, فيما تدخل واشنطن بورقة العقوبات ليلعب كلا الطرفين باوراقهما الرابحة على طاولة المفاوضات.
وأما حظوظ نجاح كلا الخيارين فلاتبدو واعدة ولكن يمكن ترجيح كفة أحدهما. أما الخيار الأول فإن العودة الإيرانية ستجبر واشنطن على رفع بعض العقوبات الاقتصادية عن طهران ولن تؤدي إلى رفعها جميعا وهذا يعني أن طهران ستكون الخاسر الأكبر وكل ما ستربحه هو إحراج واشنطن أمام المجتمع الدولي مع بعض الفوائد الاقتصادية مثل السماح لبعض الدول بالإفراج عن أموال الإيرانية مجمدة, فيما سيتوقف رفع الجزء الأعظم من العقوبات على نتائج مفاوضات بين الطرفين ستكون لواشنطن اليد الطولى فيها. حيث ستطرح فيها ملفات النفوذ والبرنامج الصاروخي بالإضافة إلى بنود ذات الاتفاق النووي. ولذا فيبدو هذا الخيار صعب التبني من لدن طهران.
واما الخيار الآخر فهو المرجح وهو المفضل لطهران وهو آخر الدواء بالنسبة لها, فتصعيد طهران يقربها من إنتاج سلاح نووي كلما تأخرت العودة الأميركية للاتفاق وهو مايثير قلق واشنطن ويدفعها للحيلولة دون وقوعه, وأما استمرار العقوبات فقد أثبتت تجربة العقود الأربعة الماضية أن النظام الحاكم في طهران قادر على امتصاص مفعولها بالرغم من تأثيراتها الكارثية على شريحة كبيرة من الإيرانيين. لكن هذه القدرة ليست مطلقة بل محدودة كلما طال امد العقوبات, وتظل الخشية من انفجار الأوضاع قائمة.
وما بين قلق واشنطن وحلفائها من ولادة عسيرة لسلاح نووي إيراني ومخاوف طهران من الانفجار الداخلي فإن طريق تبديد هذا القلق المتقابل لابد من أن يمر في نهاية المطاف عبر معركة المحادثات. غير أن الخيار الثاني المتشدد بحاجة إلى إدارة إيرانية متشددة تتبناه, فلكل زمان دولة ورجال! ولذا فسيترك اتخاذ قرار بهذا الشأن إلى المحافظين المتوقع فوزهم بالنتخابات الرئاسية المقبلة, فخيار التصعيد يتناسب مع نهجها المتشدد الذي ألزم مجلس الشورى الإيراني المحافظ حكومة الرئيس روحاني على الإلتزام به مكرهة كما عبر ممثلوها في أكثر من مناسبة!
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط