السياسات العامة

السياسات العامة
د. ماجد احمد الزاملي
أسباب المشاكل العامة غالبا ما تكون متنوعة ومتعددة وان بعض السياسات تتطرق لواحد او لعدد من هذه الاسباب وتغفل عن الاخرى.فبرنامج التدريب على العمل يساعد الذين لايعملون لصقل مهارتهم,لكنه لايساعد الذين لهم هدف وينقصهم الحافز,والتضخم وارتفاع الاسعار قد تكون له اسباب متعددة فالتعامل مع الظاهرة من خلال السياسة النقدية التي تتحكم بعرض النقود لايكفي لمعالجتها.وللسياسات أحيانا أهداف غير متماثلة وربما متعارضة مما يجعل تحقيقها معا أمرا متعذرا.وحلول بعض المشاكل قد تتضمن تكاليف باهضة تفوق المشاكل.فالجرائم التي تحدث في الشوارع قد تختفي لو اننا على استعداد لدفع الثمن المتمثل في سهر الشرطة وضبط الافراد,لكن الثمن الذي يدفعه الافراد لمعالجة المشكلة هو أكبر من النفع المتحقق وهو حرية الافراد,كذلك حماية البيئة من التلوث تكاليفه عالية كثيرة وغير ذلك.وحين تعالج بعض المشاكل العامة بصفة كلية فإن عددا اخر منها قد تعالج بصفة جزئية أو تبقى بدون علاج.فبرنامج تقليل ألإصابات بالامراض لايمنع ألإصابات بها كليا وبرنامج الحد من الاسعار لايمنع تصاعدها كليا وهكذا بالنسبة لبقيت المشاكل. وللقيادة السياسية دور مهم في إعداد جداول اعمال السياسة,فالقادة يسهمون بدافع تحقيق الكسب السياسي,او بدافع تحقيق الصالح العام,أو بهما معا في بلورة المطالب وابراز المشاكل وتوضيح اثارها واقتراح الحلول لها .ويأتي رئيس السلطة التنفيذية في مقدمة القادة عند اعداد جداول اعمال السياسة .وهناك قضايا تفرض نفسها على جدول الاعمال بحكم الخطر او الضرر الذي تحمله,وتضطر المسؤولين على معالجتها,كحوادث الكوارث الطبيعية فان هكذا احداث سرعان ما تنتشر وتجسد من قبل المتضررين فتجد تأييد العامة فتقدم على غيرها.ولذلك يلاحظ ان بعض القضايا قد تدرس وتناقش ويدور حولها الجدل لكنها تبقى بدون علاج او سياسة الى ان يحدث مايحركها بقوة او يجعلها ملحة .ونشاطات المعارضة بما فيها العنف قد تكون أحد الوسائل التي تصل المطالب من خلالها الى متخذي السياسات او تدخلها في جداول الاعمال.فمثلا التظاهرات فان جهود المتظاهرين تسهم في ازالة اليأس من النفوس وتعطي دفعة قوية للمواطنين في رفع اصواتهم لطلب النجدة والإنقاذ مما هم فيه وليس فقط لإثارة الانتباه حول قضاياهم.وهدفنا هنا إيضاح الطرق التي تصل عن طريقها المشاكل لجدول الاعمال باعتبار هذه المرحلة تعد واحدة في عملية صنع السياسات العامة,والبدائل التي سيتم طرحها لاتتضمن جميع البدائل بافتراض معرفتها,كما ان بعضا من المشاكل العامة لايحدث ان تصل إطلاقا إلى جدول الاعمال ,فمتخذوا السياسات العامة يجدون أنفسهم مجبرين لتناول بعض المشكلات العامة.وفي مثل هذا النوع من التردد فإن مصطلح اللاقرار يبدو الاداة التفسيرية والتحليلية المناسبة.
