صفحات كونيّة(8) ألعوامل ألمؤدّية لإنحراف ألفكر:

[هل حقّاً قدّمَ الأمام ألرّاحل الإسلام 5 قرون للأمام و تسبب دُعاة الحُكم ليس بإرجاعه 5 قرون للخلف بل و إنحراف الناس!؟
و هل السبب في فقدان الشيعة للحكم هو الفكر ألذي تأسس عليه نهج الحركات والأحزاب الشيعة السياسية بعد سقوط الصنم؟
أم بسبب لهوثهم على الرواتب و الأموال و المناصب لتحقيق الرّبح السريع و ترك المشاريع الستراتيجية لأنهم زائلون]؟
سنجيب على هذا السؤآل المحوري لعلاقته بأصل الموضوع المطروح في ثنايا هذا البحث الهام الذي يجب التوقف عنده!

ألحمدُ لله ألمُتفرّد بكماله؛ ألمُتعالي بجلاله؛ ألمُتجلّي ببهائه و جماله؛ ألذي أغرقَ الكائنات بفيض آلائه، و كفى بوجودها بعد عدم نعمةً وكرامةً, ثمّ خصّ منها الإنسان بوافر عطائه، (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)(1)، حتى عادت ألطَفَ الموجودات و أرقاها له خاضعة و مطيعة، (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)(2).

و لم يكن امتياز الإنسان عن سائر الكائنات إلّا بعلمه ومعرفته إلى جانب تقواه، (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ(3), سجدت له الملائكة لذلك ، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(4). 

و كرامة العالم و المعرفة التي بها كمال الإنسان و شرافته ، إنّما هي ثمرة جهود الأدوات التي جهّزه خالقه بها في ظاهره و باطنه، (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ)(5): أيّ ألحِسّ, كما أشرنا خلال البحوث السابقة ..

إنّ أيّ فكر أو عقيدة مُعرّضة للتّبدل و التّغيير و الإصابة بآلأنحراف و بحالة ألتّوهم بجانب الحقائق ألأخرى, ما لم يُحصِّن صاحبه نفسه بمبادئ أصوليّة كونيّة و أخلاقيّة يتّفق عليها عقلاء و عرفاء العالم بغضّ النظر عن الجزئيات و الخصوصيات حتى في الأديان و الأنظمة التي يعتقدون بها, و العرفان ألكونيّ هو النهج الأمثل المُوحّد ألأقوى والأضمن للبشريّة وآلمُحقق لوحدتهم و تآلفهم لتحقيق رسالة الحياة و الوجود.

و من هنا نرى أن العرفاء الحُكماء قد حرّروا هذا الجانب بكشفهم لآليّة القلب كأساس لوجود الأنسان و موطنه ألحقيقيّ ألذي يجب أن يعتنى به و يبنى محتواهُ بشكلٍ سليم, لكن لا ذلك القلب الماديّ المُكوّن من كتلة لحم يضحّ الدم إلى أجزاء البدن لأحياء الحواس الظاهرية؛ بل المراد بآلقلب في الفلسفة الكونيّة؛ هو وجود و وجدان الأنسان و نفسه المكونة من (إندماج الروح الإلاهية الواعية مع الجسد عن طريق الدّم). و هذا ما يُشير له سبحانه بقوله:
[إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ](ق : 37).

ومن المعلوم و كما ألمحنا بأنّ المراد من تعبير القلب هنا؛ هي القوة المتمركزة داخل الوعاء الذي يحتضنه الجسم ألماديّ بعد إلتصاقه بآلرّوح، و ليس كل إنسان يمتلك هذا القلب, فالبشر اليوم يفتقدونه بسبب مؤثرات سلبية عديدة, إنّما المراد هو من كان له عقل مدرك و واع و قلب نابض بآلأحساس و آلأنسانيّة و المحبة و العدالة و الفكر الكونيّ و يحاول البقاء دائماً على إتصال مع آلأصل الذي يغذيه بطاقة كونيّة إيجابية، وقالوا: و الإستمرار على هذا الوضع مدّة من الزمن قد لا تزيد على 40 يومأً يحرص خلاله السالك عدم إدخال لقمة الحرام في بطنه؛ و حفظ الحواس من آلمحرّمات لئن ينال مرتبة كونيّة رفيعة من الاستشراق والإلهام بعد المرور بمنازل آلسائرين التي أشرنا لبعضها سابقاً و تبدأ بحسب تقريرات بعضهم كآلفيلسوف ألحكيم ألآملي بـ : 

1 – أليقظة. 

2 – ألتوبة. 

3 – ألمحاسبة. 

4 – ألإنابة. 

5 – ألتفكّر. 

6 – ألتذكر. 

7 –  الاعتصام. 

8 – ألانقطاع. 

9 – كبح جماح النفس. 

10 – درك اللطائف.
و بعضهم حدّدها بعشرات ألمنازل و المراحل, 
فأسفار الشيخ (إبن عربيّ) : الذي لقبه الأمام الرّاحل(رض) بآلشيخ الأكبر, حيث حدّد 27 مرحلة بحسب رسالات الأنبياء الذين ذكرهم الباري في القرآن الكريم بآلأسم, حيث يجب دركها لتحقيق المطلوب و الهدف من الحياة الدّنيا و كما جاءت تفاصيل ذلك في كتابه المعروف (فصوص الحكم).
أما أسفار ألملا صدرا : و هو صاحب الأسفار ألأربعة و التي ضمّـت الحكمة المتعالية و تتحقّق بعد تحقق أربعة مراتب, هي:
1- سير آلخلق إلى الحقّ؛ و هو آلسّير و السّعي لطلب المعشوق الحقيقي بديلاً عن العشوق المجازية بالتجرد عن الماديات.
2- سيّر بآلحقّ في الحقّ؛ و هو السّير عبر أسفار الأنسان لمعرفة الحقّ بشكلٍ مُبرهن و مشهود ليكون مؤهلاً لهداية الناس.
3- سيّر من الحقّ إلى الخلق بآلحق؛ و هي العودة إلى الخلق بعد معرفة الحقّ بشكل واضح و مبرهن.
4- سيّرٌ في الحقّ بآلحقّ؛ و هو الذوبان في المعشوق و الرجوع بعد نهاية الأسفار الكونية التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
بإختصار شديد لقد عرض بوضوح (الحكمة آلمتعالية) عبر الأسفار العقلية الأربعة, و كان صدر الدّين محمد الشيرازي (1572-1640م) بحقّ عارفاً حكيماً جمع أسفاره الأربعة العظيمة في 9 مجلّدات.

