الجائز والمحظور من الإعلام الخفي والمنظور

د. نضير الخزرجي

Image preview

تمتاز المدن العربية والإسلامية ذات القداسة لوجود مرقد إمام معصوم أو مقام ولي صالح، بتوفر موائد الطعام في المناسبات يمد سفرتها المتبرعون في المساجد والحسينيات والقاعات والشوارع العامة، وقد شاهدت هذه الموائد وحضرتها في مدن في العراق وفي إيران وفي القاهرة ودمشق، فضلا عن موائد الطعام التي تقدم للناس في أيام شهر رمضان المبارك في المدن الإسلامية وغير الإسلامية كما صار مألوفا في العواصم الغربية ومدنها حيثما تواجدت الجاليات العربية والمسلمة، وبشكل عام فالموائد تكون عامرة في المناسبات ذات الطابع الديني في الأفراح والأتراح.

ولا أظن أن مدينة في الكرة الأرضية تفوق مدينة كربلاء المقدسة من حيث موائد الطعام المنصوبة كل يوم وعلى مدار السنة حباً وكرامة في الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، هذا فضلا عن الموائد الخاصة وشبه العامة في الأعراس والمواليد والوفيات للأسر والعوائل الكربلائية وبخاصة الميسورة الحال.

في أيام الصبا والمراهقة كنا في كربلاء المقدسة وهي مسقط رأسي، وحيث ولدت في دارة جدنا الحاج علي شاه البغدادي الخزرجي وسط المدينة المقدسة الذي شهدت فيه مثل هذه الموائد العامرة العامة في شهر رمضان، فإن موائد الطعام كانت في متناول اليد، بيد أن الإستعلام عنها ومعرفة مكانها وتوقيتها ونوع الطعام المقدَّم ليس في متناول الجميع، وكان لنا صديق يكبرني بسنوات قليلة ومازال على قيد الحياة حيث عاد للسكن في العراق بعد عام 2003م بعد أن قضى معظم شبابه في سوريا مهاجرا مرغما، كان صديقنا وهو من سلالة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ممن يتقصى أخبار موائد الطعام ويقيدها في دفتر صغير يحمله دوما في جيبه مع بيان العنوان والزمان والمناسبة كأن تكون مائدة ثواب في أهل البيت (ع) أو مائدة عرس أو وفاة، وكان التركيز منصباً على المائدة الأولى لأن الحضور فيها متاح للجميع فهي مائدة ذات طابع ديني عام وإن كان بعضنا لا يتورع من حضور الموائد الأخرى دون دعوة أو اسئذان مستغلين صغر أعمارنا، وكان الواحد منا إذا أراد أن يستعلم عن مائدة قصد السيد في محله لبيع الأقمشة في سوق التجار قبل أن يتعرض للقص والهدم ويصبح جزءاً من شارع ما بين الحرمين الذي يربط مرقد الإمام الحسين (ع) بمرقد أخيه العباس بن علي (ع).

ولأن صديقنا السيد كان قريبا منا فإنه كان يمر علينا حيث منزلنا في سوق الصفارين ويخبرنا عن مواعيد موائد الطعام العامة والخاصة، كما كان يمر على غيرنا من أقرانا وأترابنا في المحلات الأخرى

حتى اشتهر بيننا بـ “سيد رويتر” نسبة إلى وكالة رويتر البريطانية التي كانت معروفة لدى الشارع العراقي بفعل دوام الإستماع إلى القسم العربي في الإذاعة البريطانية وما كانت تبثه نشرات الأخبار في الإذاعات الأخرى منسوبة الأخبار إلى هذه الوكالة، على أن صاحبنا هو أصدق من وكالة رويتر، فهو صادق فيما كان ينقل وهو إسم على مسمّى.

وكان بعضنا عندما يتناهى إليه عبر السيد رويتر خبر وليمة عامة يتسلح بملعقة وقطعة خبز لأن الطعام في تلك الحقبة الزمنية كان يقدم للناس في بعض الحسينيات والمساجد في صحن دائري واسع (الصينية) دون ملاعق إلا أصابع اليد عملاً بالسنة الشريفة، وحيث كان المثقف العراقي في تلك الفترة يتزين بقلم حبر من نوع باركر الراقي وحيث كان التعليم في أعلى مستويات رقيه كان بعضنا من الفتيان والمراهقين يتسلح بالملاعق إلى جانب سلاح العلم والمعرفة.

