ذكريات واستذكارات تعوزها الموضوعية.. وتعيبها الـ “أنـا”

ذكريات واستذكارات تعوزها الموضوعية..
وتعيبها الـ “أنـا”
رواء الجصاني
—————————————————————————
ما برحت المؤلفات، والمنشورات التى تهتم بشؤون السير الذاتية والتأرخة تحظى باقبال متزايد عند جمهور القراء.. وقد تصدى – ويتصدى – العشرات من المعنيين العراقيين، بأشكال مختلفة، لمتطلبات ومسؤوليات التوثيق للشأن الوطني العام، واحداثه ووقائعه، وكتب عشرات منهم، والسياسيين الفاعلين خاصة، سيّـراً ومذكرات وذكريات، الى جانب احاديث وحوارات تلفزيونية وسواها. وقد اصبح ذلك – او سيصبح – مصادر تاريخية يلجأ اليها أكاديميون وباحثون يستفيدون منها بجدية وحرص. فيما يقتبس منها مناكفون، ومترصدون، دون أمانة احيانا، اعتمادا على الثقة العفوية من جهة، وضعف الاهتمام بالدقة، وأختصارا للوقت أوالجهد، وربما كلاهما، من جهة اخرى..
لقد تباينت – وتتباين- مؤلفات السيرة والذكريات في اسلوبها، وفي لغتها، وسياقاتها، فكان بعضها يرقى الى شكل من اشكال الكتابة الادبية، فيما راح قسم آخر أشبه بيوميات مغرقة بتفاصيل ليست مهمة لغير من يعرف عنها، او مشمول بها.. وفي كلا الحالين، وما بينهما، نزعم بأن ثمة طموح يرجوه الكثيرون لأن يكون القادم من تلك الكتابات اكثر اهتماما بالشأن العام، ومحاولة الأبتعاد عن “الأنـا” إلا في مكانها وزمانها الطبيعيين، لكي لا تكون مقيتة، بل وذميمة.. وحسناً ان نستبق من “قـد” يفهم بأننا ندعو الى الابتعاد عن الجدال والتوثيق، فنقول، على العكس، ان ذلك الجدال والحوار أكثر من مرجوٍ ومطلوب، ولكن على أسس حضارية، وبعيدا عن النرجسية، وعن التزمت والتدليس واثارة البغضاء..
ان ثمة قاسم مشترك بين جميع تلك المؤلفات، وهو تأكيد اصحابها المبرز، بأن ما يكتبونه يأتي ” لخدمة الحقيقة والتاريخ” وكأن في الامر احيانا، محاولة استباق لمنع “التشكيك” واحترازا من “تهمة” الذاتوية في تسجيل وتوثيق الاحداث والسيّر والادوار. وأزعم بأن ذلك التوكيد المبالغ به قد يقود المتفحصين الى استنتاج العكس تماما.. خاصة وقد يجري أعتماد بعض الوثائق المنتقاة، او اجتزاء فقرات ومضامين، مكتوبة أو منقولة شفاهاً، تدعم وتفيد ما يُـبتغى منها، ويُـرادُ لها..
كما من السهل ايضا الوصول الى قناعة بأن كثيراً غالباً من تلكم الذكريات والسيّر يتوخى جمهرة محددة من الناس، ويتوجه بشكل رئيس الى القراء والمتابعين الذين عملوا او تشاركوا في العمل السياسي او الوطني مع كتاب السيرة، ومؤلفي الذكريات، ويعلمون بما أجترحوه من مواقف مشرفة، كما خاطئة، أو عليها ما عليها من خلافات وتفاسير جاءت مصحوبة بتوضيحات أو أعترافات خجولة بالاخطاء، والخطايا حتى، وترحيلها بصراحة أو توريةٍ الى آخرين، مع بعض الاستثناء هنا وهناك ..
