ردا على ” شطحات ماركس ” للسيد عبد الحسين شعبان

بقلم: الاستاذ الدكتور خليل شمه

لاشك في ان نخبة من المفكرين والمنظرين ومنذ القرن الثامن عشر قد ساهموا بشكل فاعل وايجابي في بلورة مفاهيم فلسفية واجتماعية عديدة تتعلق بالصراع الطبقي ودور الفئات المسحوقة في مقارعة طغمة من الاقطاعيين واغنياء المجتمع الذي انقسم على نفسه جراء التطور في وسائل الانتاج بعد أن سادت ظاهرة الثورة الصناعية في كل من انكلترا والمانيا وفرنسا.

كان كارل ماركس (1818 – 1883) في مقدمة القوى المناهضة لهيمنة الرأسماليين وطغمة التجار والصناعيين على وسائل الانتاج ومجمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية. انظر كذلك الى مؤلفات المؤرخ والاقتصادي جون شارلز سيسموندي وهيكل وغيرهم.

لقد كان لفردريك انجلز (رفيق درب ماركس) تأثير كبيرًا على فكر ماركس، فقد بدأت فلسفة ماركس تتخذ شكلًا أكثر قوة ووضوحًا، حيث دمج ماركس المنهج الديالكتيكي المستمد من أفكار هيجل (استاذ ماركس في مرحلته الجامعية) عن كيفية التغييرمع المنهج المادي (والمبني على أن الأفكار تستمد قوتها من واقعيتها). وأطلق ماركس على هذا المزيج الجديد: مصطلح المادية التاريخية أو المادية الديالكتيكية ! ومن هنا قام ماركس وإنجلز باعطاء البشرية فهما ماديًا للتاريخ من خلال وضع مذهب وفلسفة شاملة عن التطور لتشمل الحياة الاجتماعية وتطبيقها على تاريخ وتطور المجتمعات. وكان أكبر تعبير عن هذا المذهب الجديد هو ما حدث بعدها من تطور. ففي عام 1847 ظهرت منظمة عصبة الشيوعيين التي اطلقت بيانا باسم “البيان الشيوعي” إذ كان من ابرز قادتها ماركس وانجلز، حيث تزامن صدور هذا البيان اندلاع ثورات كبرى في اكثر البلدان الاوربية.

كان عام 1848 فعلًا عامَ رعب بالنسبة للنظام القديم السائد في أوروبا (القائم على النظام الإقطاعي والملكية الخاصة لوسائل الانتاج) عندما هب العمال في باريس في ثورة بلا قائد ولا تنسيق، وكذلك كان الأمر في إيطاليا وبرلين وعدد من دول أوروبا التي انتفضت فيها الجماهير.

وانطلاقًا من تحليل مادي للتاريخ، يشرح “البيان الشيوعي” أن الطبقات الاجتماعية هي نتاج التطور الاقتصادي، وأن مسار التاريخ كله يقوم على الصراع بين الطبقات. ففي مجتمعات الرقيق القديمة، كان هناك صراع بين العبيد وملاكيهم، ثم انتقل الصراع في النظام الإقطاعي بين الفلاحين وملاكِ الأراضي، ثم أنتجت الثورة الصناعية صراعا آخر، لكن في هذه المرة كان صراعا بين العمال وملاك وسائل الإنتاج، الذي كان صراعا ضروريا لا يمكن تجنبه، أما نتائجه فتكون إما تغييرات ثورية لصالح طبقة ما أو خراب مشترك للجميع.

في مقال “مؤمنون بلا حدود” للكاتب عبد الله ابراهيم (سياسي ونقابي ورجل دولة مغربي) يقول: “… صحيح أنَّ دوافع إنكلترا، حين فجَّرت الثورة الاجتماعية في الهند، لم تكن سوى أحط المصالح وأسفهها، ولكن ذلك ليس بيت القصيد. إنَّ بيت القصيد هو ما إذا كان في مقدور الجنس البشري أن يحقِّق مصيره دون ثورة أساسية في الحالة الاجتماعية السائدة في آسيا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فقد كانت إنكلترا، كائنةً ما كانت جرائمها، الأداة غير الواعية التي استخـدمها التاريـخ في إحداث تلك الثورة ……. أنَّ السبيل الوحيدة لتهديم تشكيلة السكون هو «ثورة اجتماعية». ولما كان السكون استبدَّ بالهند، فإنَّ دخول قِوى استعمارية أجنبية مثل إنكلترا يُعَدّ عملا مسوغا، باعتباره آلة تدشّن الطريق للمسار الذي يسلكه التاريخ. وبما أنَّ أي تدخُّل سيحدث تغيُّرات مؤلمة وجارحة

للشعور، فإنَّه لا بد من قبول هذه التضحية الصغيرة من أجل تحقيق الهدف الأكبر للبشرية، وهو إزالة أحد عوائق تقدُّمها والتسريع في تحقيق التقدُّم المنشود، فكلّ فِعل طارئ، كالجرائم الإنجليزية، والمصالح المنحطَّة، يُغتفر إزاء الوصول إلى هدف نبيل. وماركس كان يوارب في خطبه …. فهو يسعى لامتصاص النقمة المنتظَرة التي سيثيرها وذلك من خلال تصوير الآلام الناتجة عن التدخُّل الإنجليزي في الهند، قبل أن يعلن أنّ ذلك جزء من هدف تاريخي سامٍ، والنتيجة أنه لا بد من تهديم النَّسق الثقافي والاجتماعي، الذي يحول دون اطراد التاريخ، بمعولٍ إنجليزي”.

