العيد في الكريعات

*العيد في الكريعات*

في منطقة الكريعات، تلك الجنة الأرضية المحفورة في ذاكرتنا والتي تجري في أوردة وشرايين قلوبنا والتي لاتزال تحتفظ لحدّ اليوم بجزءٍ كبيرٍ من موروثها الشعبيّ العراقيّ الأصيل والجميل معاً.
ونحن نحيا على باب انتهاء شهر رمضان الكريم أستحضر ذكريات توديع الشهر الفضيل في تلك المنطقة الأثيرة، حيث كنا نودّع شهرَ الصوم والطاعة والغفران بالتحضيرات التي نقوم بها لاستقبال عيد الفطر المبارك، إذ في ليلة السابع والعشرين منه تلتئم الناس في حسينية الجوادين مركز تجمّع الكريعاويين لأنها كانت الحسينية الوحيدة الموجودة في الكريعات، فيتجمّع فيها أهالي الزوية والعلومية وبيت حَمّد وبيت درويش، ويحيون تلك الليلة بقراءة القرآن الكريم وتلاوة الأدعية حتّى أذان الفجر، ثمّ يقوم المرحوم (مهدي القصاب ) برفع أذان الفجر، وبعد الأذان يصيح بصوته الرخيم العذب منادياً: الوداع ، الوداع ، ياشهرَ رمضان الوداع، ثمّ يلقي السيد المرحوم أحمد رضا الهندي، كلمةً بعد صلاة الفجر ويتفرّق الناس الى بيوتهم .
ولازلت أذكر تلك الفترة الجميلة وكأنني أرى وجوَه آبائنا الطيبين وكيف كانوا متجمعين متحابين متفقين فيما بينهم، ويقوم كعادته اليوميه طيلة شهر رمضان المبارك المرحوم عبد جاووش والمرحوم عامر لفته في الكريعات، وحسن باشا وأولاده في الزوية بعملهم المعتاد بالضرب على الطبول لكي يصحو الناس للسحور وهم ينادون في مثل تلك الأيام الأخيرة من رمضان: الوداع ، الوداع ياشهر رمضان الوداع، ثم تستعد الناس لاستقبال العيد السعيد، ويسمّى العيد الصغير أو عيد الفطر، وفي بداية شهر رمضان تشتري العوائل لأولادها القماش ويذهبون به الى الخياطة لكي تنتهي من خياطة دشاديشهم قبل صباح يوم العيد، وعادةً كان القماش من نوع (المقلّم) البازة في الشتاء والقماش الأبيض الخفيف في الصيف، وكانت المرحومة الحاجة (فضيلة بنت الحاج جواد) هي الخياطة المشهورة والمعروفة في الكريعات، عندما كانت تأخذنا المرحومة والدتي إلى بيت الخياطة لأخذ القياس كنا نلعب في بيت الحاج جواد ونفرح ونمرح في ذلك البيت الكبير المطلّ على نهر دجلة، ولازلت أتذكر المرحومة (الحاجه فضيلة) الخياطة تلك الإنسانة الطاهرة العفيفة ذات الأخلاق العالية والنسب والحسب الطيب وهي ترحّب بنا وتقدم لنا كل مامتوفّر لديها للضيافة، ثم تقوم العوائل بعمل (الكليجه) بحيث تتجمّع كلّ ثلاث عوائل أو أكثر لعملها وإنضاجها في الفرن وبعدها توزّع بينهم.
أمّا قبل حلول العيد كان آباؤنا يذهبون بنا إلى (الحلاق) لكي يحلق شعرَ رأسنا لنبدو بهيئة جديدة، وكان في الكريعات عددٌ قليل جدّاً من الحلاقين منهم المرحوم الشهيد ناجي الحلاق والمرحوم محمد المزين والمرحوم عبد الكريم عطية الهوان، وفي الزوية كان الحلاق المرحوم كاظم عباس أحمد الملقب (كظوم) والمرحوم الحاج مكي عباس عزيزة، ولم يكن غيرهم حلاق في تلك الفترة المحصورة بين الستينيات وبداية السبعينيات، وأعتقد في بداية السبعينيات تم فتح محل حلاقة في الزوية وفي محلة بيت (الحاج سعيّد) من قبل الحاج ابراهيم الحاج مهدي ، وقسم من الناس يذهبون إلى الكاظمية او الاعظميه لاختيار الحلاق الذي يحلق لهم شَعرَهم، ثم تستعد الناس لرؤية هلال العيد فيشكّلون مجاميع في كل حارة من حارات الكريعات شاخصين بأبصارهم إلى السماء لمشاهدة الهلال فيتجمع الأهالي في مقهى عباس مهدي الدروش وبأعداد كبيرة وهم يحملون أسلحتهم النارية إذ حالَ إعلان رؤية الهلال يأخذ المسلحون بإطلاق العيارات النارية من أسلحتهم كنوع من الابتهاج برؤية هلال العيد، ثم يذهب من شاهدَ الهلال إلى حسينية الجوادين ويقسم بكلام الله على رؤيته للهلال أمام جمع من الناس وبحضور السيد المرحوم أحمد رضا الهندي، حيث يتصل بالنجف وبالمرجع لكي يخبره برؤية الهلال، بعدها يقرّر المَراجع يومَ ابتداء العيد، ومازلت أتذكّر الأشخاصَ الذين كانوا ممن يستطيعون مشاهدة هلال العيد في كلّ عام، وهم كلّ من المرحوم حسين هادي عراو والمرحوم الحاج فاضل وادي (الملقب فاضل حليمة) والمرحوم ناجي هادي عراو والمرحوم جواد كاظم الحمود والحاج فاضل كاظم عبد (الملقب لاله) والحاج كريم مهدي حمد (الملقب كريم طليعة) والحاج جاسم