ثم أسفار فريد آلدّين العطار النيشابوري : و يتحدّد أسفارهُ بسبعة مراحل جمعها في كتابه المشهور  بين العرفاء بمدن أو أسفار العطار ألسّبعة,  و هي:
ألطلب – العشق – ألمعرفة – ألتوحيد – ألتوحيد – ألأستغناء – الحيرة – ثم الفقر و الفناء.

و لمعرفة حقيقة و تفاصيل كلّ مرحلة(مدينة)؛ راجعوا كتابنا الموسوم بـ [ألأسفار الكونية السّبعة] للتفاصيل(3).
ثمّ أسفار ألشيخ ألخواجة عبد الله الأنصاري(4), و قد حدّدها بإثنين و خمسين مرتبة تيمّناً بعدد الركات اليومية و نوافلها والمعروفة بصلاة 52 أو 51 بإعتبار ركعتيّ (الوتيرة) بواحدة لأنها تُؤدّى جلوساً, و ليس سهلا أن يُداوم الطالب على  النوافل اليومية.

أما أسفار ألعارف ألحكيم محمد باقر الصدر : فقد حدّدها  بثلاثة شروط هي:
معرفة الله – ألتوحيد – ثمّ حُبّ الله, ملاحظة : تفرّد الحكيم الفيلسوف عن غيره بقدرته الفائقة على أختصار القضايا بإسلوب حكيم و بليغ لم أجده سوى في نهج البلاغة و كلام الأئمة و القرآن الكريم.

 

ثُمّ فصلّنا الكلام في تلك المنازل الّتي تسمّى بـ [منازل السائرين] وعددها  يختلف من مدرسة لأخرى كل بحسب نظرته و نهجه و قد عرضنا أمثلة وافية و شافية لبعض تلك الأسفار, كمنازل إبن عربي و الشيخ العطار و الصدر الأول و غيرهم,كلها لأجل بناء و تطيّب القلب و تنويره بآلمعارف الكونية ليكون منطلقاً هادياً للناس محققاً رسالته في هذا الأمتحان العسير حقاً.
و إن الذي لا ينال حظا من تلك المراتب و المنازل عبر الأسفار ؛ فأنه يبقى خارج حلقة و مدار الأنسانيّة لآخر العمر و بذلك يحرم نفسه من الخير الكثير .. و البدء بتلك الأسفار التي عرضناها و العياذ بآلله, ليعيش داخل إطار محدود و محجوم و ضيّق لا ينال فيها الراحة حتى نفسه الراحة ضمنها .. بل و يأتي الظالمون المستكبرين  للتحكم بهم و بمقدّراتهم و باسم الأنسانية و الوطن و الدين ووو غيرها, و كما شهدنا و نشهد اليوم حتى على مستوى الشعوب و الأمم التي تتعرض للإذلال و التبعية و الذل, و الشعب العراقي خير مثال على ذلك لأن عقيدته لم تبنى على القلب و الباطن و كما أسلفنا .. إنمّا مجموعة ظواهر و شكليّات بُنيت على الحواس و الظنون و الأوهام للأستهلاك المحلي و الخصوصي, لذا ممّا تقدم نستنتج أنّ كل عمل ليس فقط حرام أو إرتكاب معصية؛ بل حتى الإتيان بمكروه يسبب الخلل في فكر الأنسان و بآلتالي يبعده عن نيل المطالب الكونيّة !؟
 

وفيما يلي نذكر هنا إجمالاً آليّة الأداة (الوسيلة) التي تُمثل الله في وجود الأنسان و التي  تقرر حياته و آخرته و مصيره:

آليّة ألقلب في إدراك ألمعارف : 

إنّ سبب إنحراف الحركات الإسلاميّة حتى الشيعيّة منها و فشلها في تحدّي الشيطان و نصرة الحقّ و كما حدث في العراق و غيره؛ هو عدم إستناد آيدلوجيتهم على أرضية فكريّة – ثقافيّة مستدلّة – يعني وجود ضعف واضح و كبير في بناء الجانب الأخلاقيّ و الرّوحي و العقائدي .. لهذا رأينا كيف إن قادة الأحزاب قبل آلأعضاء في الخط الثالث و الرابع من التنظيم ؛ قد مالوا نحو ربّهم الحقيقيّ و تركوا الله الحقّ, و بات الدّولار (الرواتب) هو المعيار في تحديد المواقف و العلاقات, فأفضلهم ليس فقط لم يسير ليعبر حتى منزلاً واحداً من منازل السالكين, بل وقف حجرة عثرة أمام الفكر و الأخلاق و القيم و باتت العمالة عندهم مسألة عادية بعد ما غيّروا أسماء أحزابهم ظنا منهم أنه سيخفف عنهم العذاب, لهذا سقطوا في الفتنة .. و تسببوا خصوصا ألذين أدّعوا بكون الصدر قائدهم؛ فغرتهم الحياة الدنيا, و صار الدولار عندهم هو الله بدل الله تعالى.
إنّ تفصيل آلبحث في تلك المنازل يتوقف على عرض ألعرفان ألإسلامي على الباحثين ، و هذا لا يناسب موضوع الكتاب ، وإنّما نذكر أثر طيِّ المنازل في تقويم الحياة العلميّة و آلأجتماعية و السياسية و الإقتصادية العملية.
 

إنّ لطيّ هذه المنازل أثرين بارزين في الوقوف على المعارف و حقائق الوجود, و بآلتالي إحياء الفكر و الوجدان الذي عبّرنا عنه – بصوت الله في قلب الأنسان – و بآلتالي الثبات على نهج عقائدي واضح لا يؤثر فيه المال أو السلطان و لا أية قوة على الأرض يهدده بآلموت:

 

1 – إنّ الباصرة الظاهرية تَقْدَر على رؤية الأشياء البعيدة عنها, و لكن إذا كان هناك ضباب أو غبار ، ينحصر البصر برؤية الأشياء القريبة ربما لا تتجاوز امتار محدودة فقط ، فالضباب والغبار مانعان للرؤية ، ولكن الباصرة مستعدة لها.
إنّ النفس الإنسانية قادرة على التعرّف على الحقائق الموجودة في مجال الحسّ و العقل. لكن العصبية والهوى و الأجواء الحاكمة يعميان الإنسان لينحرف بسهولة خصوصا لو كان الأعلام مسخراً لتمرير ذلك، فيعود منكراً للمحسوس والمعقول ، فأدنى أثر لطيّ هذه المنازل هو صيرورة الإنسان .. إنساناً خالصاً؛ مجرّداً عن الهوى والعصبية المعميين؛ كاملاً لا يطلب إلّا الواقع ولا يعشق إلّا الحقيقة، سواء أَ كانت لصالحه أم لا؛ وافقت انتماءه القومي أم لا، وغير ذلك من موانع المعرفة الّتي لها دور عظيم و رئيسي في درء الأنحراف , وسيأتي البحث عنها(6).

