اللجنة الدولية للصليب الأحمر: 1.25 مليون مفقود في العراق منذ 2003

في الباحة الخلفية لمدينة الطب في بغداد، اجتمعت مسنات وشابات، توحّد حزنهنّ مع العباءات السود. وفيما شرعت نساء باللطم على وجوههن، صرخت إحداهن وهي تمسك صورة ولدها بشدة وتضمها إلى صدرها: “بعده زغير، لم يبلغ الثامنة عشرة حتى، قالوا إنه أصيب برصاص اثناء التظاهرات، ولم يستطع الفرار بينما كانوا يلاحقونهم، يفترض أن أجد جثمانه هنا، لقد بحثت في كل المستشفيات ولم أجد أي أثر له”، بحسب ما نقل عنهم موقع (درج).

في محاولة البحث عن أولادهم المغيبين في تظاهرات تشرين منذ عامين، يكمل ذوو المفقودين والمخفيين قسراً مسيرة والد المحامي المغيب علي جاسب، الذي بقي يحمل صورة ابنه، ويطالب جميع الجهات بالكشف عن مصيره لعامين كاملين، إلى أن اغتالته فصائل مسلحة.

أيضاً تسمع من ذوي المخفيين قسراً، حكاية شاب آخر يدعى عبد المسيح روميو تم اختطافه في ساحة الخلاني وسط بغداد، بعد مشاركته في احتجاجات تشرين قبل عام ونصف العام، واعتقلته قوات الشغب مع مجموعة أخرى بحسب مجموعة من المحتجين، الذين شهدوا عملية توقيفه، فيما حاولت عائلته البحث عنه في جميع السجون الحكومية من دون جدوى.

في الأول من شباط 2020، اختطف الصحافي والباحث مازن لطيف، بعدها بأيام تم اختطاف الصحافي توفيق التميمي ولم يتم التوصل إلى مكان أي منهما الى هذا الوقت.

الثمن الباهظ!

كلها حكايات تتشابه في الألم. عشرات الحكايات مصائر أبطالها مجهولة. ويبدو وقعها على أهلهم اشدّ من القتل. لأن الألم يختلف حين يعرف المرء مصير أحبائه، ويستطيع أن يواريهم في التراب ويودعهم. والأمل في حالات كهذه مرادف للألم. في مدينة الصقلاوية غربي العراق، بعد خمس سنوات من تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش، وسيطرة فصائل الحشد الشعبي وبعض الفصائل الموالية لإيران، كانت عائلة المغيب عامر فاضل (35 سنة) قد باعت منزلها مقابل الدفع لأحد الأشخاص، الذي وعدها بمعرفة مصير ابنها الذي اختطفته الجماعات المسلحة الموالية لإيران.

تعيش مهى زوجة عامر في غرفة صغيرة في إحدى الأراضي الزراعية، وفرها لها أحد الأشخاص في مدينتها للبقاء فيها إلى حين عودة زوجها، بعدما خسرت منزلها. كان النقاب يغطي وجهها فيما بقي أولادها ينظرون بترقب خوفاً من ان يتسبب حضورنا بمجيء عناصر الفصائل المسلحة، لأنهم اعتادوا على جولات التفتيش الدورية.

وتقول مهى: “في كل مرة كان يأتي إلينا شخص ما ويعدنا بمعرفة مكان زوجي ويأخذ الأموال، وحين نذهب إلى السجن الذي يذكره لا نجد أي أثر له، الى أن اضطررنا إلى بيع المنزل من أجل البحث عن زوجي، ربما هو في أحد سجون الفصائل المسلحة هكذا قالوا لنا في المرة الأخيرة، لكن من يستطيع الوصول إليهم؟ انا أرفض حقيقة أنه قُتل، طالما لم نرَ جثة، فهو على قيد الحياة”.

