المغرب للجزائريين حبيب / 38

المغرب للجزائريين حبيب / 38

بروكسيل : مصطفى منيغ

– وأخيراً استطاع الوالد أن يحضِركَ لدارنا بهذه المسرحية كما قلتَ أستاذي مصطفى لكنَّها مسرحية عائلية نبيلة دافِعُها محبَّتكَ القويَّة وهدفها اقامة ذاك الارتباط الذي ما بعده انفصام.

بهذا التوضيح للواقع المُباغت أشْهَرَت “زرقاء العينين” مَكْر امرأة تنوي لًفَّ حبل الطَّاعة على عنقي لتسوقني حيث تريد دون إفساح المجال لمقاومتي كانطلاق لاعلان المُرتَقَب من خصام ، لتضيف والدتها :

– مَرْحَباً بالغريب مثلي عن هذه الدّيار، لنقيم حِلفاً يقاوم انتساب ابنتي ووالدها لجذور هذه الأرض واسمها وجدة وما جاورها من كبريات خيام ، مرحباً بصاحب الكلمة المكتوبة في “الحدث” ليس لدغدغة المشاعر وإنما لتقليل نفوذ الأصنام ، بزرع الوعي في عقول تأخرت عنه فأصابها الرضوخ لانتظار ما لا تعرفُ عنه سوى قدرته على إخراجها ممَّا هي فيه من فقر فكريّ مفروض عليها دون قدرتها على مقاومة من دسَّ حول محيطها الألغام .

وأخيراً يسمعني ربّ تلك الأسرة صوته حيث بلغنا الحجرة المعدة لتناول الطَّعام:

– ابنتي عرَّفتني عليكَ بما جعلني اهتم بالتفكير في وضعيتك الصعبة التي وإن كنت لا تدري ما ينتظرك وسطها لحسن نيتك وعدم خوفك وإقبالك على الحياة وكأنك شخص عادي لا أحد ينظر إليه نظرة اعجاب أو نظرة عتاب ، وأنت غير مبالي بما تتجوّل معهم دون أن تظن أنهم عصابة من ذئاب ، متى أرادوا مزَّقوك خلف أي باب ، فأردت أن أكون لك عوناً وأُظهِر لك ما قد يبدو لك مخفياً ، خاصة وابنتي أعزَّ ما لديّ في الوجود ، متعلِّقة صراحة بك ، مقبلة على أي مصيبة إن فقدتكَ ، لستُ ذاك الغبيّ الذي يرغم ابنته على القبول بما قد يختار لها بَعْلاً وليس لها الاّ الطاعة مُكْرَهَة ، بل من هؤلاء الذين استفادوا من تجربتهم الشخصيَّة كما وقع لي حينما طَلَبَ منّي الوالد أن التحق بالقرويين في فاس ، لأعود إليه عالِماً يفتخر بي وسط قبيلته ، التِّي علمتُ مؤخَّراً أن لك مع بعض وجهائها علاقة صداقة متينة ، في فاس بعد ثلاث سنوات تعرّفتُ على زوجتي التي تراها الآن على طبيعتها ، وكانت دارسة في آخر عهدها بالتخرج حاصلة على الإجازة في ألأدب باللغة العربية ، أبوها فعل معي ما أريد أن أفعله معك ، حينما أبلغته أنها تريدني زوجاً في الحلال ، لكن والدي البدويّ العَالم بأحوال التجارة في المواشي عارض بشدة ارتباطي بفاسية ، لأنها من طينة لا ولن تتلاءم مع المستقبل الذي يريدني فيه ممثِّله بكل ما تتطلبه البادية من عناصر اقامة مستمرة مستقرة ، ومنها امرأة من نفس التَّكوين العقلي وإلاَّ تبرأ مني ، ولولا الفكرة التي كانت صاحبتها الجالسة مقابلة لك ، لضاع منّي كل شيء ، تقضي الفكرة – القرار أن أتزوَّج بها سراً في فاس وأتركها مع أهلها إلى أن توفَّي والدي فأحضرتها كي لا تفارقني أبدا ، ولأجعل بين يديها ما أملك .