تذكرت صديقنا السيد الحسني “سيد رويتر” وأنا أهمُّ بكتابة هذه المقالة لاستطلع ما كتبه الفقيه الموسوعي آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي من أحكام خاصة بـ “شريعة الإعلام” وهو الكتيب الذي صدر حديثا (2021م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 48 صفحة، ضم بين الجلدين (82) مسألة فقهية و(25) تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، إلى جانب مقدمة للناشر وتقدمة للمعلق وتمهيد لصاحب الشريعة.

وما أدراك ما الإعلام

حينما نتحدث عن سلاح ذي حدين، فبالتأكيد أن الإعلام واحد من أصدق مصاديق المأثور، فهو له أن يقيم أمّة على سوقها أو يهدها من جذورها، وهذه الحقيقة يؤطرها الفقيه الكرباسي بمجموعة مسائل وأحكام هي بمثابة خارطة طريق لكل مشتغل في هذا الحقل إن كان على مستوى فرد أو مؤسسة أو سلطة حاكمة.

والإعلام في واقعه من حيث اللغة كما يشير الفقيه الكرباسي: (هو الإخبار بالشيء بغرض أخذ العلم بالموضوع)، وأما في الإصطلاح: (هو الإخبار بقصد الإشاعة لغرض ما بالوسائل المعدّة لذلك، وهو مأخوذ من أعلم بمعنى أخبر)، وبتعبير آخر: (الإخبار بالحوادث الجارية والماضية، وإظهاره بالوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية بالصوت أو الصورة أو معاً).

ولخطورته بوصفه السلطة الرابعة إلى جانب السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فإن الفقيه الكرباسي يقدم للإعلام الهادف مجموعة شروط ومعالم بتعديها وتجاوزها يتحول إلى إعلام مغرض ومخرب، لخصها بالنقاط التالية:

أولا: أن لا يكون كاذباً.

وهذه أمر واقع لأن البعض لا يلتزم بها بخاصة لدى العاملين في المؤسسات ذات الأنظمة الشمولية، ولهذا عند المصنف: (الكذب محرم بكل أشكاله وألوانه، وفي الإعلام أشد إذ قد يؤدي إلى فتنة كبرى)،

وهذه الحقيقة نلمساها كل يوم، وعدد غير قليل من الحوادث التي شهدها عالمنا العربي والإسلامي والإضطرابات التي وقعت هنا وهناك في السنوات القليلة الماضية قامت على كذبة وكذبات ساقتها قنوات ناطقة بالعربية أو بغيرها لا تتورع عن الكذب من أجل إيقاع الفتنة ووضع بلدان وشعوب تحت حصار ظالم.

ثانيا: أن لا يُحرَّف منه شيء.

ويدرك الإعلامي خطورة الموقف عندما يتم نقل جزء من الحدث أو الحديث واستقطاعه أو تحويره، أو تفسيره على غير مراده، ولهذا فإنَّ: (التلاعب بالنص في استخداماته الأدبية أو الإصطلاحية أو المنطقية لإسقاط الآخر أو إسقاط حكم مما لم يقصده قائله محرّم)، وربما شمله اللعن بقوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) سورة المائدة: 13، لإن الإعلامي حاله حال الطبيب الذي أقسم على حسن الصنعة والعمل إن كان المريض قريبا أو بعيداً، صديقاً أو عدواً، فكما لا يجوز الكذب لا يجوز نسبة شيء كاذب إلى المناوئ، فما بالك بالحليف!.

ثالثا: أن لا يُستقطع منه شيء له تأثير في المعنى.

إذ لا يصح أخلاقيا نقل الخبر أو الإعلام عن شيء على طريقة “لا إله”، فلابد من مواصلة النقل السليم “إلاّ الله” حتى يستقيم الخبر ونشره ويتحقق هدف الإعلام والإعلامي، ويقدم المصنِّف مثالا على الإستقطاع: (لو قال: إنَّ الحزب الفلاني عميل إذا قَبِل بوصاية الدولة الفلانية، فجاء الإعلام وذكر الجزء الأول من الجملة، وقال: إنَّ الحزب الفلاني عميل)، فهنا يقع الظلم والظلامة.

