مهزلة يسمونها انتخابات الجزء الأول 

( إن الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل لأن أغلبية من حمير سوف تحدد مصيرك) 

جورج برناردشو  

ما كان ليحدث اعتباطا كل هذا الخراب الروحي الاجتماعي في العراق ،فهو نتيجة حتمية لظروف قاهرة تراكمية سببتها سلسلة طويلة من سياسات القسوة والعنف والحروب والتجهيل والتجويع، الذي تعرض لها العراق عبر مراحل زمنية عديدة تمتد لما قبل تأسيس الدولة الوطنية عام 1921 بل لا يمكن حصرها بفترة زمنية بعينها،ودائما ما كانت الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة شديدة الوطأة وعميقة التأثير على واقع الحياة الجمعية اليومية للشعب. وعززت بقوة فعلها الانقسام والاضطراب والتوتر الروحي وتدني الوعي الاجتماعي والتخلف الحضاري، ودائما ما كانت سببا لانعدام التوازن بين المنطق والعقل جراء اكتساح الفوضى والخواء العارم للحياة، ولتتصاعد إثرها مشاعر الخوف وفقدان الأمن والإحساس بالضعف والإحباط لحد الضياع والشعور بالعجز وانعدام الحيلة والدونية والاتكالية. ومثلت فترة حكم الطاغية صدام وتسلط حزب البعث على رقاب الناس وحروبه الدموية، واحدة من أشد الفترات قسوة وشراسة ووحشية، ومن ثم أعقبها الغزو والاحتلال الأمريكي البشع عام 2003 جالبا معه حكم الفوضى والخور والغباء، ولازال هذا قائما بما يمكن تسميته بفترة حكم اللادولة وتعطل المنطق والتيه والمهانة والخرافة، وتسلط الأحزاب الجشعة ذات العقلية المتحجرة المسكونة بالماضي والمروجة لترهات الغيب وأحقاد الجاهلية،وهذه الفترة تعد الأكثر تضليلا وجهالة ورثاثة وعنفا وقسوة من ما سبقها، ويطلق عليها بغير تبصر سمة “الديمقراطية”رغم ما يكتنف يومياتها ويفصح عن طبيعتها الفضائحية المخادعة المليئة بالفوضى والاضطراب وهذر الكلام ولجاجة التحليلات الخائبة وبؤس وسوء التخطيط وسرقة المال العام والتلفيق وخواء العقول.  

غالبية ظاهرة من أبناء الشعب العراقي يسيرون وراء الخزعبلات والترهات الدينية والدنيوية ويمتازون بفقدان التوازن النفسي والمجتمعي، وبارتفاع وتائر العدوانية والتطير وعدم الدقة بالأحكام والعبث ورواج الخدع والإشاعات والاستهتار بالقيم. وتمتاز ملكات هذه الكثرة ورغباتها، بإركان العقل جانبا واستخدام العواطف والمصالح الشخصية الأنانية لتسيير الحياة اليومية والتمترس وراء المذهب والطائفة والقومية والعشيرة، على حساب الخيارات الحقيقية والمنطقية والمصالح العامة للشعب والوطن. لذا يمكن القول بأن الشعب العراقي بأغلب تشكيلاته المجتمعية لازال يراوح في مرحلة الصبيانية وسن المراهقة الفكرية. فقد أنقطع عن الحضارة لفترات زمنية ليست بالقصيرة ومن ثم أصيب  بفاجعة النكوص والارتكاس والارتداد إلى الماضي تزامنا مع وقائع الحروب العبثية البعثية، وما أحدثه ظهور الثورة الخمينية وتأثيرها الذي جوبه بارتفاع وتيرة المد الإسلامي السني، تلك الأوضاع كانت عاملا فعالا في الاضطراب الروحي وفقدان العقلانية بين أوساط المجتمع العراقي ليتحول إثرها الكثير منه إلى مسخ دمى ومهرجين تعوزهم الفطنة وسمات وملكات التحضر. وبات الناس لا تخضع لأي مفاهيم علمية لا بل تتفشى الخرافات بينها، ويفضلون أرباع الحلول والصبينة لانجاز خياراتهم،وكل شيء أصبح عرضة للتراخي والخداع والشيطنة،  ولذا بات غالبة الشعب يتمتع بميول سلبية عدوانية وما عاد قادر على أدراك مصالح العراق كأمة ووطن. 

