محطة رقم 8 الفرزة السابعة

محطة رقم 8 الفرزة السابعة
كانت اللية ليلة الجُمعة الرابعة عشرة من رمضان الموافقة يوم الخميس 7 / شباط / 1963 وكنتُ مع عائلتي
في الحجرة استمع الى برنامج اذاعي بعد الافطار وفي الساعة 8 وهي فترة النشرة الاخبارية تقدم المذيع قاسم
نعمان السعدي وهو من القوميين وابتدأ تقديم خبر عن جولة في بغداد للزعيم ومن خلال تعليقة ونبرة صوته
أحسستُ بأنه يُخفي ابتسامةً ساخرةً وبعدما انتهت نشرة الاخبار صعدتُ الى غرفتي للتحضير والمراجعة
والاستعداد الى امتحان السنة النهائية البكلوريا لعام 1962 / 1963 .
ويذكر العميد خليل ابراهيم في موسوعته / ثورة 14 تموز / أنّ الزعيم وأحد الصحفيين الفرنسيين كان يتجول
في بغداد ويتكلم له عن وجود مؤامرة وأنّ لديه جميع اسمائهم وموعد تنفيذها ولكنه يريدهم والقول للزعيم
مُتلبسينَ بجريمتهم ويذكر ايضًا ان الزعيم طلب من مدير استخباراته محسن الرُفيعي القبض عليهم لكن
الرفيعي طلب منه امهالهم الى السبت مبررًا الموقف بما اقنع به الزعيم ثم أنّ الرُفيعي أبلغ المتآمرين بالمهلة
وطلب الاسراع والا فالسبت هي نهايتهم لذلك قدّم المتآمرون ساعة الصفر يوم الجمعة .
الى هنا أقف لمناقشة الموقف فأقول اذا كان النقل موثوقًا من العميد وهذا ما اتيقنه لقرب كاتبه من اجهزة
الدولة ولكونه من رجال الصف الثاني في انقلاب 14 تموز اقول متسائلاً كيف يُكاشف الزعيم صحفيًا عن
موضوع خطير يتعلق بامن الدولة ولا يضع في حساباته ان هذا الصحفي من طرف استخبارات اجنبية ولنعتبر
الموضوع انها زلة لسان من الزعيم وقعتْ منه او نقول جفصة جفصها فلماذا يُفاتح مدير الاستخبارات
الرفيعي ولا يُفاتح اقرب الناس له واخلصهم له مثل مرافقه وصفي طاهر وابن خالته فاضل المهداوي وماجد
محمد امين وقائد قوته الجوية جلال الاوقاتي الذي اغتاله البعثيون صبحية يوم الجمعة وهي اشارة للبدئ
بالحركة الانقلابية وعلى فرضية ان الزعيم عسكري مُحَنّك ويُريدُ أن يُمسك بالمتآمرين متلبسين بجريمتهم
أليس من باب الحزم اخذ الاحتياطات والتدابير الواجبة بأن يضع كمائنًا وعيونًا في النقاط الحساسة كالاذاعة
ومرسلات أبي غريب وهي العامل المهم والاساس الذي تسبب في نجاح الانقلاب ؟!
هذه ابسط الامور واوضحها الى اي عسكري وحتى لغير العسكري وهي من البديهيات لكني اعزي هذا التصرف
من الزعيم الى غروره وعدم ثقته بمالمخلصين من اعوانه بحيث وضع الثقة بالصحفي الفرنسي وبمدير
استخباراته الرفيعي وفاته ان ساعة الصفر قد تتغير وهو المُجَرّب وبالفعل تم تغييرها وقد صار الذي صار
بعمى بصيرة الزعيم لا بعمى بصره .
ويقول العميد خليل ابراهيم في موسوعته بعد ان انهى الزعيم جولته بات ليلته في بيت احد وزرائه لا اتذكر
اسمه وما يخطر على بالي هو وزيره محمد حديد ولمّا استيقظ في الصباح على خبر الانقلاب كان معه مرافقه
وصفي طاهر وآخران لا اتذكرهما فركب سيارته وتوجه الى وزارة الدفاع وهذه من اكبر الاغلاط العسكرية التي
ارتكبها الزعيم لأن الدفاع اصبح موقعًا ساقطًا بالمفهوم العسكري وقد قصفه الطيار منذر الونداوي وكان عليه
ان يتوجه الى معسكر الرشيد الذي فيه انصاره وفيه القوة الجوية والاسلحة والعتاد ويُوجه مرافقه وصفي
طاهر الى كتيبة الدبابات الذي كان آمرها من انصاره ايضًا هذه الامور البديهية طارت من راس الزعيم وحصر
كلَّ فكره بوزارة الدفاع ولما وصل الى باب الوزارة وجد جماهيرًا لا حصر لها متجمهرةً بباب الوزارة وهي تُطالبه
بالسلاح فيرد الزعيم عليهم انها مؤامرة من ضباط صغار وسوف أُفشلُها ولا أدري هل كان الزعيم في وعيه حين
قال هذه مؤامرة من ضباط صغار وهو يعلم أنّ نجاح الانقلابات ليست بالرُتب الكبيرة وانما هي بأسبابها وفي
دخوله الى الوزارة حكم على نفسه بالاعدام .