رابعا: أنْ لا يوجب الفتنة.

وهذا الأمر على غاية من الخطورة، لأن الفتن في كثير منها اندلعت بشرارة إعلام كاذب أو مغرض، وسكب الإعلام الزيت على حطب الفتنة النائمة، ولهذا: (إذا تحدث الإعلام عن أمر يوجب فتنة بين شريحة وأخرى، أو طائفة وثانية، أو حرب وصراع بين دولتين فإنَّ ذلك محرّم حتى وإن كان بين عدوين إلا في حالة الحرب، شرط أن تكون المادة الإعلامية حقيقة واقعة)، إذاً: (الفتنة سواء كانت اجتماعية أو عقائدية أو سياسية بحد ذاتها محرمة، فإذا جاء الإعلام لتحريض مثل هذه الفتن فإنه محرّم) وبناءً عليه كما يضيف الفقيه الغديري في تعليقه: “يحق للحاكم الشرعي إصدار الحكم بالعقاب حسب المورد وآثاره”.

خامسا: أن لا تنطبق عليه شرائط الغيبة.

بوصف الغيبة من المحرمات، وهي عند الفقيه الكرباسي: (لا تختص بالحديث الثنائي بل تتحقق بالبث الإعلامي وعبر الوسائل المقروءة والمرئية والصوتية، فإذا اجتمعت شرائط الغيبة كانت غيبة وحرمتها تكون مضاعفة)، وبالطبع كما يعلق الشيخ الغديري: “لا يشمل الحكم لمن تحققت فيه شروط جواز غيبته كما هو الحال في المُعلن بالفِسق”.

سادسا: أن لا يهتك حرمة من له حرمة.

ولأنَّ المرء من ذكر أو أنثى إنسان محترم له حرمة وشخصية، فإن شأنيته مصانة ومقدسة، وهتكها إعلاميا من المحرمات، كما: (لا يختص هتك الحرمة بالأحياء بل يشمل الأموات)، وإذا كان الحي له أن يتقدم للقضاء بالضد ممن هتك حرمته، فإن الغديري يفيدنا في تعليقته بما يتعلق بالميت: “للورثة حق الرجوع إلى الحاكم الشرعي للقضاء”.

سابعا: أن لا يكشف سراً يجب حفظه.

وهذه نقطة ذات أهمية قصوى لا يدرك خطورتها بعض من يشتغل في الإعلام، فربما ساقه تهوره تحت مدعى السبق الصحفي إلى كشف أسرار الدولة وتعريض البلد للخطر، أو نشر أسرار على مستوى شخص أو مجموعة أشخاص، نعم يتحقق السبق الصحفي البناء إذا كان في كشف الأسرار فائدة للبلد وتعرية الفاسدين، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي: (الأسرار السياسية إذا كان في التحفظ عليها خيانة للوطن والعقيدة، فلا يحرم نشرها بل يجب كشفها).

ثامنا: أن لا يوجب إسقاط حق وضياعه.

لأن من أهداف الإعلام الهادف إعادة الحق إلى نصابه وأصحابه، فلا يمكن أن يكون الإعلامي مؤذيا وإلا أثم وضمن تبعات فعله والضرر الواقع على الغير.

تاسعا: أن لا يوجب تشجيعاً على ما هو محرّم شرعاً.

وهذا الأمر مما تسالم عليه العاملون في هذا المجال على وجه الخصوص، فالديني ينظر إلى المسألة من الناحية الدينية والأخلاقية فيذهب إلى التحريم، ومن لا يعتقد بدين تسوقه الفطرة إلى رفضها أخلاقيا ومهنياً، ولذلك: (كل ما فيه فساد أخلاقي من الصور أو المقالات فإشاعتها ونشرها محرمة).

عاشراً: أن لا يوجب خيانة الوطن.