 

2 – إنّ طيّ هذه المنازل يُعطي للنفس قوّة و اقتداراً و ثقة للاتّصال بعالم الغيب، وإشراق صور ومعانٍ منه عليها، ويُلهم مفاهيم وحقائق لا يتوصل الإنسان العادي إليها بأدوات المعرفة الحسيّة والعقلية, وعلماء الأخلاق يوصون بأُمور ، و يحذّرون من أُمور: يُوصون بالإيثار والتقوى والشجاعة والاستقامة و الطيبة و طلب الخير للناس. و يحذّرون من البخل ، والانحلال ، والجبن والانخذال ولكنهم يكتفون بالإيصاء بتلك والتحذير من هذه ، من دون الإفاضة في كيفية توصّل الإنسان إليها ، وأنّه في ظل أي عامل يقدر على تحصيل الفضائل ، وتحت أي حافزٍ يستطيع اجتناب الرذائل ، فهذه النقطة الحساسة قد أُهملت في كتب الأخلاق ، فلا تجد فيها سوى الدعوة إلى الفضائل ولزوم التحلي بها ، والتحذير عن الرذائل ولزوم اجتنابها ، من دون بيان الطرق الّتي يصل بها الإنسان إلى تلك الأُمنية الكبرى.

 

وقد سدّ العرفاء الإسلاميون هذه الثغرة ، و بيّنوا الوسيلة الّتي يبلغ بها الإنسان تلك الأهمية ، وهي سلوك المنازل ألمختلفة والمتقدم ذكرها، ليصير الإنسان بعدها كاملاً ذا حسّ وعقل وشهود .. بحيث يستحق معها آلتّوحد مع الأصل الذي إنفصل عنه.

بإختصار بليغ؛ ألفكر – أعني به ألباطن و ليس الظاهر – أيّ من خلال العقل الواعي _ يعني حقيقة الأنسان و وجوده, و حين يجهد الأنسان لأجل معرفة الواقع و حقيقة الوجود و يجتهد حقاً و يرتقى إلى ما وراء ذلك سعياً لكشف الأسرار الكونية؛ فأنه لا بد و أن يتوصّل إلى تحديد (نظرية المعرفة) كدلالة لنهجه, و نحن كما يعلم اهل العِلم قد حاولنا و جهدنا حتى توصلنا لنظرية المعرفة الكونية ليكون منهجاً شاملاً لكشف حقائق الوجود كاملة و بشكل يرضي اهل القلوب و الوجدان، فنظرية المعرفة الكونية علم يبحث عن حقيقة الأنسان وآلكون وقيمتهما وأدواتها، و ما يرتبط بتلك من العوارض كمراحل المعرفة وحدودها وموانعها وغير ذلك، وهو من العلوم التي عكف عليها الغرب في القرون الأخيرة واضافوا عليه صبغة علم مستقل.

وقد بحث عنها الفلاسفة الإسلاميون في مختلف فصول علميّ المنطق و الفلسفة ، و لكنهم لم يفردوها بالبحث المستقل, لذا رأيت من واجبي أن أُقدّم مقالات و محاضرات تشتمل على ألمسائل المتعلقة ، مع التركيز على ما هو المحقّق في الفلسفة الإسلامية ، والتطرق إلى آراء الغربيين فيها ، فكانت مقالاتي و كتبي هي الجواب ، و ثمرتها مجموة من الكتب الجديدة في مجال الفكر الكوني الذي يعتمده معظم أساتذة الفلسفة و العلماء في العالم ، وهي نتيجة ثمرة أكثر من 60 عاماً من البحث.

 

وقد بذلنا  الكثير من الجهود و تحمّلنا ألوان الغربة و الفقر و الجوع لتحقيق ذلك .. وأسأله سبحانه أن يوفقنا لأيصاله للناس كافة لتحقيق الكمال ، بجناحي المعرفة و العمل، إنّه على ذلك قدير ، وبالإجابة جدير.

والعقل ، وما يتركب منهما و بها يكتسب ما لا يعلمه إطلاقاً ، أو يُخرج إلى الفعلية ما يعلمه بالقوة من الإدراكات الفطرية الأولية و انكار واحدةٍ من تلك الأدوات ، نتيجته شلّ الفكر الإنساني عن إدراك ما يحيط به من كونٍ و وجود، غائب و مشهود. كما أنَّ إثباتها مع إنكار كاشفيتها أو القول بنسبيتها أو الشك فيها ؛ نتيجته تخطئة المعارف والعلوم البشرية ، وسلب الإنسان ذلك الكمال. 

الفتوحات ألغيبيّة و آلذّكر ألحكيم: 

إنّ في الذكر الحكيم لآيات كثيرة تصرِّح بأنّ الإنسان المتّقي ، المُتحلّي بالفضائل ، و المُنزّه عن الرذائل كما أشرنا أعلاه ؛ ترعاه عناية الله تعالى، و تفيض عليه بالهداية بعد الهداية ، و العلم بعد العلم ، و لا يزال يرقى مدارج المعرفة حتّى يبلغ مقام شهود عالم الغيب, و نذكر فيما يلي نبذة منها.

 

1. يقول عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(7), أيّ يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحقّ والباطل ، وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، تارة بالبرهنة والاستدلال ، وأُخرى بالشهود والمكاشفة. 

2. ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(8), و المراد بالنور ، النور الّذي يمشي المؤمن في ضوئه في دينه ودنياه وآخرته ، وهذا النور نتيجة إيمانه وتقاه. ويوضحه قوله سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)(9). 

3. ويقول سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(10), فإنّ العطف يحكي عن وجود صلة بين التّقى والتعليم.
4. ويقول سبحانه : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)(11). والمراد رؤية الجحيم قبل يوم القيامة ، رؤية قلبية. وهذه الرؤية غير متحققة لمن ألهاه التكاثر ، لأنّها من آثار اليقين ، ومن ألهاه التكاثر خلو منه.
5. ويقول سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ)(12). فلو أقام الإنسان نَفْسَه في مسير الهداية ، وطلبها من الله سبحانه ، زاده تعالى هدى وآتاه تقواه. ولا تختص الهداية بالعمل حتّى تُفَسَّر بتوفيقه سبحانه للطاعات ، بل هي أوسع من ذلك.
6. ويقول سبحانه : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً)(13). والآية تبيِّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم وتغرّبوا حفظاً لدينهم ، فزاد الله من هداه فيهم ، وربط على قلوبهم ، كما يقول سبحانه: (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)(14).
 

فهذه الآيات تُعرب عن أنّ نافذة الفتوحات الباطنية ، والمكاشفات والمشاهدات الرّوحيّة ، و الإلقاءات في الرَّوْع ، غيرُ مسدودة ، بل هي تتنزل على الأمثل فالأمثل من أفراد الأُمّة ..