ومن خلال المتابعة الحريصة، يمكن القول ان العديد من اصحاب السيّـر والمذكرات، التي شملت العقود الستة الماضية، خاصة، يبالغون بالانتقاص والقاء اللوم على من تخالف أو أختلف معهم في الرؤى والمواقف، وفي التاريخ السياسي والنضالي المشترك، برغم ان مسيرة ذلك التاريخ، والصحبة المشتركة امتدتا عقودا بعض الاحيان، تعرضوا خلالها لشتى اشكال القسوة والعنف من اجهزة الانظمة القمعية.. وقد تحملوا ذلك العسف، منفردين ومجتمعين، بصلابة وتضحيات تسجل للكثير منهم بأمتياز. غير انهم لم يستطيعوا، في ذات الوقت، تجاوز التنافس الشخصي، وردود الافعال الذاتية، وقبول تبايّن القناعات، واهمية الجدال.. ولا نقلّـل هنا مطلقاً من مشروعية الدفاع عن الذات، والحقيقة، واهمية تأرخة الاحداث، وضرورات تبيّان المواقف وتحديد المسؤوليات، والتصدي للتجاوزات والاتهامات.
وبالارتباط مع الفقرة السابقة، لعل من المهم ان نشير هنا ايضا الى خطالة السعي لمحاكاة الحاضر بالمفاهيم والقيم السابقة، والاستناد عليها في الكتابة “للتاريخ” بعيون الماضي، دون الالتفات لجملة مؤشرات من اهمها الظروف السياسية والاجتماعية والمعرفية التي كانت تسود في حينها، ومتانة ورسوخ التجربة، ومستويات الأدراك والوعي، وشيوع التزمّت بأحتسابه “ثباتاً مبدئيا” .. دعوا عنكم التقديس الايديولوجي، والثورية – الحقيقية او المدعاة – ومزاعم امتلاك الحقيقة..
لقد كان حرياً بنا طبعا أن نشير لأمثلة ملموسة، ولأسماء بعينها، لتأكيد ما ندعيه من أراء ورؤى. ولكن من دوافع الابتعاد عن ذلك – برغم توفر الكثير منه- تأتي قناعتنا بأن طرح ذلك، الآن، سيثير المزيد من الغلّـو والأحن، والعصبيّات، خاصة والبلاد العراقية وشعبها تحتاج لتضامن مجتمعي، وترفّع أنساني عن الخصوصيات والصغائر، في ظل الأزمة – بل الأزمات- الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ما برحت تشيــع المزيد من الأحباط السائد، والمتراكم أصلا، من السياسة والسياسيين .. كما من الدوافع الاخرى لأقتصار كتابتنا هذه على العموميات، وليس الملموسيات، ثمة “خوف” من اقلام وألسن تنتظر أيّما سبب ورأي، أوموقف مخالف، لتبيح لنفسها الدفوعات المتشددة، أو الانفعالات في الردود والتحاور والجدال.. فالوسطية باتت بعيدة – كما نرى- في زحام الاتهامات المتبادلة، وتصيّد الأخطاء، والتشنجات وتلك من أشد العلل، وأقساها كما نظن..
ان ما يؤلم اكثر في هذه الحال الذي نتوقف عندها، هو قيام أعلاميين ومتابعين وغيرهم بقراءات مسبقة التقييم، لما تحتوية الذكريات والسيّر والشهادات ذات الصلة، وعرض بعضها بعيون “تبدي المساويا” ولدوافع مختلفة قد يكون من بينها حب الأثارة، وحسابات واصطفافات شخصية، او مواقف مختلف عليها في أحداث هنا ووقائع هناك، وخاصة حين يجري الانتقاء والاجتزاء، بل وحتى تشويه الحقائق، ولحد تزييفها احيانا. والأكثر ايلاما ان يكون بعض المقصودين هنا، مشاركين بهذا القدر او ذلك في قضايا وتعقيدات الأمس التي يتبرأون منها اليوم..
