القدرة الذهنية .. بين العجز والقرار

القدرة الذهنية .. بين العجز والقرار

مهند الهلالي

يعتبر الكثير من المختصين في الشؤون النفسية والذهنية للانسان مخرجات العقل بأنها نتاج مجموعة من العوامل المتلاقحة في ما بينها التي تؤدي لاحقا الى بروز سلوكيات محددة، قد تكون ايجابية لصاحبها او سلبية اعتمادا على طبيعة تلك العوامل ومستوى تأثيرها في الشخص المعني.
ولكي نكون اكثر وضوحا وتخصصا في تبيين ما نصبو اليه، فأننا ارتأينا الخوض في مخرجات العقل تحديدا دون الخوض بجوانب ذات صلة بالعوامل التي تحدثنا عنها وطبيعتها والمسببات التي ادت اليها، تاركين تساؤلات كبيرة قد تحتاج الى بحوث كثيرة في هذا الصدد.
مما تقدم يمكن القول ان التصرفات الانسانية تختلف من شخص الى اخر ليس انطلاقا من مستوى اختلاف خلقي يتعلق بالعقل او الذكاء او قوة الشخصية او الذات الانسانية العليا، انما انطلاقا من ظروف حياتية مختلفة كانت سببا وراء بروز احد الجانبين السلبي او الايجابي للشخص المعني.
تلك التفسيرات التي تبين اختلافا واضحا في السلوكيات الانسانية ربما تقود القارئ الى تساؤلات عدة، من بينها كيف يمكن للانسان تفادي التأثيرات التي يمكن ان تحوله لاحقا الى شخصية سلبية او فاشلة؟، وهل يمكن التحكم بمسار تلك التأثيرات للدفع بإتجاه جعل هذا الشخص مفعما بالحيوية، وان يكون ناجحا مبدعا منتجا في حياته؟، الجواب لا يمكن ان يكون بالمطلق انما ضمن سياق النصح للمعني بهذا الموضوع، وان الاخير لا بد ان تكون لديه القدرة على اتخاذ قرار ما يغير حياته ويقودها الى احد الخيارين.
وتأكيدا على مفاهيم عقلية ثابتة لا يمكن تجاهلها، فأن الله جل وعلا حاضر في التوفيق ومعاينة عبده ومساعدته لما هو خير له في دنياه واخرته، غير ان هذا التوفيق الإلهي لا يأتي غالبا بقرار مفاجئ مخالف لقوانين الحياة، انما يأتي عبر اسباب سخّرها الباري تعالى للانسان لسلكها، اذا ما اراد هذا العبد يوما النجاح في مسيرته الدنيوية.
تلك الاسباب ربما تمثلها آلاف السلوكيات او القرارات الانسانية، كل حسب ظرفه الزماني والمكاني المحدد، وحتى نكون واضحين اكثر في ايصال ما نحاول ايصاله لا بد من القول إن الانسان خطّاء في طبيعته، غير انه قادر على تفادي الخطأ وعدم تفاعله ليأخذ مديات اكثر خطورة او ضررا على صاحبه، بمعنى ان وقوع الانسان في خطأ معين هو امر حتمي، غير ان الاستمرار به ليس حتميا، بل هو قرار ذاتي، وهنا تكمن آلية السيطرة على تفاعلات الحدث وتأثيراته في الانسان، فالسيطرة على هذا الحدث في بداياته يجعله -بعد الاتكال على الله تعالى- يتلاشى الى درجة عدم الوجود، في حين فسح المجال له بالاستمرار سيؤدي لاحقا الى خلق حالة ضغط كبيرة على العقل، قد تتسبب في مخرجات لا تحمد عقباها بحسب مستوى الحدث السلبي المتفاقم داخل مكنونات العقل.
