الناجيات من تنظيم داعش يواجهن قيود الزواج المبكر والفقر والطلاق

في وقت متقدم من الصباح، كانت تمشي بخطوات بطيئة مثقلة، تحتضن بإحدى يديها طفلة صغيرة، وبالأخرى تحمل كيساً يضم ثياباً شتوية وأعمالاً يدوية، متجهةً الى سوق مخيم شاريا لتعرض ما تحملهُ من بضاعة صنعتها بيديها، على أمل أن تجد مشترين وأن تعود في المساء ببعض المال الذي تساعد به عائلتها الفقيرة.

“سناء” التي تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، اعتادت كغيرها من النازحات الإيزيديات وأُخريات مسلمات من سنجار، على التوجه لأسواق المخيمات وعرض ما تنتجهُ من مشغولات يدوية، ومعها طفلتها الصغيرة البالغة من العمر ثلاث سنوات.

هي تعمل لساعات طويلة في خيمة عائلتها الصغيرة على إعداد بضاعتها منذ أن أُجبرت على ترك الدراسة ومن ثم الزواج قبل ثلاث سنوات لتخفف العبء عن أمها وشقيقها الذي لم يبلغ العاشرة من عمره، بعد اختطاف والدها وشقيقها الأكبر من قبل تنظيم داعش الإجرامي، خلال هجومهِ على سنجار مطلع آب 2014 والذين ما زالا مجهولي المصير.

خلال هجوم داعش في آب 2014 تمكن نحو 300 ألف إيزيدي من الفرار إلى جبل سنجار والنزوح لاحقاً الى إقليم كردستان، ليستقروا في عشرات المخيمات التي أقيمت لإيوائهم بشكلٍ مؤقت، لكنهم ما زالوا يعيشون فيها بعد مرور سبع سنوات. وتقول سناء التي ارتسمت خطوط التعب والألم على وجهها الصغير، وهي تقف الى جوار بضاعتها: “لم أكن أعرف شيئاً عن الزواج لكني لم أتحمل رؤية دموع أمي كل صباح.. كنا تحت رحمة مساعدات جيراننا وأقاربنا والمنظمات الإنسانية، أحياناً لم يكن لدينا شيء لنأكلهُ لذا اضطررتُ للزواج من شاب يكبرني بأربع سنوات”. تواصل حديثها: “كنت أرغب بالذهاب إلى المدرسة في المخيم مثل باقي الفتيات وتكملة تعليمي، حيث كنت في السادس الابتدائي في سنجار قبل قدوم تنظيم داعش الإجرامي، لكن لم يتحقق ما أردتهُ لعدم وجود أحد يعيلنا.. وها أنا أعمل الآن وتساعدني أمي أيضاً في نسج هذه الثياب، والتي تسكن بالقرب منا في منزلها، (تبتسم مستدركة) أقصد خيمتها الصغيرة القريبة من خيمتنا أنا وزوجي”.

تضيف: “بعض المال الذي أجنيهِ أعطيهِ لأمي، لأن أمي مريضة ولا تستطيع العمل وأخي صغير ولا يكفيهما المال الذي يجنيهِ من بيع السكائر”.

يعمل زوج سناء في بيع لعب الأطفال، حيث يملك بسطة صغيرة أيضاً، لكن ما يجنيهِ قليل أيضا فمعظم سكان المخيم فقراء ولا يملكون ثمن شراء الألعاب لأطفالهم.

الظروف مأساوية

بحسب نشطاء مدنيين من سنجار، فإن آلاف الفتيات مثل سناء، دفعت الظروف المعيشية الصعبة عوائلهن إلى ترك الدراسة والزواج في سنٍ مبكرة، واضطرت كثيرات منهن الى الانخراط لاحقاً في أية أعمال متوفرة تمكنهن من جني بعض المال.