ان الهوامش والملاحظات التي سترد في الفقرات اللاحقة لا تعنى – كما اسلفنا القول بشأنها- بالاسلوبية، ولا شكلية الكتابة، ولغتها، فلتلك احاديث اخرى تطول وتتسع، وهي من اختصاص النقاد والمنتقدين ذوي الباع بفنون الكتابات والسرد، ولسنا من بينهم.. وبمعنى ان ما سيجري التطرق اليه، وحوله يركز على المضامين والمعلومات الواردة في الكتب والمؤلفات المعنية بالمذكرات السياسية والسير الشخصية، والذكريات والتأرخة العامة، ومن بين ما نزعم عنه:
1- قيام بعض كتاب و”كتبة” سيرهم الشخصية، او عن الاخرين – اللجوء – ولربما بهدف “تضخيم” صفحات المنجز – الى خلط الأمور، وبتداخل مفضوح احيانا، في الحديث عن تفاصيل بديهية أو معروفة بشكل كبير، وبلا اية ضرورة، ثم يذهب (المؤلفون!) بعد الاسهاب الممل فيشيرون عبورا ومرورا بـ”سيرتهم” أو علاقتهم بالحدث المعني، بكلمات او جمل قصيرة طارئة.
2- طفوح ظاهرة الـ ( نا) واشاعة الايجابيات، مقابل إغفال المعاكس، وحتى ان تطلب الامر القفز على احداث معروفة، أو شبه موثقة، مما يضع الكاتب/ المؤلف في حرج معيب احيانا. وهنا لا نقصد باية حال غمط مشروعية المؤلفين والكتاب في الحديث عن أدوارهم ومواقفهم، والتوثيق لها، في شؤون الحياة العامة خصوصا ..
3- اجتزاء الوقائع، ومحاولة استغفال المتلقي غير المتابع، بل وحتى تزوير المعلومة كاملة، بهدف تمرير ما يدور في ذهن الكاتب من مشاعر او رغبات، أو مساع لتصفية حسابات شخصية، ثقافية مرةً، وسياسية مرة، وحتى اجتماعية في حالات أخرى.. وكم جرى “التدرع” بان تقوم شخصية معروفة بكتابة تقديم للمؤلف المعني، وسواء جاء ذلكم التقديم إقتناعاً أو مجاملة، أو تلاقي النيّات والاراء.
4- شيوع المجاملات الصداقية والوجدانية، والعلاقات الشخصية في اختيار التوثيق او الحدث في الكتابة.. وفي غمار ذلك يسود، أو يجري نسيان أو تناسي مواقف سابقة للكاتب نفسه، مخالفة وربما متشددة حول، وضد، نفس الشخصية التي يجري مجاملتها لاحقا لهذا السبب أو ذاك..
5- اسناد مواقف وتقييمات لراحلين، او عاجزين عن الرد والتوضيح لما يُنسب اليهم، مما يضعف من صدقية الحدث او الواقع المؤرخ له.. وكل ذلك لكي يمرر الكاتب او “المؤرخ” غاياتٍ ما، يعتقد بيسر مرورها ما دام الذين يُسند اليهم غير متمكنين من الدفاع أو الرد، كما سبق القول.
6- مراعاة بعض الكتاب (والكتبة) لأمزجة الناشرين، وأصحاب المراكز الاعلامية، ومواقفهم من الاحداث والسيّر الذاتية، والوقائع التاريخية. ومن دوافع ذلك: الرغبة في النشر والانتشار وحتى لو كان على حساب الضمير والامانة والمسؤولية الشخصية . ولا يفوتنا هنا الاشارة الى حالات اللجوء طواعيةً، لا اضطرارا، لمراعاة أولي الامر من سياسيين ورسميين ومسؤولين وظيفيين وعداهم، وما أبشع ما ساد في العقود والسنوات الأخيرة في عراقنا العجيب، من مثل هكذا أوضاع وظروف.