وبتعبير آخر أن لا يكون طابوراً خامساً لمن يتربص بالوطن الدوائر، وأن لا يكون ببغاءً يردد ما يريده العدو، ومثال ذلك كما يفيدنا الكرباسي: (نشر بيانات الإرهابيين والتكفيريين على الشاشات المرئية وإذاعتها من خلال المذياع لا يجوز، إلا إذا كان لأجل محاربتهم ودحض آرائهم).

وأخيرا وليس آخرا: أن لا يوجب تجاوزاً على القوانين المرعية والشروط المتفق عليها.

وذلك من باب “الناس عند شروطهم” وبخاصة الشروط المتسالم على صحتها وسلامتها، ولهذا: (لابد أن يلتزم الموظف في المؤسسات الإعلامية بالشروط المتفق عليها كما هو الحال في سائر التعاقدات).

إضاءات إعلامية

تمثل الأحكام والمسائل الشرعية الخاصة بالإعلام والعاملين في هذا الحقل الحساس، إضاءات وإرشادات ومحددات تحول دون الوقوع في الخطأ أو الخطل، لأن الإعلام كما هو سلاح ذو حدين فهو متشعب ومتداخل مع المال والقوة المتمثلتين برجال المال ورجال السياسة، وقد ثبت بالممارسة العملية أن

بريق المال يحرف الإعلام عن مساره الصحيح كما تدجن السلطة السياسية الإعلامي فيصبح أداة طيعة بيدها تدغدغ مشاعره بمنحة أو جائزة أو بعثة سفر وما شابه.

مثلث الإعلام والسياسة والإقتصاد، عند الفقيه الكرباسي: (في عالم اليوم هو قطعة كريستال ثلاثي الأضلاع يتلون كل ضلع منه بلون من هذه الألوان الثلاثة)، فالسياسي يستغل الإعلام لمصالحه ورجل الإعمال يستفيد من كليهما في تمرير مشاريعه، ويتحول الإعلامي الذي رضي بفتات المال على حساب شرف المهنة إلى حمار يحمل أسفار مهنته دون أن يعي خطورة فعله، من هنا يؤكد الفقيه الكرباسي أنه: (لا يجوز أن يُستغل الإعلام كوسيلة حكومية في صالح الرؤساء وأنصارهم، بل هو لكل الوطن والمواطنين، فلابد أن يكون في مصلحة الوطن والمواطنين).

ولا يفهم من ذلك الفوضى وترك الحبل على غاربه، إذ: (لا إشكال في تنظيم الإعلام من قبل السلطة الحاكمة ووضع رُخَص لذلك بغرض ضبط الأمور والإلتزام بقوانين الإعلام الذي يكون في خدمة الشعوب ومصالح الوطن والعقيدة).

كما لا يفهم من الحرية الإعلامية أن يصول الإعلامي ويجول دون وازع ذاتي أو رقيب موضوعي، فحرية التعبير محترمة ومقدسَّة ولكن: (حرية التعبير مقيَّدة بعدم إهانة من له حرمة أو الإضرار بالغير، أو الفساد والفتنة، وإلا حرم وعوقب)، وقد يرى البعض أن له الحصانة في قول ما يشاء أو عرض ما يرغب عرضه حتى وإن قفز على المسلمات، وهذا من الفوضى، إذ: (ليس لأحد من الإعلاميين الحصانة، وكل مَن خالف القوانين يُحاسب ويُعاقب مهما كانت مرتبته)، كما: (لا يجوز نشر أسرار الناس من خلال وسائل الإعلام بإسم حرية التعبير والسبق الصحفي).

في إعتقادي ومن خلال إشتغالي بالحقل الإعلامي منذ نعومة أظفاري وحتى اليوم، أن الإعلامي له أن يتماثل مع الإنبياء ورسالتهم فيكون أداة بناء وترتيب، وله أن يستجيب لدواعي الشيطان فيكون أداة هدم وتخريب، ولهذا كان الإعلام مهنة متعبة ذات أحمال ثقيلة، وليس مهنة لمن لا مهنة له كما هو السائد اليوم في بعض البلدان المنفلتة سياسيا، نجى من نجا وهوى من هوى، والعاقبة للذين تركوا ذكراً طيبا واستخدموا منصة الإعلام لخير البلاد والعباد.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here