ألإمامُ عليّ و آلإنسان ألكامل: 

وللإمام علي بن أبي طالب(ع)، تصريحات وإشارات إلى انفتاح هذه النافذة أمام قلب الإنسان ألذي وصل مستوى الآدميّ: 

1. يقول (ع) في وصف للمُتّقي : [قد أحيا عَقْلَه ، وأمات نفسه ، حتّى دقَّ جليلُه ، ولطف غليظه ، وبرق له لامعٌ كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل](15).

 

2. ويقول (ع) في حجج الله تعالى في أرضه كما أورده المجلسي في بحاره : [كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحججه، إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا  لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عددا، و الأعظمون قدرا  بهم يحفظ الله حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا  روح اليقين، واستلانوا ما استوعر المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، و صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الاعلى، يا كميل أولئك خلفاء الله], لهذا علينا عدم ترك أهل العلم و الفكر لأنهم إن رحلوا رحلوا .. ولا سبيل للإستفادة منهم و كسب علمهم, فقد رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)؛ [عليه السَّلام ) أنَّهُ قَالَ : [ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ : مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَهْلُهُ. وَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ. وَ مُصْحَفٌ (كتاب) مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ لَا يُقْرَأُ فِيهِ](16). 


3. ويقول عليه‌السلام : [و ما برح لله عزّت آلاؤه ، في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات ، عبادٌ ناجاهم الله في فكرهم، و كلَّمهم في ذات عقولهم](17).

هذه الآيات والروايات توقفنا على أنّ المعرفة الحقيقية الّتي تحيا بها نفس الإنسان ، لا تُستوفى بالسَّير الفكري ، و إنّما بتهذيب النفس و الرّياضات الروحية، و تطهير القلب ، و الانقطاع عن كل شيء، حتّى يرفع دونها كل حجاب مضروب، وكل ستار مسدول ، فيرى عالم الغيب و يعاين معارفه و حقائقه بعين القلب.

 

و إكمال هذا البحث يتوقف على شرح الأسفار الّتي يسلكها العارف في سيره الروحي و المعنوي ، حيث وفقنا الله لبحثها بإسلوب بليغ و واسع في بحوث منفصلة ضمن سلسلتنا الكونية, فيرجى مراجعة ذلك لمعرفة الكثير, و لكل منا طريقه ونهجه آلمعرفي للوصول إلى الله, حيث يقول الحديث ألشريف ؛ [ألطرق إلى الله بقدر أنفاس الخلائق].

 

هذا ، و لا يحق للباحث ألعزيز الكريم أن يستنتج ممّا تقدّم أنّ دعوى آليّة القلب و المكاشفة و الشهود و الإلهام ، في كسب المعرفة الحقّة؛ إحباط لمقام الحسّ و العقل الظاهر, أو إنكار لفضلهما و لزوم إعمالهما. لا ، ليس الأمر كذلك أبداً ، بل إنّ لكلّ أداة مقامها و قوتها و مداها، و مجال عملها ، لكننا نحث لبيان آليات أخرى أوسع مدى و أبعد قوة لمعرفة أسرار هذا الوجود!

ألوحيّ: 

إلى جانب ما أسلفنا؛ هناك أداةً أُخرى تقرُب من الإلهام والإشراق و المعرفة، وهي المسمّاة بالوحيّ في مصطلح الشرع و الغيب، وهو الّذي يخصّ به الخالق تعالى أنبياءه و رسله بعد إختيارهم.

 

والوحي إدراك خاص مُتميّز عن سائر الإدراكات ، و ليس نتاج الحسّ ولا العقل ولا الغريزة؛ إنّما هو شعور عميق خاص يُوجده سبحانه في بعض عباده الصالحين من العرفاء الحكماء، وهو يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامّة, و إن من ينزل عليه الوحي لا يغلط في إدراكه، و لا يختلجه شك، و لا يعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله تعالى، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة أو برهان, و لو افتقر إلى شيء من ذلك لكان اكتساباً عن طريق ألقوة النظريّة لا تلقّياً من الغيب. 

و الفرق بين الوحيّ ألألهي و ما تقدم من الإلهام والإشراق؛ هو أنّ الوحي يتضمن تعاليم في مجالي العقيدة و العمل، فيكون الموحى إليه نبيّاً مبعوثاً من جانب الخالق تعالى لتربية و هداية الناس و تزكيتهم لتحقيق الهدف من الخلق و النشأة.

 

و هذا بخلاف الإلهام و الإشراق؛ ألّلذان لا يتضمنان تشريعاً ولا تقنيناً ، ولا يكون المُلْهَمُ مبعوثاً من جانبه سبحانه لتبليغ ما أُلهم, إنما يمكن إعتبارهم أنبياء (أرضيون) أنعم الله عليهم الخير كله عبر الألهام و الأستشراق لتبليغ رسالته العظيمة. 

قيمة الإلهام و آلإشراق: 

إنّ قبول قولٍ بلا حجة ولا برهان ، خروج عن الفطرة ، فالإنسان العاقل هو من يقبل الدّعوى إذا قورنت بالدليل، فصاحب المعرفة الحسيّة أو العقلية يصحّ له تعميم معرفته إلى غيره ، فيرشدنا إلى مُبْصرَاته و مسموعاته ، فنقبلها لأجل تطابق الحسَّيّن .. و يرشدنا إلى ما عَقَلَه ُبالبرهان ، فنتعقله به أيضاً.

و أمّا مُدّعي الإلهام، فبما أنّه يدّعي أمراً غير محسوس ولا معلوم بالبرهان؛ يكون شهوده حجّةً على نفسه و مريديه فحسب، و دليلاً لهم لا لكل الناس, و لا يُمكنه تعميم ما ألهم و أَشْرَقَ على قلبه كما كل  الإشراقيين، وإراءته لغيره ليشاهده و يعاينه ويشرق على قلبه .. لأنّ للإلهام والإشراق مبادئ و مؤهلات خاصة ، كما تقدّم.

 

و لكن مع ذلك ، لا يكذّب مدّعي الشهود والكشف ، غاية الأمر أنّه لا يمكن تعدية ما انكشف له ليكون قاعدة مطردة في مجالات العلم والمعرفة .. نعم ، إذا تضمَّن الاتّصال بعالم الغيب تنبّؤاً بالوظائف الإنسانية في مجالَيْ العلم والعمل ، كما في الوحي؛ يكون حُجّة على الجميع, و يكون المخبر نبياً ، و التابعون له أُمة ، و للبحث في هذا .. مجال آخر.