كنت اتمنى ان يكون السيد عبد الحسين شعبان معاصرا لتلك الظروف التاريخية التي مرت بها المجتمع الغربي وتحديدا انكلترا وألمانيا وفرنسا في ظل المتناقضات الاجتماعية التي كانت قد سادت في تلك الحقبة الزمنية (نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر).

الجدير ذكره وفي السياق ذاته ان المجتمع وانطلاقا من مفاهيم الـ”حتمية التاريخ” التي تبينتها نخبة من الفلاسقة امثال هيجل أن المجتمع قد انتقل من نظام المشاعية البدائية وصولا الى قيام النظام الاقتطاعي وبسبب الحاجة الى وسائل انتاج تلبي تطلعات الاقطاعي في زيادة حجم المنتجات الزراعية، وهو الأمر الذي مهد الطريق الى ظهور الاختراعات العلمية ومن ثم قيام الثورة الصناعية كقاعدة متينة لخلق ظروف ساعدت على قيام وتطور النظام الرأسمالي. وهنا اتسعت رقعة الاضطهاد والاستبداد وخنق الحريات للطبقات الكادحة ومطالباتهم بتحسين ظروفهم المعيشية من سكن واجور وتحديد ساعات العمل … الخ .

في ظل تلك الظروف التاريخية الحتمية بدأ ماركس بتوسيع دائرة معارفه الفكرية وتطوير دراساته الفلسفية والاجتماعية المتعلقة بالطبيعة الاستغلالية للنظام الراسمالي على حساب معاناة الكادحين وطبقة العمال والفلاحين. في تلك الظروف التاريخية لم يكن في المستطاع الاشارة الى ظاهرة الاستعمار وانما انحسر الفكر الماركسي بتحليل ظروف الانتقال من النظام الاقطاعي الى النظام الراسمالي والى الدراسات التحليلية الخاصة بالتطور الاجتماعي للكادحين وانتقالهم الى مرحلة متطورة بهدف التخلص من الفقر المدقع والاستغلال المفرط لقوة العمل والانتقال الى نوع من الرفاهية النسبية قياسا الى وضعهم في ظل الانظمية الاجتماعية التي سيقت قيام الراسمالية (المشاعية البدائية، الاقطاع، الراسمال التجاري والصناعي… ألخ ).

لقد تطرق السيد شعبان الى جملة مفاهيم يعتبرها كاتب السطور كواحدة من شطحاته وليس شطحات ماركس وفقا لما ذكـــره في مقالته “شطحات ماركس” قائلا: ” …. موقفه الخاطئ (ماركس) بخصوص الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر 1830 ورسالته “التمدينيّة”، ويستطرد قائلا ….لعلّ الفضل في إطلاعنا على موقفه هذا يعود إلى الصديق جورج طرابيشي الذي ترجم كتاباً عن الفرنسية بعنوان “الماركسية والجزائر” كشف فيه عن قصور وجهة نظر ماركس، علماً بأن الطبعة الروسية كانت قد حذفت فقرات منه لأنها صادمة ومُحرجة، خصوصاً رؤية ماركس المغلوطة وتقديره المخطوء للإستعمار الفرنسي في الجزائر بوصفه شكلاً من أشكال الهجرات التي تنقل التمدين والتحضّر إلى شعوب شبه بدائيّة أو شعوب متخلّفة “بوصفها: بدو، قطّاع طُرق ولصوصً، وكانت نظرته تلك تقوم على وجهة نظر اقتصادية بحتة، بعيداً عن الجوانب الحضارية والثقافية والإنسانية، بتفسير مبتسر مفاده أنّ الثورة الصناعية أدّت إلى تضخّم رأس المال واحتاجت إلى الموارد والأسواق والأيادي العاملة، فكانت الهجرات. ومثل هذا الرأي يهمل الطابع الإجرامي لتلك المحاولات الاستعمارية الاستيطانيّة وسعيها لقهر شعوب هذه البلدان ونهب ثرواتها وتدمير ثقافاتها وإلغاء هُويّاتها، ومع أنّه لم ينسَ التعاطف مع الضحايا، لكنّ ذلك جاء من زاوية أخلاقية”.