ويقول دلير أحمد إن “ترك الدراسة والزواج المبكر في المجتمع الايزيدي كان موجوداً لكنهُ تضاعف بعد النزوح نتيجة الفقر والخوف من المستقبل بعد ما ارتكبهُ تنظيم داعش الاجرامي من انتهاكات بحق الفتيات من سبي واغتصاب وتعذيب”. مشاكل الإيزيديين لا تتوقف عند ترك الدراسة نتيجة الفقر عقب النزوح أو الخطف والتعذيب على يد تنظيم داعش الاجرامي، ولا تنتهي مآسيهن بعد تحريرهن من داعش، فبعض النساء حملن أطفالاً في أرحامهن من مقاتلي التنظيم وكان عليهن التخلص من الجنين بعمليات إجهاض جرت بشكل سري.

ويشير دلير إلى التأثير الكبير لتلك القصص: “معظم الفتيات والنساء واجهن صعوبات بعد صدمة فقدهن لعوائلهن، ذلك أثر على المجتمع الإيزيدي ككل ودفعه الى الزواج المبكر الذي تصاعدت معدلاته”. ويتابع: “قصة المأساة المرتبطة بداعش حاضرة في كل عائلة نازحة ولها تداعيات كبيرة”.

زواج مبكر وطلاق سريع

“فاتن” إيزيدية أخرى تزوجت في سن مبكرة بعمر (17عاماً) بمخيم شاريا بعد وفاة والدها وتركت الدراسة. كانت تعيش مع شقيقيها عند عمهم الذي لم يكن يهتم بهم رغم وضعهِ المالي الجيد، فما كان أمام فاتن أي خيار غير الزواج من شاب يكبرها بثلاثة عشر عاماً للتخلص من شعورها بكونها عالة على عائلة عمها.

لكن قصة فاتن لم تنته، فقد وجدت نفسها سريعاً تحت ظلم زوجها الذي لم يسمح لها بالخروج من البيت، وبعد أن أصبحت حاملاً لم يسمح لها بالذهاب إلى أي طبيب رغم معاناتها مع الحمل.

قبل الولادة بساعات وضعهم الطبيب أمام خيارين إما إنقاذ حياة فاتن أو إنقاذ الطفل الذي كان ذكراً، فاختار زوجها الطفل ولم يهمهُ موت زوجتهِ، كما تقول فاتن “لم أمت فقد أنقذنا الطبيب معاً، لكني بعد الولادة لم أتحمل حياتي معهُ وصرتُ أكرههُ فطلبتُ الطلاق”. تؤكد منظمات مجتمع مدني عملت في المخيمات، زيادة حالات الطلاق في المجتمع الإيزيدي نتيجة الفقر من جهة، والزواج المبكر من جهة أخرى في ظل غياب التفاهم بين الزوجين نظراً لصغر سنهما وعدم امتلاكهما الوعي والخبرة اللازمة في الحياة لمواجهة المشاكل، وتنبه إلى أن هذه المشكلة قد تتعقد في ظل تزايد حالات ترك الفتيات للتعليم ما يؤدي إلى تراجع في الوعي الثقافي لديهن.

وتقول الباحثة النفسية ريحان سعيد إن “الزواج المبكر يترك وراءهُ آثارا سلبية سيئة، فالفتاة تضطر لترك المدرسة وخسارة فرصة اكتساب المعرفة والمهارات لمواجهة معارك الحياة، كما هي تبتعد حينها عن الأصدقاء وأنظمة الدعم، وهي تعاني من التوتر والضغط نتيجة فقدانها لمرحلتي الطفولة والمراهقة بسبب مسؤوليات الزواج المبكر إلى جانب ما يحملهُ من مخاطر صحية وخطر الإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً”. تتابع: “هناك علاقة وثيقة بين زواج القاصرات والمشكلات الصحية التي ينتهي بعضها بالموت بسبب الحمل، فالقاصرات غير مؤهلات جسدياً ونفسياً لأداء دور الزوجة والأم، وهذا أحد أسباب ارتفاع معدلات وفيات الأطفال والتشوهات الخلقية للأطفال الذين يولدون من رحم فتاة قاصر”.