وفي أحد مناطق الأنبار ينتظر سعيد كاظم عودة أولاده الثلاثة، أصغرهم يبلغ 17 سنة، كانوا قد اعتقلوا قبل أربع سنوات على يد أفراد في “الحشد الشعبي” بعد تعرض فصيلهم لهجوم في المنطقة، قاموا على إثره باعتقال جميع رجال المنطقة من بينهم أولاد سعيد، يقول: “منذ ذلك الوقت لم أترك مستشفى أو سجناً، لم ابحث فيه عن اولادي، أحدهم كان يعاني صعوبة في التنفس ولا أعلم إذا كانوا ما زالوا على قيد الحياة، أنا مستعد للتضحية بحياتي مقابل رؤيتهم أو حتى سماع أي خبر عنهم”.

تغرورق عينا سعيد بالدموع بينما يتحدث وهو ينظر إلى أطفال ابنه الأكبر: “كانت هناك جهات من الفصائل المسلحة لا أعلم إذا كانت من قوات الحشد الشعبي أو حزب الله، طلبت مبالغ مالية مقابل تحرير أولادي من السجن. قال لي أحدهم إن أولادي في سجن الحوت وهم متهمون بالانتماء إلى تنظيم داعش وسيقوم بالتعاون مع أحد الضباط لتغيير القضية، ومنذ ذلك الوقت لم أتمكن من الحصول على أي معلومات عنهم، ولا معرفة إذا كانوا في السجن أو لا”.

في ظهيرة يوم صيفي لاهب، تجمعت مجموعة من أمهات المخفيين قسراً أمام سجن الحوت في الناصرية جنوبي العراق على أمل العثور على ذويهن بين السجناء. وقفن على الأرض المواجهة للسجن، حيث كانت حرارة الاسفلت كافية للسع أقدامهن، وركضت إحداهن لتتوسل حرس السجن البحث عن اسم ولدها بين السجناء.

مليون مفقود عراقي؟

توثق مفوضية حقوق الإنسان 75 حالة تغييب منذ انطلاق تظاهرات تشرين في أواخر عام 2019، تم إطلاق سراح عدد منهم فيما لم يتم التوصل إلى مصير 50 منهم. وفقاً لـ”اللجنة الدولية للصليب الأحمر”، يعتبر العراق أحد أكثر البلدان التي تسجل أشخاصاً مفقودين عالمياً، إذ تقدّر اللجنة الدولية المعنية بهم، والتي تعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية للمساعدة في كشف مصيرهم، أن عدد المفقودين في العراق، منذ ما قبل سقوط نظام صدام حسين، يتراوح بين 250 ألفاً ومليون شخص. يكشف عمر فرحان رئيس مركز توثيق جرائم الحرب، إبان الأيام الاولى من تحرير ناحية القيارة في الموصل، عن إنشاء سجن تابع لـ”مكافحة ارهاب نينوى”، قام عناصره والمسؤولون عنه بـ”إجراءات تعسفية تجاه المواطنين من سكان الناحية والقرى التابعة لها لدرجة أنهم قاموا بتسهيل إجراءات تبرئة أفراد من داعش، مقابل مبالغ فاقت الملياري دينار على شكل عقارات وعمارات تجارية، وفي الوقت ذاته، كانوا يساومون أهالي الأبرياء على دفع مبالغ كبيرة لقاء إطلاق سراح أبنائهم، ومن لا يستطيع الدفع من ذوي الموقوفين كان يهمل ويعذب حتى الموت أو يقتل عمداً ويتم ذلك بدون أي أوراق تحقيقية”.

ويؤكد فرحان أنه خلال فترة سيطرة الفصائل المسلحة على المناطق المحررة، قُتِل أبرياء غير مطلوبين في قاعدة بيانات وزارة الداخلية والدفاع وما من أوراق رسمية حول وفاتهم. واستمرت هذه الانتهاكات منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا وأثناء العمليات العسكرية في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، تم توثيق أكثر من 23000 حالة تغييب.

مع انطلاق التظاهرات في بغداد ومحافظات الجنوب، وثق المركز أكثر من 75 حالة إخفاء قسري لنشطاء ومدنيين من ساحات التظاهر، غير معروفي المصير ولا الجهة التي اختطفتهم، وتعجز الحكومة في بغداد عن العمل على إطلاق سراحهم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here