ويذكر العميد خليل ابراهيم وفي اليوم الثاني وهو يوم السبت ينتهي امر الزعيم مقيدًا ومنزوع السدارة والرُتبة
العسكرية وحافي القدمين ليدخل إحدى المصفحات التي يقودها أحد الضباط الذين اعفى عنه واعاده الى
وظيفته برتبته العسكرية ممن شملهم قانونه المُبتكر الرحمة فوق العدل فتوجهتْ به عابرةً جسر الجمهورية
لتصل الى الاذاعة حيث يكون اعدامه بها ومعه ابن خالته فاضل عباس المهداوي وآخرين على يد رفيقه الذي
عفا عنه مرتين الاولى في التخطيط لانقلاب والثانية عندما حاول فيها اغتياله بمسدس قد سُرّب اليه الى داخل
سجنه عند ما زاره الزعيم في احدى زياراته له وفي الاذاعة ينتهي ولله الامر من قبلُ ومن بعدُ .
وهنا اقول لو كان الزعيم ذا عقلية سياسية وغير طامع بالرئاسة لاتفق من البداية مع مَنْ شاركه من الضباط
على تطبيق البيان الذي اعلنوه وهو اجراء الانتخابات بعد ستة أشهر ووضعوا الدستور الدائم بدل المؤقت
وبهذا يكون قد وفّى بعهده للشعب وقطع دابر التآمر ويكون الحكم برلماني منتخب وبذلك يحق له ولغيره
الترشيح ويقينًا سيحقق الفوز الساحق ولكن تفرده بالحكم وطمعه بالكرسي هو الذي قتله كما يقول المثل .
وللحقيقة والتأريخ اني لم أجد في كل انقلابات العسكريين الا سوار الذهب العسكري السوداني قد وفّى
بوعده مع شعبه بعد نجاح انقلابه وكان انقلابه على رئيسه جعفر النُميري الذي كان في مصر .
أمّا موقف الشيوعيين من الانقلاب والمعروف انهم أوسعُ تنظيمٍ بالجيش العراقي ولديهم ما يُسمّى بالخط
المائل وهو تنظيم مسلح من الشيوعيين مجهز للحالات الطارئة التي تستوجب الدفاع بالسلاح فلم يكن لهذا
الخط اثرٌ يومَ الانقلاب رغم ان الحزب كان يعلم بالمؤامرة وكما يُذكر انهم نبهوا الزعيم عليها واصدروا منشورًا
بذلك وهنا أقول في هذا الموقف انكشفت حقيقة القيادة على انها قيادة بيد مندسين يعملون لجهات ينتمون
اليها وهي الحقيقة المرة التي لا تقبل التبرير أو التماس الاعذار لها.
عند الصباح تناولتُ فطوري وصعدتُ لمواصلة تحضير الدروس وفي الساعة التاسعة سمعت المذياع يزعق
بالبيان الاول فنزلتُ الى الدار وبعد سماعي عِدّة بيانات خرجتُ استطلع الوضع الى الشارع فالتحقتُ بتظاهرة
لمحلتنا سيد حسين اخترقت السوق متوجهةً الى بيت المتصرف/المحافظ وقيادتها بيد الشيوعيين وعند
وصولنا الى دار المتصرف الذي لا اعرف اسمه وقف أحد قيادي الحزب الشيوعي المكني بأبي خليل الذي
التقيتُه عند خروجي من الحزب في نهاية عام 1962 بدار الكادر الشيوعي علي حسين عاكوله القريب من دارنا
وقد حاول فيه اقناعي للعودة الى الحزب وكان قراري هو الرفض .