…مرت دقائق من الصمت بعد الانتهاء من الأكل والانتقال إلى حجرة أخري مهيأة لشرب القهوة (الموضوعة أوانيها الفخارية الملونة ببريق ذهب بالإضافة لصحون صينية الصنع المملوءة بأصناف من الحلوى التقليدية المتداولة في أرقى المخابز الفاسية والوجدية أيضا ) والاسترخاء علي أرائك تُنْسِبُ أصحابها لتلك العائلات الميسورة والمتعلِّمة ، المتشبّثة بالأصالة والمتصرفة بالمستورد من حضارة الغرب المتقدّم ، ممّا نقلَت مثل الحالة “زرقاء العينين” في خاطري إلى نقمة بدل نعمة ، وقد صدقَ حدسي حينما اعتراني مثل الدافع لأتجنَّب ما كنتُ أنوي التقرُّب إليه لأسبابٍ ظلّت مجهولة لغاية ظهور ما يُدخل السرور على نفسي . فقررت أن استمرَّ هادئا لبيبا في تدخلاتي بعيداً عما يحسبه الغير توترا صامتاً.

– سألتحق بفراشي إذ عليّ الاستيقاظ مبكراً ، أستاذ مصطفى أنتَ منذ اللحظة أحد أفراد هذه الأسرة ، أوصيك خيراً بابنتي ولا تفكِّر فالمكتوب على الجبين ستراه العين ، أترككَ بين يدي امرأة طيبة قدَّرتك بمثل ما قدَّرتَ به ابنتها ، لا تقلق من الغد الخير متوفِّر وفير، وابنتي لها مالي وما لأمّها ، ستفرِّجك على الطابق الثالث الذي جهزَّته ليكون لكَ كما أحبَّت ، انك رجل طيّب وشريف صاحب عزة نفس ، فأهلاً بك في بيتك مع أختكَ زوجتي وابنتي التي تُعزِّكَ وتفضِّلك حتى على نفسها ، والى الغد إنشاء الله . قال الأب وانصرف لينام .

– الظاهر أن الأستاذ مصطفى يتصنَّع ما يخفي به الكثير والكثير من كلام لم يألف اعتقاله في صدره ، ممَّا يتأكّد لي أنه متضايق من الكيفية التي دعوناه بها لنصارحه القول ، ونسمع منه الإجابة الصريحة حول موضوع فهم مكنونه من أسابيع عدّة . قالت “زَرْقاء العينين”.

– ما كان لنا أن نترككما تتقابلان في أمكنة مفتوحة على جميع الاحتمالات والأستاذ مصطفى يغامر بحياته وعملاء المخابرات الجزائرية يسعون لاختطافه أو اغتياله وأنت ابنتي الوحيدة بجانبه ، لذا أقنعتُ والدك ليقوم بما قام به . ومهما يكن نحن مغاربة وواجبنا أن نحمي مَن دافع عن الوطن الذي ننتسب إليه ، دفاع المُلقي بنفسه في قفص ليزدرده أسد متوحِّش ، ولولا ذكاءه الذي ترك للقفص مخرجاً يفرّ منه لكان الآن وسط أمعاء نظام تطحنه . لنضع ما سبق ونتّجه للحكمة في حديثنا نحصد مخرجاً لما زرعناه خيراً، وهذا يتوقَّف على كلمة نريد سماعها من الاستاذ مصطفى ، ننهي بها هذا الموضوع إذا لم ير في ذلك أي مانع . قالت والدتها.