كما عرضنا في آلمباحث ألسّابقة بأنّ إشد المصائب على أمّة أو شعب أو حزب أو عشيرة أو جماعة أو حتى عائلة في حال عدم تحقق حقّ اليقين في وجوده؛ هي إصابتهم بالتفرقة و الخصام و العداوة بينهم بسبب (الأنا) و التسلط نتيجة فقدان الثقة و شيوع الغيبة و الكذب و النّفاق لقلة المعرفة و الأدب و إرتكاب الذنوب و في مقدمتها لقمة الحرام التي يكون دورها هدّأم و مخرّب كآلمعول في هدم روح و فكر الأنسان و العائلة و المجتمع ككل, لهذا حذّرنا الله تعالى و كذا المرسلين و الأئمة و المصلحين و الحكماء و العرفاء بوجوب الوحدة و التآلف و المحبة و آلأنسجام بين الجماعة لأدامة الحياة و تأدية ألرسالة التي وجدنا من أجلها على أحسن وجه, لأنّ الخلاف يُؤدي كما وصف القرآن إلى أن الخلاف يؤدي إلى الفشل و ذهاب ريحكم و تضعيف همتكم و توقف تطوركم و نموّكم و رفاهكم, لهذا قال الحكماء و الأئمة (ع) ؛

[لو سكتَ الجّاهل ما إختلفَ الناس] أو [… لإرتاح العالم], لانه يُسبّب تشويش الفكر و تخريب الأذهان, و بآلعكس بآلحكمة و الأرادة القوية تقصر المسافات و تتحقق الآمال!

قبل بيان تفاصيل موضوع هذا الفصل, و كما أشرنا في نهاية الحلقة السابقة؛ لا بدّ من بيان بعض الحقائق النافذة في المجتمعات القائمة  المختلفة اليوم, بخصوص الفكر أو الرأي آلآخر, فآلدّكتاتوريات الحاكمة بمسميات شتى كآلدّيمقراطية و الأسلامية المؤدلجة و الجّمهوريّة الشعبية و الإشتراكية الليبرالية و الشيوعية و الاميرية و الملكية و غيرها؛ لا تسمح بحريّة الرأي و تداول المسائل الخلافيّة, بل يجب أن يكون بداية و متن و نهاية كلّ موضوع أو بيان أو مقال أو خطاب مختوم باسم و بحُب الأمير أو الملك أو الرئيس أو الحزب الحاكم, و إلاّ فأنك من المخربيين, و يجب معاقبتك بشتى الوسائل الممكنة و المتوفرة حتى تموت من الجوع, فآلعقل نعمة كبيرة علينا الأستفادة منه, و ليعلم المثقفين و المفكرين بأنّ (شرّ آفات العقل الكِبر) و (مّنْ لا يعرف لأحد ألفضل فهو آلمُعجب برأيه) و غيرها من النصوص الكونيّة, و لا يحصل العِلم و المراتب الكونيّة مهما تكبّر كما الأرض العالية التي لا تبقى فوقها ماء .. بل تسيل من جوانبها لتسكن الأرض المنحنية الواطئة, لهذا يجب عليهم إعادة التفكير بوضعهم, و أليكم نصّ من مقال بهذا الخصوص(18):

[وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ].
بالنِّسبةِ لـ (القافُل) كما هو حال المجتمعات ال
بشرية المختلفة؛ فأَنت أَمام أَحد خيارَين؛
إِمَّا أَن تُفكِّر كما يُفكِّر هوَ أَو كما يُفكِّر [عجلهُ السَّمين] الذي يعبُدهُ مِن دُونِ الله تعالى و تعتقدُ بما يعتقدُ بهِ هوَ، أَو أَن تخرجَ من [المجموعةِ] فلا تبقى فيها [تُخرِّب أَفكارنا]!.

 

خياران لا ثالِثَ لهُما {لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ۖ}؟. 


 أَو أُسكُت ولا تتكلَّم أَو تكتب أَو تنشُر {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}؟.

 

ويقولُ تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.

 

[القافُل] يتلبَّس بلِباسِ الحريصِ على دِينِ النَّاس الذي يحمي البلادَ من الفسادِ بكُلِّ أَنواعهِ ليُحصِّنَ نفسهُ بالقُدسيَّة المُزيَّفةِ في حالِ تصدَّى للمُصلحِ أَو للأَفكارِ التنويريَّةِ أَو أَرادَ أَن يغتالَ شخصيَّة المُتصدِّي للفسادِ والفشلِ بالتَّسقيطِ والمنشُوراتِ الصَّفراء والتُّهم والإِفتراءات.

يقُولُ تعالى {قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ}.

 

مُشكِلتهُ أَنَّهُ أَجَّرَ عقلهُ لـ [الصَّنم] الذي يعبُدهُ من دونِ الله، فهوَ لا يفقهُ شيئاً على الرَّغمِ من أَنَّ الله تعالى منحهُ القلبَ والعقلَ ليفقهَ بهِما الأَشياء.

 

وهوَ لا ينظرُ إِلى الأُمورِ بعَينَيهِ وإِنَّما بعُيونِ الآخرين [الصَّنم مثلاً] على الرَّغمِ من أَنَّ الله تعالى منحهُ عَينَينِ ليرى بهِما لا ليضعَ عليهِما غِشاوةً!.

 

وهو لا يسمعُ مُباشرةً بأُذُنَيهِ من صاحبِ العِلاقةِ مثلاً ليعرِفَ الحقيقة أَو ليُميِّزَ بينَ الأُمُورِ، وإِنَّما استعارَ آذان الآخرينَ ليسمعَ بهِا، على الرَّغمِ من أَنَّ الله تعالى منحهُ أُذُنَينِ ليسمعَ بهِما.

 

يقُولُ تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}. 

وقَولهُ تعالى {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.

 

ثُمَّ تُعاتبني إِذا وصفتُ (القافُل) بالدَّابَّة مثلاً؟!.

 

يقُولُ تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).

 

خُلاصةُ الأَمر أَنَّ [القافُل] غافِل في أَحسنِ الفروضِ!. 


حيث ختم مقاله بآلقول: فكيفَ نتعامل مع [القافلين], مضيفاً؟

 

– لا تُجادلهُم لأَنَّ الجِدالَ معهُم عقيمٌ لا يولَدُ منهُ شيئاً وأَميرُ المُؤمنينَ (ع) يقُول {فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ} فهُم يستهلكُونَ جُهدك ووقتكَ من دونِ أَن تلمِسَ لكُلِّ ذلكَ أَثرٌ.

 

– لا تُحاولُ كثيراً نصحهُم فـ [القافُل] يتصوَّر أَنَّ النَّصيحة [تنازُلٌ] ولذلكَ فالتَّركُ أَولى {وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِىٓ إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} أَو أَنَّها ضربٌ من الجنُون {إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعْتَرَىٰكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٍۢ}.