وابو خليل هذا من ابناء المسيب كما تبين لي او من الطارميه وكنتُ اتوقعه من كربلاء أقول صعد ابو خليل
وهو يُطالب المتصرف بالخروج ليُلقي كلمةً فيها التأييد للزعيم والتنديد بالانقلابيين الا ان المتصرف لم يخرج
والشرطة الحرس يقفون امام الباب لا يحركون ساكنًا وبقي ابو خليل يكرر ويطالب حتى ضاق ذرعًا فأخذ يُندد
ويتوعد ووصمه بالوغد وبسيل من العبارات وانتهت التظاهرة بالعودة من شارع المشروع الا انها توقفت عند
بيت القومي منعم عبد السادة البديري والحقيقة لم اعرف مَنْ وجّهَ المتظاهرين الى بيته فكسروا باب داره
فهرب الى السطح الى دارهم الاخرى التي هي في ظهر داره الاول فالتفّ قسم من المتظاهرين الى باب الدار
الاخر وحاولوا كسره فرماهم ببندقية الصيد فابتعد المتظاهرون ثم عادوا ورماهم ثانيةً فجرح متظاهرًا
فحَمله بعض المتظاهرين للمستشفى وهي قريبة ليُعالج وعاد المتظاهرون فكسروا الباب فانهزم من السطح
وضاع خبره فتوجهت التظاهرةُ الى السوق ثانيةً أما أنا فأخذتُ طريقي مع قسمٍ من المتظاهرين الى شارع
المستشفى ووصلتُ بهم الى ساحة العامل واذا بالسجناء السياسيين وجموع من المتظاهرين قد كسروا باب
السجن وخرجوا وهم في لباس السجن وكانوا امامي سبعةً منهم وهم اكراد محكومون بالاعدام فأعطيتُ سترتي
لواحدٍ منهم ونزعتُ قمصلةَ زميلي واقاربي حافظ كرم الله فأعطيتُها الى اخر وقلتُ الى احد المتظاهرين ان
يوصِلَهم الى طريق بغداد فسار السبعة معه وعند التفاتي شاهدتُ وعن مسافةٍ بيني وبينه المخبر السري
عمران سكينه يتصفح الوجوه فأخذتُ طريقي الى دارنا عن طريق شارع السجن وفي وصولي الى الساحة
وجدتُ جماهيرًا غفيرةً والحناجر تهتف بسقوط المآمرة وتهتف بحياة الزعيم وشاهدتُ عن بُعد احد البعثيين
اسمه عدنان وهو من اهل النعمانية يدرس معي في ثانوية الكوت شاهدتُهُ فعلمتُ أنّهُ يُريد تثبيتْ وجوه مَنْ
يعرفهم في التظاهرة فانسحبتُ الى دارنا لأستطلع الوضع عن بُعد .
صارت الساعة قريب الثالثة وبدأتْ الحركة للمتظاهرين في طريقها الى التلاشي واذا بالمعلم ابي جلاء ومعه
فاضل سيد خزعل وهما كادران من كوادر الحزب يعودان من شارع السجن وبيني وبينهما معرفة فتقرّبا مني
وخاطبني أبو جلاء طالبًا أن أجمع الناس للتظاهر فسألتُهُ لماذا لا تبقيا معي فقال لي ابو جلاء بمجرد أن نذهب
الى البيت نعود اليك فانتظرتهما والى هذا اليوم انتظر للخروج بالتظاهرات ولكني سمعتُ بعد زمن ان فاضل
سيد خزعل وأبا خليل قد هربا الى الاتحاد السوفيتي وسمعتُ أن سيد فاضل قد درس الطب هناك وتخرج
طبيبًا ثم ذهب الى الجزائر ومنها انتقل الى فرنسا واما أبو خليل فقد عاد الى مدينة الكوت ليكون المسؤول
عن التنظيم بعد سقوط الطاغية في 2003 .
وبين الرابعة و الخامسة عصرًا بدأتْ الشرطة بحظر التجوال واخذت سياراتهم تجوب الشوارع ووضع نقاط
لهم في محلتنا تطبيقًا للبيان الصادر من الحاكم العسكري رشيد مصلح وهذا معناه ان الانقلابيين ظهر لهم
الضوء الاخضر واستتب وضعهم وثبتت ركائزهم .
بقيتُ طيلة الليلة أستمع الى البيانات والى الاذاعات من المذياع وكان البيان رقم 13 من اكثر البيانات اجراميةً
قَرأتْهُ إحدى البعثيات التي التحقت باذاعة الانقلابيين في اول ساعات الانقلاب وقد اعجبتني شجاعتُها وقد
سمعتُ بعد ذلك ان القيادي البعثي علي صالح السعدي قد تزوجها .
كانت برقيات التأييد الى الانقلابيين من قِبَل آمري الوحدات العسكرية في بداياتها كاذبةً حتى الساعة الرابعة
عصرًا من يوم الجمعة وفي الثامنة أو التاسعة يصدر بيانًا بتشكيل قيادات الحرس القومي في المدن العراقية
وكان القائد العام للحرس القومي في لواء الكوت أو محافظة واسط المعلم محمد محجوب ومساعده المعلم
محسن صالح البندقي وهو من اوائل البعثيين ومن العوائل القديمة في مدينة الكوت .
أمّا عن السجناء السبعة الذين وجهتهم مع احد المتظاهرين فقد تبين لي بعد عودة إبن خالي محسن الى دارنا
قبل منع التجوال عاد وهو مبتهج وأخبرني بأنّه نقل سبعة سجناء ومعه حَمَد حمزه البحراني زميلي المخبر
الشيوعي الذي نقلهم بواسطة القفة الى جانب الفلاحية وأخبرني أن المخبر حَمَد حمزه أجلسهم في مكان وقال
انتظروني أجلب لكم ملابس مدنية من البيت والى هنا ينتهي الفصل فقرأتُ عليهم الفاتحة لمعرفتي به مُخبرًا
سريًّا فقلتُ لمحسن إيّاك أن تتفوه بهذا ما دمتَ حيًّا فقال لي أخبرتُكَ بهذا لأنّكَ مسؤولي الحزبي .
******************************************************************
الدنمارك / كوبنهاجن الثلاثاء في 25 / مايس / 2021

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here