وبمثل هذه الأوضاع المأزقية وتراجع وانحدار وخواء ملكات الوعي، تشكلت كثرة ظاهرة قابلة للتجنيد والتطويع والترويض، وفق أجندات تعد مسبقا وراء الحجب.  ومن السهولة جر هذه الغالبية  نحو غايات تريد تمريرها قوى الشر من أطراف حزبية أو مطامع إقليمية ودولية. وتلك القوى الشريرة خبرت جيدا طبيعة حراك هذه الغالبية الفقيرة التفكير العديمة الفطنة وكيفية التلاعب بمشاعرها. ولهذا فليس من المستغرب أن نرى كيف يعمل المال السياسي دور فعال في التأثير على بسطاء الناس من خلال تلبية بعض حاجاتهم الإنسانية الآنية، واستغلال عوزهم وفقرهم المدقع للحصول على أصواتهم. 

 

 ووفق كل ذلك، وفي موضوعة الانتخابات تكون النتائج معروفة سلفا، حيث يتم عبرها إعداد وإنتاج مجموعة من السياسيين المرتزقة النفعيين ليوكل لهم تنفيذ أجندات تلك الأطراف ورؤاها ومصالحها داخل البرلمان. وتكون أولى مهامهم بذل الجهود لإدامة تجهيل المجتمع وإرباكه ودفعه لمواقع الخوف واليأس والقنوط . وهذا هو بالذات ما حدث خلال أربع مراحل للانتخابات منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 وخلال ثمانية عشر عاما بعد الإطاحة بحزب البعث.حيث جرب فيها الجميع حظوظهم وانتصرت فيها إرادة الأجندات الحزبية والمصالح والأطماع الخارجية، على حساب مصالح الشعب العراقي. 

وليس بعيدا عن هذا الخراب العام فأن تجارب الانتخابات أظهرت، تشتت وضعف القوى الوطنية المدنية الديمقراطية وعجزها عن المنافسة والوقوف بوجه جحافل الأحزاب الإنكشارية والقوى السلفية الرجعية والمرتبطة بالخارج، ويأتي هذا الخور والانكسار والتشتت وفق تأثير ذات العوامل المحبطة والقاسية التي تعرض لها عموم الشعب العراقي التي ذكرناها سلفا. وعليه لم تستطع تلك القوى ولحد الآن وبسبب الشخصنة والأنانية الحزبية والفردية، تعضيد وتوحيد صفوفها وجهودها للوقوف بوجه كتل الأحزاب الانكشارية ورغباتها العارمة في دفع مصالحها وخياراتها لتتقدم على مصالح الوطن. 

 وباستفحال سطوة الأحزاب الحاكمة وقوى الشر وعملاء الأجنبي وامتلاكهم للمال العام وسلاح الدولة،بات البعض منهم لا يتورع عن قمع الرافضين لسياساته ويمارس سطوته وجبروته لأبعاد المعترضين والمنافسين. ومن خلال مؤسسات وأدوات السلطة تتم عمليات الخطف والاغتيال أو التخويف والترهيب عبر استعراضات القوة المدججة بالسلاح.  

وبسبب تقاسم هذه القوى الشريرة لمؤسسات الدولة واستحواذها على الهيئات التي سميت بالمستقلة ومنها مفوضية الانتخابات ذاتها، فقد شهدت جميع مراحل العمليات الانتخابية ومن خلال مكاتب المفوضية عمليات تزوير كثيفة تبادلت فيها الأحزاب الحاكمة لعبة التوازنات وتقاسم الكراسي.  

والأكثر فجاجة والأبشع خسة،كانت تلك العمليات التي تدار وراء الكواليس وبسرية تامة وباتفاق خبيث ولئيم لتغير نتائج الانتخابات، ويتم ذلك عبر مكاتب مجلس المفوضين ولجنته الثلاثية المسؤولة عن إعلان النتائج، ولكن قبل كل هذا تأتي الإشارات المتفق عليها من عراب العملية في الخارج. ولهذا الغرض ومنذ أول عملية انتخابية لجمعية وطنية في 30 يناير عام 2005  تم بناء قواعد عمل ممنهجة حيث تدار وفقها العملية الانتخابية، ووضعت لها آليات ضابطة وضامنة، تكون خلالها جميع مفاتيح إدارة العملية الانتخابية مسيطر عليها وبيد الأحزاب الحاكمة ، ومن خلال تلك العمليات تحسم النتائج مهما كانت طبيعة التصويت، ليتم توزيع الأصوات وتقاسم مقاعد البرلمان بما يضمن لاحقا السيطرة على مجريات العملية السياسية والفوز بامتيازاتها وإغلاق المنافذ بوجه الأصوات المطالبة بالديمقراطية والحريات المدنية. 

فرات المحسن

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here