وتنبه سعيد الى أن “وعي الشاب والفتاة بمتطلبات الزواج والحياة أمر مهم جداً، فغيابه يعني احتمالية انهيار الزواج بعد فترة قصيرة”.

وترى الباحثة أن الفقر وقلة الوعي الناتج أصلاً عن ضعف التعليم، واللذين يدفعان معاً للزواج المبكر “يولدان لاحقاً مشاكل أخرى مثل التفكك الأسري والأمراض النفسية كالاكتئاب الذي يتولد من تقييد حرية الفتاة في بيت زوجها وبقائها لوقت طويل وحيدة في المنزل، ويدفع بعض النساء الى الانتحار”.

جذور المشكلة والصدمات

وفقاً لدائرة الأوقاف الأيزيدية فإن نحو 6386 إيزيدياً (3537 امرأة و2859 رجلاً) تم خطفهم من قبل مقاتلي تنظيم داعش في الأيام الأولى لهجوم التنظيم في آب 2014، وخلال السنوات التالية تم تحرير 2800 امرأة وطفل من قبضة داعش وجماعات إرهابية أخرى في العراق وسوريا. ويقول ناشطون، إن تحرير بقية المختطفات يتطلب جهودا دولية، كما أن اللواتي تم تحريرهن بحاجة إلى دعم نفسي ومالي لتمكينهن من إعادة بناء حياتهن، فيما تحتاج العوائل التي فقدت معيليها إلى دعم مالي مستمر “في وقت يتجاهل العالم محنتهم” كما يقول الناشط والصحفي حسن علي.

تداعيات عمليات القتل والخطف لم تنته حتى بعد مرور سنوات، فما زالت النساء والفتيات يعانين من صدمات نفسية نتيجة للعنف الجسدي والجنسي وعمليات الاسترقاق والبيع كسبايا والتزويج القسري، كما يعانين من فقدانهن للعديد من أفراد عوائلهن.

يقول علي إن “وقوع مئات الفتيات ضحية للاغتصاب بعد خطفهن وإجبار الكثيرات على الزواج من مقاتلي التنظيم، ولد أمراضاً جسدية ونفسية بقيت آثارها بعد سنوات من تحريرهن، وأثرت على حياتهن في ظل بيئة اجتماعية مغلقة”. يضيف: “معاناة الخطف ومن ثم مشاكل حياة النزوح وما تفرضهُ من عوز وقيود، دفعت الكثير من العوائل وكردة فعل إلى اللجوء للزواج المبكر لحماية بناتهم كما يعتقدون، وهو ما أدى لاحقاً الى بروز ظواهر الطلاق والتفكك وحتى الانتحار”. ويشير علي، إلى عدم وجود أرقام معلنة عن نسب حالات الطلاق والزواج، لكن تقديرات نشطاء تظهر أن نسبة زواج القاصرات في بعض المخيمات تقارب الخمسين بالمئة، في حين تصل نسبة الطلاق الى نحو 25%.

ويرى خضر دوملي، وهو باحث في قضايا حقوق الأقليات والنزاعات وبناء السلام، أن ترك الدراسة والزواج المبكر يبرز بشكل كبير في مخيمات النزوح في العراق وسوريا نتيجة الفقر وعدم توفر موارد المعيشة وفرص العمل والخوف من المستقبل.

يقول: “العائلة تجد صعوبة في العيش في خيمة واحدة، وفي بيئة المخيم الصغيرة، كما أن الفتيات في سن المراهقة يكونن عرضة للارتدادات، وفي ظل قرب الخيم وتداخل العائلات من بعضها البعض وكثرة الاحتكاكات ووجود حالات التحرش، تعتقد العائلات وبحكم الأعراف الاجتماعية ان تزويج الفتاة سيحميها من الانحراف ومن التحرش أو البقاء عانسة”.

عن: مؤسسة نيريج للصحافة الاستقصائية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here