تغريبة رواية (مصحة الوادي) ورمزيتها

تغريبة رواية (مصحة الوادي) ورمزيتها

رنا صباح خليل

يتخذ الروائي اسماعيل سكران في روايته الصادرة عام 2020 عن دار ومكتبة عدنان للنشر اسلوبا يخالف فيه الواقع عن طريق اعتماد مصحة للامراض العقلية رمزا لإسقاطاته على الحاضر، لنجد اختلاط اسئلة اللامنطقبأسئلة الادراك، في حالة تتصدى لاوجاع العالم المتخيل الذي تناقشه عبر شخصيات جُمعت بشكل غريب لتشكل زعامة حكم وانظمة دولة في جزيرة خصصت لمجانين تقع على نهر دجلة وهي على خارطة العالم قد تكون اصغر من الفاتيكان، يسكنها مرضى المصحة الذين تداخلت لديهم حدود المعقول واللامعقول والتبس لديهم الخيال بالواقع فجميعهم يعانون من اضطرابات نفسية وامراض عقلية وقد توفرت لهم الفرص كي يزدادوا عددا ويرسخوا فكرا مريضا موهوما تكوّن بغياب الرقابة للسلطة المحلية في البلد، ومالايخفى على القارىء الفطن تلك الفكرة المتوارية خلف معطيات هذا الوجود المؤسس ضمنا لأعطاب المجتمع العراقي بافراده وهم يعانون مرارة التخدير والتهميش الذهني الذي كبلهم وقدمهم لقمة سائغة لمن هم اشد مرضا منهم ليحكموهم في فترة ما بعد سقوط النظام الدكتاتوريفي العراق، على الرغم من ان الروائي لم يحدد البعد الزمني لما يرويه وكأنما يريد القول ان الحالة النفسية المأزومة باتت ملازمة للفرد العراقي في كل مراحله ومتغيراته فهو يذكر احدى العقوبات التي كانت ملازمة للنظامالسابق في الفكر الجمعي العراقي حين يمر نائب الرئيس وهو(بكر) على نقطة حرس فيقول: ” لا اشعر بالاطمئنان إلا بعد ان امر على آخر نقطة حرس واذا ما اكتشفت أن احدهم ينام اثناء الواجب، اعاقبه (زيان صفر) وسجن ثلاثة أيام ” وتلك افرازات متراكمة اراد اظهارها الروائي كي تفضي الى إدانة للنظام السياسي السابق وتؤسس لإدانة متجددة نتلمسها في محاولات فضح المؤلف وافصاحه عن سلطات العراق الجديد وذلك عن طريق تكريس الصراع بين شخصين لإدارة دفة الحكم لينتج عن ذلك الصراع جثث وجوع وحرمان ويتم واطماع طالت ابسط احتيجات المرضى وهو الدواء وانتهكت اولى مسببات الحياة لديهم بجعلهم نيام دائما وفي حالة خدر .

بسط هيكلة الروي

في رواية (مصحة الوادي) لا حوار يجمع بين الشخصيات فالروائي غالبا ما يدعهم يتكلمون(يهذون) بينما هو ينصت لعذاباتهم، ذلك ان الصورة ورمزيتها وهي تكتنف كل مشهد تمثل الحجر الاساس في بنائه الروائي وتأخذ مكانها بشكل مريح ومنظم يتناوبه اربعة اشخاص (بكر) وزوجته اسيل و(نوح) وزوجته جين وهؤلاء الاربعة يمثلون نشوء المؤسسة الاولى لذلك التكوين الشاذ وهم يتبنون الحديث عن انفسهم وحياتهم وما يعانونه من اسقام وحالات نفسية فيما عدا بكر الذي يشارك الراوي في سرد الاحداث ليكون راويا مشاركا ومهما في الرواية ولغرض اضفاء لا مشروعية لهذا الوجود الذي سيحكم امره الى تكوين دولة فيما بعد فقد رسم الروائي خارطة عملية لتشويهه لذلك العالم بأن جعل التناسل يتم من دون ضوابط وجعل الزيجات لا تحتكم لاشتراطات وهو تباعا روج لحالة الفوضى والاطماع اللتان يستأثران بهما بكر ونوح ومن ذلك سرقة حبوب الترامادول والانسولين وبيعهما عن طريق التهريب والمتاجرة بالاجساد وبذلك كشفت لنا الرواية عن ممارسات سلطوية مريعة تضمنت القتل والاغتصاب والغلو في المتعة لمن بيدهم مقدرات مادية استطاعوا مصادرتها من ناسها الحقيقيين كي يعيثوا في ملذاتهم وهوسهم للجنس والابتذال وغير ذلك الكثير الذي تطرحه الرواية من تكوين ميليشيات تابعة للرئيس ووجود ملاهٍ ومواخير تعمل بشكلٍ متواصل تحت اشرافه وجميعها مظاهر تصور لنا يوميات مصحة تحولت الى دويلة اتخذت من العتمة طابعا تلون فيه الحياة ليتحول ساكنوها الى اشباح او مسوخ آدمية تمارس موتها اليومي من دون المطالبة بحقوقها .

ان الوظيفة الادائية فيما يتعلق بمسألة الكشف عن الفكرة المختزلة في بواطن المعنى بالنسبة للروائي تتمثل في الرواية بامكانية الروائي على ضخ الرمزية كأسلوب بناء يكشف عن طريقه الرؤى والافكار وكيفية تجسيدها في النص وخلق الإيحاء القادر على توفير امكانية التأويل بما يخدم مرجعياته وبنائه الفني على وفق ثنائيات التضاد(التعقل والجنون) (التسلط والخضوع) (الدولة والفوضى)وخلال عرضه لتلك الثنائيات نجح في نقل ذلك الزخم الدلالي واستثمار الشحنات الانفعالية من مصادره المخيالية التي يتجسدحضورها في الرواية حين تتدخل السلطات المحلية للبلد بعد ان يتأزم الصراع على السلطة ويصل حدا يهدد بالخطر فتتخذ عدة اجراءات يتم بعدها تقديم تقرير من قبل مدير المصحة يشرح فيه الاسباب والمسببات التي ادت لهذا الوضع وتلك المآسي، وفي مفارقة لا يمكن اغفال صراحتها في الادلاء الرمزي يقوم بها الراوي عن طريق ذلك المدير الذي يعيّن مريضا آخر لتوزيع الحصص الدوائية على المرضى ويجعله قيّما على احتياجاتهم ومسؤولا عن شؤونهم وبتكرار الخطأ نفسه في المصحة تشخص لدينا اشارات تنماز باختيار المعلومة القاطعة التي هي أحادية المعنى وغير قابلة لاحتمال معنى آخر للتأويل لها مما يؤكد الرغبة في تجسيد فكرة الرواية التي تريد القول ان البلد ابتلي بمن هم ليسوا مؤهلين لحكمه على مدار ازمانه التي تطال حتى طوالع المستقبل ويتم ذلك عندما يجتاح ذلك المريض المنتخب الحلم باستعادة امجاد القصر الرئاسي والجواري والزعامة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here