ياس والمرحوم الحاج حمود حجي عباس أحمد وغيرهم كثراً لاتحضرني أسماؤهم، ثم يتقرّر يوم العيد، حيث نصحوا مبكّرين ونذهب بمعية أهلنا إلى حسينية الجوادين لأداء صلاة العيد خلف السيد المرحوم رضا الهندي، حيث يلقي السيد خطبة العيد. ويدعوالناس لكي تتعانق فيما بينهم للمعايدة ويتم إجراء الصلح بين المتخاصمين إن كان هناك متخاصمون في تلك الفترة الجميلة التي لن تنسى ولن تتكرر، ثم يقوم كل من المرحوم عبد الأمير جعويل ، والمرحوم عبد طنبيل ، والمرحوم الحاج عيد ، والمرحوم حسين الصالح ، والمرحوم عبد الكريم عبيد بتوزيع الحلويات والتمورعلى الحاضرين، لنبدأ بعدها بزيارة العوائل التي فقدت عزيزاً عليها خلال العام بمعية السيد الهندي ويتم مواساتهم والتخفيف عليهم وتقديم العيديات لأولادهم والهديا، وهذه من العادات السائدة في الكريعات والتي لن أنساها ماحييت.
ومما اتذكره من تلك الأيام كان هناك رجل كفيف البصر يلقبونه (ملا عبود الأعمى) وزوجته (تفاحة) تقوده من عصا كان يحملها حيث كان يقف في باب حسينية الجوادين وهو ينادي بأعلى صوته: (عيدكم مبارك يا أمة محمد) والناس تكرمه، ثم يدور على أحياء الكريعات لمعايدة الناس ، كما كان هناك رجل يدعى ( محمد حاح ) سكن في بيت الحاج علي ، حيث كان يعمل في تصليح الاحذيه ويلقبونه في تلك الفتره ( الركاع ) حيث تقوم الناس بتصليح احذيتها وصبغها قبل العيد ،
وهناك الكثير ممّن يذهب إلى كربلاء والنجف حيث تقف سيارات الباص الخشبية في (الفلكه) والمملوكة للمرحوم صالح معصومة ، والمرحوم خضير صبرية ، وشقيقة حسن صبرية ، والحاج فيصل الحاج مهدي ، والحاج مالك من بيت درويش والمرحوم جميل كريم العبود ، والحاج جاسم ياس ، فتذهب الناس إلى الزيارة إوإلى قبر الصحابي سلمان المحمدي (سلمان باك) أو إلى السيد محمد ابن الإمام الهادي (ع) في بلد إوإلى سامراء لزيارة مرقدَي الإمامَين العسكريَّين عليهما السلام، حيث كانت تتجمع كلّ عدّة عوائل وتتفق على الوجهة التي يذهبون اليها، فسيارات الباص الخشبية الجميلة والمزينة بالصور والمناظر الخلابة والمقاعد الخشبية والتي كانت في الكريعات وتعمل بشكل منظم مابين الكريعات والباب المعظم وبمبلغ خمسة وعشرون فلساً فقط بعد أن كانت بعشرة فلوس، لنعود بعدها إلى بيوت أهالينا وأقاربنا وبيوت أجدادنا ومن هم قريبون منا حيث نجمع العيدية التي يهدونها لنا وبعدها نذهب إلى الكاظميه للزيارة ثم نتجمع مجاميع مجاميع من أترابنا ونذهب إلى سينما الأعظمية لمشاهدة أفلام العيد المميزة ثم إلى الملاعيب ودواليب الهوا، وهكذا الحال إلى أن ينتهي العيد.
تجدر الإشارة إلى أنه في أوّل يوم العيد ومنذ الصباح الباكر يقوم المرحوم حسن حسون خضير (الملقب بالباشا) بمعايدة الناس وهو يدور بين الأحياء الكريعاوية والناس تمنحه الهدايا جراء تعبه طيلة أيام رمضان وقيامه بالمناداة عليهم إلى تناول طعام السحورحيث كان يلقب ببيت ابو (الدمّام) ولايزال أولاده وأحفاده يقومون بنفس المهمة الإنسانية بالوراثة.
هكذا وببساطة كانت الناس على فطرتها تعيش عيشة الرضا التي لاتضاهيها عيشة الملوك، بساطةً ومحبةً وعلاقاتٍ شريفة بين الناس مبنية على تجنّب (العيب) ووضع الخجل نصبَ العين وسلوك نهج التسامح والتعاون.
الكريعات كانت مشهورة بتكافلها الاجتماعي ولا زالت وستبقى كذلك لأن أهلها الطيبين ينحدرون من عوائل شريفة وأصيلة متعاونة فيما بينها، وحتّى في أيّام المدّ الطائفي حافظوا على سكنة المنطقة من أهل السُنّة دون أن تُسال قطرة دم واحدة ، وقاموا بحمايتهم من الطارئين ،
الكريعات منطقة مميزة في كل شيء.. في موقعها وأهلها وعشيرتها ورجالها وشبابها ونسائها العفيفات كما في عاداتها وتقاليدها، إنها منطقتي وسأبقى أفتخر بها أينما حلّ بيَ الدهر لأنها الكريعات التي ربّتني على العفّة والعلوّ والترفّع عن المباذل، كلّ عام وانتم بخير، وعيد سعيد ومبارك عليكم، وأسأل الله العليَّ القدير أن يرحم كلّ أمواتنا وأموات المسلمين اجمعين ومن مات على الإيمان ببركة الصلاة على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين …. وكل عام والعراق بألف خير ……

جبر شلال الجبوري

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here