 

– و بالنِّسبةِ  لِـ [القافلِين] فأَنت [خوش آدمي] مادُمتَ تُغرِّد في سربهِم! لكنَّكَ مغضُوبٌ عليكَ [عميل، جوكر، مأجور، وما شِئتَ فعدِّد] إِذا اجتهدتَ برأيٍ فهمُوهُ أَنَّهُ تغريدة [خارج السَّرب] {قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَآ ۖ}.

 

– تجنَّبهم قدر ما تستطيع فإِذا رأَيتَ أَحدهُم يسيرُ على جانبٍ من الرَّصيف فاقفز أَنت إِلى الجانبِ الآخر، لأَنَّهم يُحاولُونَ دائماً التحرُّش بكَ ليجرُّوكَ إِلى شِباكِهِم، فإِذا نزلتَ إِلى مُستواهم خسرتَ أَشياءً.

 

– و [القافِلون] قد يتجاوزُون [لسانهُم] فيمدُّوا أَيديهِم إِلى خناجرهِم أَو [كواتمهِم] إِذا أَوجعتهُم برأيٍ قويٍّ دُستَ بهِ على رأسِ [عجلٍ سمينٍ] خاصَّةً إِذا كُنت مكشُوفَ الظَّهر بِلا عشيرةٍ تحميكَ! {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ }.

 

– [القافِلونَ] لا يُناقِشون الأَفكار لأَنَّ الأَفكار لا تعنيهِم، وهُم لا يُحاورُونَ ليصِلوا معكَ إِلى الحقيقةِ أَو على الأَقل إِلى مُنتصفِ الطَّريقِ، لأَنَّ كُلَّ هذا لا يعنيهِم.

 

إِنَّهُم مُجنَّدون للتَّشويشِ على الأَفكار لتضييعِها، ولذلكَ تراهُم عندما لا يُعجِبهُم رأيٍ أَو يشمُّونَ فيهِ محاولةً لفضحِ فاسدٍ أَو – فاشلٍ، يشرعُون في معرِضِ ردِّهم بالسَّبِّ والتهجُّمِ والطَّعنِ والإِتِّهاماتِ الباطلةِ، فأَين المنطقُ في كُلِّ هذا؟!

أَين ردُّهُم على الفكرةِ والرَّأي؟! لا يوجدُ شيءٌ من هذا القبيلِ أَبداً.

 

– إِنَّهم الحمقى الذين عجزَ عن مُداواتهِم نبيَّ الله عيسى (ع).

 

– و صدقَ مَن حذَّرَ منهُم بقَولهِ [ما جالستُ أَحمقاً فقُمتُ إِلَّا وجدتُ النَّقصَ في عقليّ].

 

و أَخيراً؛ فإِنَّ مُشكلة المُتعصب المُتحجّر فكرياً, أو ما أطلق عليه بـ [القافُل] هي أَنَّهُ يعبُد هواهُ [مصالِحهُ] ؛ [أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ]؟

و المصالحُ تُختمُ – تعمي – القلبِ و البصرِ فلا يبقَ منفذاً للتَّأثيرِ، إِلَّا إِذا لامستَ مصالحهُ!
و لا يتحقَّقُ ذلكَ إِلَّا بالباطلِ عادةً!

 

  • و هذا النوع هو الشائع اليوم بين مجتمعاتنا و هو الأخطر على الفكر و الأنتاج العلمي, و لعله السبب المباشر في إعتمادنا الأساسي و الدائم على الغرب و الشرق لبناء وطننا, حتى عملية التنظيف لشوارعنا و التي لا تحتاج إلى علوم معقدة.

    كما مرّ .. قلنا : بأنّ الفكر و التّفكر يتجمّع و يتشكل في ذهن الأنسان و يستوطن قلبه شيئا فشيئا منذ ولادته بل قبلها من مصادر مختلفة كآلوالدين و المحيط و المدرسة و الأصدقاء و الأعلام و الدّين و غيره – بغض النظر عن صحتها أو عقمها؛ حيث إن سلوكه هو الذي يعكس ماهيّة تلك الأفكار و المبادئ التي إختزنها, فلو كانت تلك الأفكار و المبادئ خاطئة و منحرفة فإنّ آلنتيجة تكون خاطئة و فاسدة, و يظهرون أخلاقا سلبيّة و سيّئة, خصوصاً عند تعاملهم مع حقوق الناس و كرامتهم ناهيك عن الصّفات الأخرى كآلكذب و الغيبة و الحسد و النميمة و الظهور على حساب الآخرين, فهذه كلّها مفاسد تسبب بدورها مفاسد إجتماعية خطيرة تُعمم  وىقد لا تُصلح بسهولة!
    و لأصلاح الفكر نحتاج إلى إصلاح المقدمات لتقويم النتائج!

    و إصلاح المقدمات لا تكون بشعارات ظاهرية أو محاضرات موسمية أو تزويقات سطحية و كما هو السائد الآن في بلادنا, لأنها لا و لن تؤثر في شخصيّة الفاسد .. بل البناء العقائدي و الفكري  يجب أن يشمل الباطن بتعبئته بكل ما هو خير و أدب, يعني إيجاد الوسائل و الطرق التي من خلالها ننفذ لباطنه لتغذيته بتلك المبادئ حتى يتهيأ المعني للبدء بآلسفر, و هذا ما أكّد عليه الباري تعالى في آية عظيمة هي محور التغيير و علته, حيث قال تعالى:

    […لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم](19), بمعنى عملية التغيير يجب أن تكون شاملة للجميع, و لا يمكن أن يتغيير فرد أو عائلة دون تغيير باقي أبناء المحيط و المجتمع, فآلتأثير هنا متبادل, و الوسائل و البرامج المتبعة قد بيّناها في مواضيع سابقة و في كتاب خاص بهذا الشأن(20), و بذلك نقضي على الأفكار الخاطئة و نستبدلها بآلأفكار النافعة!

    وتجدر الإشارة إلى أنّ [الأمر بآلمعروف و النهي عن المنكر], لها شروط شرعيّة يجب أن يعرفها و يدرسها ألآمِر بذلك, وهي؛
    أن يكون محيطاً بآلزمان و المكان.
    ألا يؤدِ إلى منكر أكبر من الأول. 
     

    الموازنة في حال اختلط المنكر بمعروف. 

    المسائل الخلافية لا تدخل في الأمر والنهي. 

    المعرفة بحال من يأمره أو ينهاه. 

    أن يكون المنكر ظاهراً.