– لساني عاجز عن شكر هذه العائلة المحترمة وعلى رأسها رجل حكيم جوهره معدن نادر في هذه الأيام ومظهره يتكيَّف مع الموجود بمنطق التجارة ، القائمة على الربح الذي لا توفِّره هنا لا ديمقراطية ولا حرية ولا حقوق إنسان ، بل معاملة تتوزع فيها نسبة على إرضاء مَن تتضمّنهم الكواليس ، المسبّبين لمن يفهم ولا يريد أن يفهم العديد من الكوابيس. وشكري موصول لعميدة هذا البيت الكريم التي لولاها لما احتضن مثل المباهج ولا تمكّن من جلب المتعطِّشين لنعيم استقرار آخره كأوله راحة بال واستبدال حال بأسعد مآل، ظننتُ لفترة أن جمال “زرقاء العينين” غير مكرَّر حتى كذَبت عيناي هذا الخبر ، برؤية هذه السيدة الوالدة تفوق جمال ابنتها بمراحل مضاف لها شيمة الكرم ، والانتساب لمنبع العِلم ورموزه من خيرة الأَعلام ، حيث الطموحات تتحقق عن أحلام ، تراود ألْبَاب محبي العيش الحلال في هدوء وسلام ، افتخار لي أن احظي بعطفها الذي ينتهي عند جوده أي كلام ، وليس لي ما أبادلها به غير التمسُّك نحوها بشديد احترام ، ومهما كنتُ لها في ذكرياتي أسمى مقام ، رجل متواضع كنتُ وسأبقى بلا ثراء سأكسبه لأني لا أطيق الحرام ، وكما الحب لا يُشترَى بالمال لا استطيع بيعه عن ضعف أو استسلام ، ما جرى بيني “وزرقاء العينين” لم يُشيّد عن أوهام ، وإن لم يتجاوز تبادل الاستلطاف عن بعد سيبقى محفورا في ذهني على مرِّ الأيام ، لا أريد أن أجعل منها ذرعاً يستقبلُ بدلاً من ضلوعي نبال الانتقام ، ولا أن تضْحَى بقلقها عنِّي إنسانة لا تعرف كيف تنام، الأفضل أن احرم نفسي من حبّها العظيم على أن اسبِّبَ لها ولو أدنى ألم ، ليس في الناس أمام اتخاذ قرار حاسم من هو هِرّ أو ضرغام ، لكن هناك العاقل الحكيم من القدر عليه حكم ، فَجَنّبَهُ الوقوع في ما كان سيسبِّبُه للآخرين مِن هَمٍّ وغَمٍ ، قادر على مواجهة مصيري وإلاَّ فقدتُ الأهمّ ، عزة نفسي وكرامة إرادتي وحياة أعيشها بلا رغبة ولا طعم ولا نَغَم ، لذا لهذا البيت وأهله له مني أطيب سلام.

ساد صمت رهيب على تلك الحجرة ، التي عرفت منذ دقائق معدودات فرحة عارمة، واتّجهتُ صوبَ الباب لأغادرَ المكان ، والفجر على وشك أن يُذَكّر الدنيا أن الظَّلامَ غير دائم والنُّور مثله ، على أن يجعل لهما النشور حداً لينتهي كل شيء في أقل من أي شيء ، يعادل ما بقي من ذاك الزمان ، وصلتُ لبيتي مشيا على قدماي ، ليحْضنَنِي سَرِيرَ غُرفتِي المتواضع القويّ بحرصه على تمتعي بحريتي كاملة.

استيقظت على رنين الهاتف وصوت الجزائرية تردّ على المكالمة ، دون أن أسأل علمتُ أنه عمر بلشهب يستعجل اتصالي به لتتمّة حوار البارحة حول موضوع البرنامج الموجَّه للجزائر ، وما هي إلا نصف ساعة حتى كنتُ في مكتبه طالباً منه أخذ الترتيبات اللازمة حتى لا يتسرَّب مثل الخبر لأي كان ، وأن يصغى إليَّ بكل قواه العقليّة :