القرارات السياسية تتخذ من قبل البرلمانيين وبقية السلطات ألإدارية ,وفي ظل ظروف يكون فيها الرأي العام قليل ألخبرة والمعرفة بموضوعاتها, وأقل فهما لإدراك نتائج القرار.ومع ذلك فإن الحدود العامة والاتجاهات الكبيرة لاغلب السياسات توجه من خلال الرأي العام.وباختصار فإن متخذي القرارات لايمكنهم أن يتجاهلوا الرأي العام في إختياراتهم ,والعلاقة بين الرأي العام وصنع السياسة ليست سهلة ومباشرة والموظف الحكومي المنتخب الذي يتجاهل كليا الرأي العام ولايحسب له حسابا في مواقفه وفي تصويته عند الاقتراع ,قد يعد ساذجا وسرعان ما يجد نفسه خارج اللعبة. تتضمن قرارات السياسة العامة عملا يصدر من بعض الرسميين أو الهيئات لتصادق أو لتعدل أو لترفض ,والشكل ألإيجابي للقرارات يتمثل في شكل تشريع , أو امر إداري.ومع ان الافراد والاهالي والمنظمات الخاصة يشاركون في صنع قرارات السياسات العامة فإن السلطة الرسمية لحسم الامر يبقى بيد الرسميين من نواب الشعب أو التنفيذيين والإداريين أو القضاة والحكام. وفي الانظمة الديمقراطية تعتبر المجالس البرلمانية وحدها المخولة بذلك لكونها منتخبة من الجماهير وهي الممثل الشرعي لها. تختلف النظم الادارية في العالم من حيث الحجم ودرجة التعقيد والهرمية ونطاق ألإشراف ودرجة ألإستقلالية وذلك لانها تستخدم كأجهزة رقابة على عملية تنفيذ السياسات العامة,وتعتبر المنظمات البيروقراطية مصدرا مهما للمقترحات والمشروعات الاولية للعديد من السياسات التي تقوم عليها النظم السياسية في امريكا وانكلترا, ولاتكتفي هذه المنظمات بمجرد تقديم المقترحات بل تحرص على كسب التأييد عبر القنوات الرسمية للتصديق عليها. ان تعاظم دور الحكومات في حياة المواطنين وفشل او رفض الاجهزة التشريعية والتنفيذية في معالجة العديد من المشاكل,ورغبة القضاء للتدخل اما تلبية لرغبات الجمهور او حماية للمتضررين منهم,كل ذلك جعل دور الهيئات القضائية في السياسة العامة يتزايد تدريجيا ونتوقع سيبقى كذلك في المستقبل .والى جانب الجهات الرسمية التي تشارك في صنع السياسة العامة ,هناك مشاركون غير رسميين مثل الجماعات المصلحية والاحزاب السياسية والمواطنين .ويختلف دور جماعات الضغط من مجتمع الى اخر ومن حكومة الى اخرى ,وبشكل عام فان الجماعات المصلحية او الضاغطة فانها تساهم في بلورة المطالب وتجميعها وايصالها وطرح البدائل للسياسة العامة المتعلقة بها.وقد يزودون الموظفين بالمعلومات الواقعية عن موضوعاتهم خاصة حين تكون الموضوعات ذات طبيعة فنية,وبهذا فانهم يساهمون في ترشيد السياسة التي تتخذ.والجماعات المصلحية تمثل تنظيمات العمال والاعمال والزراعة وتعتبر هذه الجماعات مصدرا مهما لطرح القضايا في السياسة العامة خاصة في المجتمعات ذات التركيبة السكانية المعقدة ففي مثل هكذا مجتمعات تكون جماعات الضغط متنوعة كذلك في حجمها ومصالحها ووسائلها.
اما الاحزاب السياسية فتهتم بالدرجة الاولي بالانتخابات للسيطرة على المناصب الحكومية,فهي تهتم بالسلطة اكثر من اهتمامها بالسياسة العامة.والخلاف بين الاحزاب السياسية كثيرا مايتركز حول البرامج المتعلقة بالرفاهية وتشريعات العمل ومشروعات الطاقة والاسكان وتسعير المنتجات الزراعية.والعضوية في البرلمان تلعب دورا في تشريع السياسات العامة,لاسيما وان اعضاء البرلمان يصوتون تبعا لموقف احزابهم من السياسة وليس بصفتهم الشخصية,لذا فان الحزب الذي يسيطر على رئاسة البرلمان هو الذي يقرر السياسة العامة.لذا فان البلدان ذات الحزب الواحد في الحكم فان الاحزاب لاتلعب دورا يذكر في التصويت على القوانين ولايكون لهذه الاحزاب اي دور في تحديد وجهة السياسات العامة.اما في المجتمعات العصرية فتلعب الاحزاب الدور المبلور للمصالح الاجتماعية والمبرز للمطالب والاحتياجات لربطها ببدائل السياسة العامة والبرامج الملبية لها.وعادة تحاول الاحزاب السياسية في الساحة استقطاب اوسع الجماهير والشرائح فبرامج الاحزاب تتسع وتستجيب للمصالح العامة لاوسع قاعدة جماهيرية بدلا من ان توجه نحو مصالح الاقليات والجماعات الضاغطة. وعامة الشعب والرسميون لهم انطباعهم حول اثار السياسة العامة ونتائجها التي تجعلهم مناصرين أو معارضين لهذا البرنامج أو ذاك,أما السياسيون وأعضاء البرلمان فإنهم يتأثرون في تقيمهم لمحتوى البرامج ومضامينها لردود فعل مناطقهم وناخبيهم وما تتركه مواقفهم نحوها على إعادة انتخابهم.إن تعديل او المطالبة بتعديل السياسات العامة يعتمد على المهارة التي تدار بها هذه السياسات والثغرات والسلبيات التي تنجم عن تطبيقها والوعي أو النضج السياسي للفئات المستفيدة منها أو ذات العلاقة بها والعوائد المتحققة منها مقارنة بالكلفة المترتبة عليها وما يتوقع أن يتحقق منها مستقبلا.والكلف والعوائد التي تتعلق بالسياسات العامة قد تنظر يشمولية أو تؤخذ في إطارها الضيق.فبالنسبة لموضوع الضمان الاجتماعي مثلا فإن المنافع والتكاليف توزع بعمومية,أما المنافع والتكاليف في العلاقة بين منتجي النسيج مثلا ووكلاء البيع فتحلل وتحدد بالتفصيل,كما ان المنافع قد تكون مادية ومعنوية وهكذا يصبح موضوع الاستجابة للسياسات العامة مرتبطا بالطريقة التي توزع فيها المنافع والعوائد.