    و قد حدّدت الفلسفة الكونيّة أربعة شروط أخلاقية – فنّية للحوار من أجل التغيير نحو الأفضل وهي:
    أن يكون صادقاً في حواره و نقاشه مع الآخر.
    أن يكون المناظر واعياً للقضية المطروحة.
    أن يعي جيدا ما يطرحه المقابل من مسائل.
    أن يقبل بآلدليل الذي لا يُمكن ردّه علمياً. (21).

    في سبعينيات القرن الماضي و بينما كنت منهمكاً في هداية البعض(22) بحسب برامج و نقاشات مرحلية وعلمية مُعمّقة كانت بعضها تقتضي أشهراً و ربما يتجاوز العام – لإقناع البعض ممن يدعي الإسلام في هويته – المريض .. ألمنحرف في أفكاره و معتقداته – و أثناء تحركنا و سعينا لأقناعهم بوجود خالق للكون و بآلتالي رسالة يجب الألتزام بها لتحقيق الهدف من وجودنا و في تلك الظروف ألامنية القاسية التي كنّا نُعبّر عنها بسنوات ألمحنة و الجّمر ألعراقي, لصعوبة العمل و التحرك بسبب أجهزة نظام الجهل البعثي المتوحشة التي كان هدفها الأول القضاء على الفكر و الحرية وآلأخلاق و القيم لمسخ الشعب العراق و قد نجح إلىحدّ بعيد, خصوصا لو علمنا بأن رئيسهم الجاهل صدام قد صرّح بعد إستلامه رئاسة العراق؛ بأنه لن يترك العراق إلا أرضا بلا إنسان و بآلفعل كان له ما أراد.

    في تلك الأجواء ألرّهيبة .. إهتدى أحد الأخوة و كان طبيباً و مثقفاً لكنه تسبب لي بأمراض مزمنة ما زلت أعاني منها بعد أكثر من 40 عاماً منها قرحة المعدة, على كل حال, قلت له ياعزيزي؛ الآن علينا أن نغتسل و في صباح الغد سنذهب إلى النجف لزيارة قيادتنا الحقيقية المتمثلة بآلمرجعية الدينية, ليبارك الله لنا في إيماننا و عملنا في ذلك اللقاء إن شاء الله, و عند وصولنا في اليوم التالي للنجف ذهبنا بعد زيارة الأمير العلي الأعلى إلى بيت السيد الخوئي (رحمه الله) و جلسنا عنده بحدود ساعة كاملة إستمعنا خلال اللقاء إلى نقاشات جرت بين اية الله السيد محمد حسين آل ياسين و السيد الخوئي و آخرين نسيت أسمائهم, لكن المفاجأة التي حدثت و التي أحزنتني, هي أن أحد أبناء السيد (رحمه الله) تقرّب منّا(أنا و صديقي الذي إهتدى لتوه) وقال بدون مقدمات و هو يؤشر بإصبعه؛ أخي لا يجوز لبس هذا الخاتم (حلقة الزواج) لأنه من ذهب, و الذهب حرام على الرّجال و لو أردت السبب أستطيع بيانه لك!!؟

    لكن صديقي العاقل ؛ المثقف ؛ و الذكي ردّه على الفور قائلاً : أنا طبيب و أفهم منك أكثر ولا داعي للتوضيح, فأنسحب السيد و جلس محله, و قبيل خروجنا سنحت لي فرصة قصيرة قلت فيها لإبن السيد … ما هذا الذي بدا منك كان عليك أن تكون حليماً أكثر .. قضيت ما يقرب من سنة كاملة و أصابني ما أصابني حتى إهتدى و أنت بإسلوبك الجاف قد تركت أثراً سيئا في نفسه؟

    حنى رأسه و رحل, و بعد خروجنا من محضرهم, قال لي على الفور: لا يمكنني قبول مثل هؤلاء كقادة لي .. قائدي هو الامام عليّ و الأئمة و الرسول (ص) و هؤلاء مجرد جماعة عاطلة عن العمل و الأنتاج و لا نفع فيهم .. إنزعجت كثيراً و قلت له: يا صديقي العزيز ؛ مهلاً فهؤلاء بشر مثلنا قد يخطؤون و قد يصيبون و عليك أن توسع صدرك .. فهناك مراجع عظام أعظم من هذا بكثير و سأُريكهم, قال هيا إذن, فأخذته على الفور إلى بيت إستاذي الشهيد العارف الحكيم محمد باقر الصدر و كان هذا عام 1978م, و بمجرد دخولنا لحضرته في تلك المقبرة التي كان قد إتّخذها بيتاً و مقرا له, بدأت دموعنا تنهمر بلا إرادة, بعد ما سألني هل هذا هو كاتب (فلسفتنا و إقتصادنا و الأسس المنطقية ووغيرها) قلت نعم يا صديقي الطيب!؟

    فبدأ صراخنا و بكائنا يزداد بحيث فقدنا السيطرة على أنفسنا, و الشهيد الصدر ينظر إلينا و عيناه كانت تدمع و كأنه أحسّ بتفاصيل ما جرى و يجري علينا و عليَّ بآلذات, لأنه كان عارفاً و حكيماً و ينظر بعين الله لا بتلك العين المجردة كحاسة للنظر و كما يفعل بقية مراجع الدين التقليديون, لقد كان حقا ممّن تطهّر من كل الموبقات و هو أساساً لم تنجسه الجاهليات الفكرية و لا الحزبية ولا المادية ولا غير .. بل كان منذ الطفولة عالماً و صادقاً و طاهراً كآلماء الزلال, لهذا بقيت أفكاره و علومه نافذة لحدّ الآن رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها, لهداية الناس و كأنه يعيش بيننا.
    بإختصار بعد جلوسنا في حضرته بحدود ساعة أيضا خرجنا بعد توديعنا له بآلدموع من تلك الغرفة في تلك المقبرة الصغيرة, و إذا بصديقي الطيب يقول لي و دموعه على خدّيه: [هذا هو الأمام القائد الذي يجب أن يقودنا و يقود العالم]!

    خلاصة الكلام ؛ سلوك الأنسان الحكيم و صمته يجزي و يعادل عشرات القصص و المحاضرات أحياناً!؟
    و قد قلنا في حكمة كونية : [إذا ضاق بنا ثوب الكلام فعلينا بإرتداء ثوب الصمت].
    لذا علينا تعلّم فنّ الصّمت , لنعرف كيف نتكلم بحكمة و بآلتالي نربيّ جيلاً سليماً !
    و بتمكننا من القضاء على آفات الفكر و تحصينه من الأنحراف و آلفساد, نتمكن من إحياء الخيال الخصب لتحقيق رسالة السماء بإذن الله.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) سورة الإسراء : الآية ٧٠. 

(2) سورة البقرة : الآية ٣٤ والإسراء : ٦١. الكهف : ٥. طه : ١١٦. 