– البرنامج عبارة عن شيخ جزائري ، مجاهد سابق في جبهة التحرير الوطني ، اسمه “عَمِّي صالح الجزائري” من مدينة “سْطِيفْ” الجزائرية ، تسلّلَ إلى وجدة معارضاً نظام الرئيس الهواري متوعداً إفشاء كل أسراره والتصرفات الدكتاتورية التي يسيِّر بها البلاد والعباد ، والأسباب الحقيقية التي دعته لمعاداة المملكة المغربية ، والجرائم البشعة التي نفذها في حق الذين قربوه إليهم وغدر بهم الواحد تلو الآخر ، وفي مقدّمتهم الرئيس المُطاح به بواسطة انقلاب ، وعشرات المسائل المشابهة المتجدِّدة المضامين مع كل حلقة جديدة، طبعا “عمي صالح” سيخاطب الشعب الجزائري بواسطة برنامج سمِّيه يا أستاذ عُمر ما شِئت من أسماء، ناطقٍ بلغتهم العامية الجزائية ، المتضمِّنة بعض الكلمات أو الجمل بالفرنسية حتى تُضبَط العمليَّة بشكل لا يتسرب لمصدرها الشك ، مهما حاولت السلطات الجزائرية ادعاء بُطلان ذلك في رد فعل مضاد من طرفها ، ممَّا سيجعل ارتباكها يزداد بعثورها (بعد وقت) أن “عمي صالح الجزائري” موجود ، لكنه اختفى مع الانقلاب الذي شنه الهواري بومدين على الرئيس المُعتقل لحد الساعة “أحمد بنبلة” . لينجح البرنامج نجاحا أتحمَّل مسؤوليته بالكامل ، عليك أن تتعهَّد أستاذ بلشهب بتطبيق التعليمات التالية بالحرف الواحد :

1/ أن يُذاع البرنامج بالكيفية المباشرة دون تسجيل مُسبق.

2/ أن يتمَّ البثّ والإذاعة خالية من موظفيها.

3/ أن تحصل على تعهد من طرف التقنيين عبد “الرحمان الشَرَّادِي” ، و”قُُضَاضْ لمْنَوَّر” ، يلتزمان بموجبه عدم إفشاء حقيقة “عمي صالح الجزائري” أو اسم من يتقمص شخصيته ولو لأقرب الناس إليهما .

4/ الاتصال بالمسؤول عن جهاز المخابرات المغربية والتنسيق معه ليمدنا بالمعلومات المحصَّل عليها مباشرة وفي حينها من داخل الجزائر مهما كان صنف هذه المعلومات .

5/ الاتصال بعامل الإقليم ليقوم بإشعار وزارة الداخلية ، ويحصل منها على الضوء الأخضر إن أُرغِم على التدخُّل (وفق اختصاصاته) لصدّ أي عدوان جزائري على مقر الإذاعة الجهوية بوجدة ، مع إشعار العامل بواجب التكتّم ما أمكن وبخاصة إبعاد مدير ديوانه عن الخوض في مثل الموضوع .

6/ طلب الحراسة الأمنية من طرف المصلحة الإقليمية للأمن الوطني بوجدة ، على بناية الإذاعة ومَن بداخلها 24 على 24 ساعة مع منع الدخول إليها ساعة بثّ البرنامج .

… متى وفرّت ما ذُُكر دون نقصان سنشرع بحول الله ، وسترى المردود الايجابي في أقل من أسبوع وستتوصَّل بكل التشجيعات المادية والمعنوية من طرف الإذاعة المركزية وعلى رأسها “بندِدُّوش” المدير العام ، طبعا هناك بعض المسؤولين الموجودين على رأس بعض المصالح كالسيد “بناني” من الأمن ، أو السيد “السوسي” من المخابرات المغربية ، او السيد “القدميري” عامل اقليم وجدة عن اسم الشخص الذي سيتقمص دور “عمي صالح الجزائري ” ذاك ، أرجوك أن تؤجل الجواب عن مثل الاستفسار لغاية سماعهم الحلقة الأولى من البرنامج . غادرتُ المكان بعدما تعاهدتُ والأستاذ عمر بلشهب ليقوم كل منا بدوره خدمة للمغرب وطننا العزيز وحفاظاً على مصالحه العليا. (يتبع)

الصورة : 1/ مصطفى منيغ بالزّي العسكري الشريف ، يتوسط مجموعة هائلة من ممثلي الصحافة المرئية والمكتوبة ووكالات الأنباء من مختلف أقطار العالم ، الحاضرين لمتابعة ما شرَعَ المغرب في انجازه داخل صحرائه المُحرّرة.

مصطفى منيغ

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here