ما تقدم يشير بما لا يقبل الشك الى ان الجانب المعاكس للتأثيرات السلبية ألا وهو الجانب الايجابي تمثله الجهة المقابلة لما تم التطرق اليه مسبقا، اي بمعنى ان يستثمر الانسان الجانب المشرق في حياته الذي يمثله الحدث الايجابي بتعزيزه والاستمرار به وتطويره، ليكون مبعثا لألق ونجاح، بينما تركه وجعله عابرا سيحد من مستوى تأثيره الايجابي والفائدة المرجوة منه لإحداث نقلة نوعية في حياة الانسان. هنا علينا التوقف لوهلة للتمعن في لحظة زمانية فارقة قد تغيّر مجرى حياة بكاملها، هذه اللحظة بذاتها ربما تكون خاضعة هي الاخرى الى تأثيرات خارجية وداخلية في حياة الانسان، بمعنى ان الشخص المعني اذا ما كان يعيش ظروفا حياتية مستقرة ربما يساهم ذلك في مساعدته على اتخاذ قرار صائب للحدث المشار اليه، انما في حال مواجهته ظروفا استثنائية غير مستقرة سيساهم ذلك وبقدر كبير في حدوث تشتت ذهني، يجعله عاجزا عن تصويب التصرفات الذاتية نحو الاتجاه المطلوب، وان هذه الظروف لا يمكن للانسان التحكم بها، غير انه قادر في الوقت ذاته على تحديد الظرف الزماني لاتخاذ القرار، وهذا ما نريد توضيحه تحديدا خلال ما اشرنا اليه سلفا.
فالانسان يمكن في لحظة ما تأجيل قراراته المصيرية او تلك التي يراها كبيرة بقدر يمكن من خلالها تغيير بوصلة حياته الى مرحلة زمنية اخرى، يكون عندها اكثر قدرة او جرأة على اتخاذ قرار صائب، او انتهاج سلوك معين يقوده نحو ما يصبو اليه.
ان المسؤولية الانسانية في الحفاظ على الاستقرار الذهني وما يقوده لاحقا الى استقرار اجتماعي، باعتبار ان الفرد اساس المجتمع يدفع بنا للتذكير بجانب على قدر كبير من الاهمية في موضوعنا الحالي، وهو ان المسؤولية المجتمعية العامة لا يمكن اغفال دورها في مساعدة من يرى نفسه عاجزا عن تجاوز مرحلة ظرفية استثنائية في حياته، لان العجز الذاتي بالاساس هو ناجم عن عجز مجتمعي كانت له تداعيات في تغيير مسار حياة الناس الذين يختلفون في طريقة استقبالهم وتعاطيهم مع هذا العجز، ما يولّد تناقضا في قراراتهم الذاتية التي ربما تكون غير منسجمة مع مصالحهم كما هو مطلوب.
المسؤولية المجتمعية لا تكون بالضرورة قيادة سياسية او دينية او قبلية، انما قد تكون جماهيرية شعبية، اي تمثل سلوكا عاما لجماعة تتشارك العيش في مجتمع ما.
هذه المسؤولية حث الله تعالى عباده المؤمنين عليها بوصفهم اخوة في الدين، وحث نبيّه الاكرم محمد عليه وعلى آله واصحابه المنتجبين افضل الصلاة والسلام للمؤمن على ان يحب الخير لاخيه كما يحب لنفسه، اي ان تكون هناك حياة تكافلية تكاملية بين شركاء المجتمع لخلق جو من الاستقرار والامن لدى افراده، وبالتالي فأن الفرد سيكون لديه مصدر الهام جماعي بدل ان يكون الاعتماد ذاتيا فقط، وفي حال تم ذلك ستتلاشى الضغوط الفردية مع تصاعد القرارات الصائبة للفرد والمجتمع، وهذا بدأنا نراه بعد الحرب العالمية الثانية في الدول الغربية اكثر من مجتمعاتنا المسلمة، وهذا لأمر يحزن عباد الله، كون ان المشروع اسلامي قبل ان يكون خاضعا لأية ثقافة اخرى خارجية، بينما نرى تطبيقه في مجتمعات اخرى ونحن عنه غافلون.
خلاصة القول ان النظر الى القدرة في تصويب القرارات والعمل على انضاجها هو مسؤولية فردية جماعية في ذات الوقت، اي في الوقت الذي نعمل على تطوير الذات الانسانية من منطلق شخصي، علينا التفكير في آلية مساعدة الاخرين على اتخاذ هذا القرار وتشجيع القيادات المجتمعية بمسمياتها المختلفة للمضي في هذا المشروع المقدس، الذي نعتقد انه ركن اساس من اركان مرضاة الله جل وعلا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here