7- ولعل ما يزيد الطين بلّة كما يقال، مساهمة العديد من “النقاد” والاعلاميين في الترويج لمؤلفات اصدقاء ومعارف، وذوي علاقات، على اساس تبادل “الفائدة” احيانا، أوالتعامل بالمثل احيانا اخرى، وفي كلتا الحالتين يكون الأمر على حساب التاريخ والمسؤولية المهنية … فكم أهملت مؤلفات قيّمة بشهادة المعنيين، بينما راحت كتابات اخرى ” تُـلمع” لحـدّ انها تفقد بريقها، خلافاً لما يُراد !.
8- أهمال التحقق المعلوماتي، وتجاوز التدقيق والبحث، اما عجزاً، أو بهدف العجالة لأصدار المؤلف والكتاب.. ولا موقع هنا للنوعية، حين يكون الكمُّ هو الهدف وإن كان غير معلن، ولكن الكتاب يعرف من عنوانه كما هو شائع ومعروف .. وهنا نشير ايضا الى رهان عدد من “المؤلفين” و “الكتاب” على اخلاق القراء والمتلقين – وربما كسلهم احيانا – في عدم التكذيب، أو توضيح الملتبس، المقصود وغيره، مما شجع ويشجع في مثل ذلك الغـيّ، والتمادى فيه دون حساب..
9- ووفق الفقرة السابقة ايضا، يراهن البعض ممن تشملهم هذه الملاحظات – كتابا ومؤلفين- على أن المقصودين في التشويه أو التزوير، وحتى التطاول عليهم، يترفعون، قيماُ وقناعات، في الرد على الاسفاف والادعاءات، ولربما ايضا رغبة في عدم إعلاء شأن المتجاوزين والذين يتمنى العديد منهم – كما نزعم مجددا – ان يَسمع أو يقرأ حتى تكذيب أفتراءاته، ودحرها، ليزداد الكتاب، واسم صاحبه، انتشارا وهو المقصود والمطلوب عند البعض..
10- ان ما تم الحديث عنه من هوامش وملاحظات على كتب السير الشخصية، والتأرخات، يشمل ولحدود بعيدة: الحوارات التلفزيونية والاذاعية – والصحفية طبعا- في أطر التساؤلات والحوارات المباشرة، وبعدها الاجابات المجتزأة والمرسلة على عواهنها بلا حسيب أو رقيب. مع مساع عدد من “رجال” العراق و”مثقفيه” لاستغفال المحاورين الشباب، أو غير المهيئين لمثل تلكم الحوارات التاريخية، وغير القادرين على توثيق الاحداث، بل وغير العارفين بها اصلا بعض الاحيان..
اخيرا .. نعيد التوكيد بأن هنالك – حول ما تحدثت عنه الفقرات اعلاه- أمثلة عديدة ووقائع كنا شهود عيان على بعضها بهذا القدر او ذلك، أو مطلعين بشكل وثيق على العديد من تفاصيلها.. ولكن عدم الأتيان بها – كما سبق القول – جاء محاولة في منع المزيد من الاحباط، وأبتعادا عن المناكفات السياسية الضيقة. وحاشى بالطبع ان يكون ما تقدم من ملاحظات يهدف للأنتقاص من تاريخ شخصيات بارزة في تاريخ العراق الحديث، وساسة ميامين، ومناضلين وطنيين، اصابوا، أو أخطأوا دون عمد، وكان الكثير منهم يحملون أرواحهم على أكفهم، لغايات نبيلة، وطوال عقود مديدة، عارضوا فيها السلطات والانظمة الجائرة التي حكمت البلاد العراقية. وكم نتمنى ان يُتاح الوقت وتسمح الظروف ان نتداول، وبالتوثيق المحدد، مؤلفات سيّر شخصية، و”شهادات” وكتابات تأريخية، مع معرفتنا مسبقا بما سيتسبب به ذلك من خسارة صداقات، وإثارة بغضاء، وسجالات وما الى ذلك، ولا ندري هل سنكون شجعاناً في خوض ذلك الغمار، أم لا ؟!!..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here