أن الملفت للنظر هو ان السيد شعبان اعتمد في ذلك الى راي وموقف جورج طرابيشي في اتهام ماركس بتعاطفه مع الاستعمار الانكليزي والفرنسي في كل من الهند والجزائر ليعود الى الاعتراف ان ماركس لم ينس تعاطفه مع ضحايا الراسمالية اي الاستعمار. وفي ثنايا ماتطرق اليه في مقالته “شطحات ماركس” القول بأن الثورة الصناعية أدت الى تصخم راس المال واحتاجت الى الموارد (الطبيعية) والاسواق والايادي العاملة فكانت الهجرة (يقصد الاستعمار والاحتلال كما حدث في الهند والجزائر)، ونحن بدورنا نؤكد حاجة الرأسمالية الى الاسواق لتصريف فائض انتاجها والى الايدي العاملة الرخيصة والى الاستحواذ على الثروات الطبيعية خارج حدودها (راجع لينين في الاستعمار اعلى مراحل الراسمالية). في السياق ذاته يفتقد السيد شعبان الى النظـرة الموضوعية والظروف التاريخية (مرحلة تطور النظام الراسمالي والمتغيرات الاجتماعية التي صاحبتها) حيث انصب فكر ماركس ـ في حينه ـ على متناقضات الراسمالية ونمو الوعي والادراك لطبقة الكادحين. فعلى سبيل المثال ذكر السيد احمد عبد العزيز (كاتب وممثل دراما مصري من الاسكندرية ) “…. في تلك الظروف بالغة السوء في المجتمع الراسمالي لم يكن من المتصور أن يعترض أحد على الأجور أو ساعات العمل (كان الأطفال يعملون في بعض المصانع ثلاث عشرة ساعة يوميًا فضلًا عن الاعتراض عن المساكن غير الآدمية والحياة الكئيبة التي يعيشونها في المدن الصناعية التي تعج بروائح المصانع النتنة” وهنا يتحدث عبد العزيز عن الظروف السائدة في المجتمع الراسمالي وليس في الهند او الجزائر.

كان ماركس في تلك الحقبة من التطور الراسمالي قد بدأ بتأليف موسوعته التاريخيــة كتاب راسمال الأكثر تأثيرا في الفكر الاقتصادي والفلسفي. وعلى العكس من رأي السيد شعبان فأنا شخصيا مع ماذهب اليه ماركس من ان النظام الراسمالي “الاستعمار” قد ساعد على نشر المدنية والتحضر في البلدان المتخلفة التي كانت ولاتزال تفتقد لأبسط شروط الحياة الطبيعية (كانت بلدان بدائية خالية من المظاهر الحضارية كالتعليم والصحة والمواصلات والاتصالات ونظم الصرف الصحي والسكن والحاجة الى قوانين تنظم عقود العمل وظروفه المتعارف عليها في البلدان الراسمالية الصناعية المتطورة وغيرها ). كما ان مثل هذه الظاهرة (الاستعمار) ساعد كثيراعلى نمو الوعي السياسي والاجتماعي لدى كادحي الشعوب (المستعمرة بكسر التاء) ألامر الذي أكد عليه ماركس في ضرورة الصراع من اجل تحقيق طموحات الكادحين في العدالة الاجتماعية ونقل الملكية الفردية الى ملكية عامة (مشاركة طبقة العمال والفلاحين لوسائل الانتاج وصولا الى قيام النظام الاشتراكي).

في السياق ذاته يمكن الاشارة الى موضوع قد يكون فيه الكثيــر من الحساسية مفاده: ” رغم كراهيتنا بل مقارعتنا للاستعمار والاحتلال “، ولكن وجب الاعتراف أن سقوط النظام البائد في العراق عام 2003 على يد الاحتلال الأمريكي أدى الى نشر الحريات العامة التي كان الشعب العراقي يفتقد اليها. فظهرت العشرات من الصحف والمجلات والدوريات ومئات التكتلات والمنظمات والاحزاب السياسية فضلا عن حضور ملفت عن وجود عشرات القنوات التلفزيونية وحضور تام لوسائل التواصل الاجتماعي وظهور شبكات النت والفاكس والهاتف النقال وغيرها. كما ان ” الاحتلال ” الأمريكي قاد ايضا الى زيادة الوعي السياسي عند مختلف القوى السياسية والاجتماعية في العراق، وما ظاهرة الاحتجاجات ( ثورة تشرين ) إلا تعبيرا حيا على رفضنا لكل صور الهيمنة والاستغلال الاجنبي والمطالبة بتغيير واقع العراق الحالي، وهذا ما نعتبره صورة من صور الحتمية التاريخية حيث لايمكن أن يسير المجتمع عكس رياح التغيير الذي تبناه ماركس كضرورة حتمية في تنامي الصراع الطبقي والانتقال بالمجتمع من حالة سكون الى وضع اكثر ديناميكية في الثورة على كل قوى الاستغلال وصولا الى مناخات سياسية ملائمة والتغيير المنشود في طبيعة العلاقة بين قوة العمل واربابه المهيمين على السلطة وعلى وسائل الانتاج.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here