وبعض السياسات تبدو انها تحقق منافع لشرائح كبيرة وعديدة من المواطنين لكن عبأها ونفقاتها تقع على عاتق طبقة او فئة محدودة من المجتمع,مثل السيطرة على التلوث البيئي والسلامة على السيارات والتفتيش على الغذاء الفاسد والضوابط الموجهة للمرافق العامة.ان صنع السياسات العامة بشأن اغلب المشاكل وخاصة تلك الكبيرة والمهمة منها, تبقى مستمرة.فالسياسة العامة ما أن تقر وتعلن حتى تبدأ عملية تنفيذها ويتم تقيمها ثم تخضع للتعديل والتغيير لتحل محلها سياسة اخرى تطرح للنقاش وألإقرار ومن ثم التطبيق.ومن ثم يتبعها التقييم وهكذا تستمر العملية دون توقف.ان عمليات صنع السياسات العامة وصيغها في ظل الانظهة الديمقراطية ذات التعددية الحزبية تكون أصعب واكثر تعقيدا,فبالاضافة الى تعدد الجهات المشاركة في صنعها فان عواملا تفعل فعلها وتؤثر على المحتوى والمخرجات.ان تحليل صنع السياسات العامة يمكن ان يوفر الكثير من المعلومات والحقائق حول طبيعة النظام السياسي القائم والعمليات السياسية بشكل عام.وهي تساعد في تحويل انظارنا من الاهتمامات الضيقة والجزئية والظواهر المستقلة مثل سلوك الناخبين والاتجاهات السياسية والتنشئة السياسية وغيرها الى دورها العام والشامل في العمليات الحكومية.
وعبء تأمين الاذعان للسياسات العامة يقع بشكل رئيسي على عاتق المنظمات الادارية,والغرض العام من نشاطات المنظمة الموجهة نحو تطبيق القوانين والسياسات,والتي تشمل الاقناع والتفتيش والمحاكم هي للحصول على الاذعان للسياسات وليس لمجرد فرض العقوبات على المخالفين.ان السلوك الواعي للإنسان يمكن ان يصدر اثر تحليل واختيار لبدائل متاحة تقرر ما فعله وما يراد تجنبه.وللحصول على نتائج مرضية يمكن للمنظمات ان تعمل بجدية من اجل تعزيز القيم التي توجه السلوك نحو صياغة البدائل,والتعليم والتنشئة والحوار هي النشاطات المتاحة لتحقيق ذلك.ان الادارات يمكنها تفسير السياسات وادارتها باساليب تصمم ابتداءا على الاذعان.وتشترك المنظمات الادارية عادة بالعديد من الجهود التعليمية والاعلامية التي تسعى من خلالها لإقناع الناس وحثهم على انماط السلوك القويم المذعن للقوانين والسياسات المقصودة.وكلما نجحت الادارات في هذا الاتجاه تمكنت من تقليل المخالفات والتحديات من قبل المواطنين.فحين تصدر لوائح جديدة بشأن الحد الادنى للاجور تبادر ادارة العمل بشرح اسباب ذلك وتوضح ألإيجابيات المترتبة عليها إسهاما منها في إقناع العمال وارباب العمل للإذعان لها.وتحاول الادارات ربط الاذعان بالقيم والمفاهيم والمصالح العامة وبقضايا الوطن والوطنية.وعلى صعيد تطبيق السياسات قد تلجأ الادارات الى اجراء بعض التعديلات أو تبني بعض الاجراءات لتساهم في تعزيز ألإذعان.والموظفون الاداريون قد يطورون خبراتهم وقدراتهم في إقناع الناس وجعلهم يذعنون للسياسات او يقللون من مخالفتهم لها,ويمكن فتح الحوار مع المعنيين بالقوانين لشرحها لهم او لتفسيرها بالطريقة التي تقربها الى اذهانهم وقناعاتهم. فالعقاب يرسي على اللجان الادارية بعد ان تعجز الوسائل الاجتماعية والنفسية وألإقناعية في تحقيق الطاعة وألإذعان,والعقوبات هي أما جزائية او حرمانية لجعل التصرفات المخالفة للقوانين غير مشجعة وغير لائقة لان يتعاطاها الافراد ,فهي تعاقب المخالف الذي اقترف السلوك الخاطيء وتحذر من يفكر بالوقوع فيه,والعقوبات الشائعة تتمثل في الغرامات او السجن او التنبيه والانذار او الحرمان من المزايا ,ومخالفة السياسات الادارية غالبا ما يقترن بالعقوبات الادارية لكونها مرنة وتستلزم سرعة التنفيذ.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here