(3) سورة العلق : الآيتان ٤ و ٥. 

(4) سورة البقرة : الآية ٣١. 

(5) سورة النحل : الآية ٧٨.
(6) الأنفال : ٢٩. 

(7) الحديد : ٢٨. 

(8) الأنعام : ١٢٢. 

(9) البقرة : ٢٨٢. 

(10) نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٥. 

(11) نهج البلاغة ، الكلم القصار ، الرقم ١٤٧, من كلام له(ع) لكميل بن زياد النَّخعي. 

(12) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٨.
(13) التكاثر : ٣ و ٤.

(14) محمد : ١٧.
(15) الكهف : ١٣.
(16) 
الكافي 2 / 613 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران.
(17) الكهف : ١٤.

(18) مقال للكاتب نزار حيدر برقم 15 لسنة 2021
م, من سلسلة (أسحار رمضانية), حيث يطابق صياغته الموضوع.
(19) [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ](الرعد/11) لاحظ الآية بدأت بـ (إنّ) وهي من الحروف المشبهة بآلفعل.
(20) راجع كتابنا الموسوم بـ [أسس و مبادئ المنتدى الفكري], و يختص بكيفية أقامة المنتديات كأفضل وسيلة فاعلة للتغيير و التأثير إيجابيّاً بمسار الأمة كهدف مركزي لفكرنا و تحركنا.
(21) إليكم أسس و شروط
 الأمر بآلمعروف و النهي عن المنكر و تدخل ضمن أصول الدّعوة في آلفلسفة الإسلامية:
العلم؛ ينبغي على الآمر بآلمعروف و الناهي عن المنكر أن يكون على عِلم بالحكم الشرعيّ فيما يأمر به أو فيما ينهى عنه ولا يصح منه الكلام وفق الظن أو التقدير أو وفق ما يلتزمه هو من عادات و أعراف و معتقدات و نحوها مما لا يعرف حكمه, (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر الا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فما ينهى عنه). 
و قيل نقلاً عن بعض الأعلام: (فإن كان من الواجبات الظاهرة أو المحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها تقريباً، و إن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بأصول الاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه و لا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء) إذنْ ثمّة أمور يعلمها آلمسلم و ثمة أمور يختصّ بمعرفتها أهل العلم والمجتهدين، فالمسلم العاميّ يعلمُ أمورَ الصلاة والصيام ونحوها من الواجبات، و يعلمُ حرمة الرِّبا و الغش و كشف العورة فينهى عنها، وهذا ما يسمى بالمعلوم من الدّين بالضرورة، و ما سوى ذلك يختص به أهل العلم.
الأولى فالأولى: القاعدة في هذا أنْ يبدأ بالأمر بالواجبات قبل السنن وأنْ يَنهى عن المحرمات قبل المكروهات، و كثيراً ما يجتمع في الموقف الواحد معروفان أو منكران، فيُشْكِلُ على المسلم بأيّهما يبدأ – بالأمر أم بالنهي؟ فإن الأَوْلى في كل ذلك أن يقدم الفرض قبل السُّنة في الأمر وأن يقدم في النَّهي المُحرم قبل المكروه، إلا إذا كان يَقدر على أحدهما دون الآخر فيأمر أو يَنْهى على ما يقدر عليه دون ما لا يقدر عومن مثال ذلك لو اجتمع في بائع الغش والحلف في البيع، فالغش من المحرمات و الحَلفُ من المكروهات فيجب تقديم النهي عن الغش – على النهي عن الحلف، و لكن إنْ خشي على نفسه أو لم يَقْدِر لسببٍ صحيح على أنْ يَنهى عن الغش فله أنْ يَنْهى عما يستطيعه، و ذلك لا ينفي أنْ يَنْهَى عن المخالفتين معاً لكن لا بد من مراعاة الأولى فالأولى, أمراً أو نهياً, كما قد يجتمع منكر يحتاج إلى نهي عنه مع معروف يترك يحتاج إلى أنْ نأمر به، و مثال ذلك:
إقامة الصلاة بعد دخول وقتها وأحدهم جالس لم يقم إلى الصف و قد لبس لباسا متسخا، فهنا هل يأمر هذا الجالس أن يقوم إلى الصلاة أم يذكر له اتخاذ الزينة من اللباس عند الصلاة؟ وقد يكون الموقف لا يستوعب إلا أمرٌ واحدٌ!
والجواب؛ أنْ يقدم الأولى .. فالأولى وهنا لا شك أنه الأمر بالصلاة.
أ لا يؤدِ إلى منكر أكبر من الأول: وهو فقه مهم يغفل عنه الكثير من الناس بل ربما بعض الدُّعاة، و ذلك مستنبط من الأحاديث الكثيرة التي وردت, يجب الحرث على عدم فوات ما هو أبلغ وأهم منه أو خشية وقوع فتنة بين الناس، وكم سمع الناس بنهي عن منكرٍ جرَّ منكراً أعظم من الأول، وما وقوع ذلك إلا لقلة الوعي و الإخلاص.
الموازنة في حال اختلط المنكر بمعروف: و هذا يشبه النقطة السابقة في وجه، ومن مثال اختلاط المعروف مع المنكر ما قد يقع في بعض المراكز و المساجد مما يخالف روح الإسلام من بدع أو عادات, فإن نهى أحدهم عن تلك المخالفات لربما أدّت إلى نفور الناس عن آلمركز أو المسجد، فالتصرف الصحيح هو الطيب من القول و الهداية إلى الصراط الحميد.
المسائل الخلافية لا تدخل في الأمر و النهي و يجب الرجوع فيها إلى العالم الحكيم: وذلك إذا كان الخلاف معتبراً عند أهل العلم وخاصة عند المذاهب الإسلامية المتبعة، لأنَّ لكل مذهب إمام و دليل عليه العمل، ولا يمكن أنْ يتفق أهل العلم في كل الفروع والأحكام لكن يجب الحفاظ على وحدة المسلمين ما أمكن، والمصيب واحد, لأنّ الحق واحد لا يتعدد والمخطئ غير متعيّن لنا ولا يمكن الجزم بالصواب مطلقا، والإثم مرفوع عن المجتهد وعمّن يتابعه و يقلده ما دام لا يصل حدّ الدّم و ذهاب كرامة أو تشويه سمعة ولا يمنع ذلك من الرّدِّ العلمي ومناقشة المخالف بالأدلة البيّنات ونحو ذلك, و الخروج من الخلاف حسن مستحب مندوب إلى فعله برفق كما قالوا خصوصا حين تحيط المخاطر بآلأمة و تهدد مصيرها.
الخروج من الخلاف أو تركه واجب  إذا لم يلزم منه إخلال بحكم آخر أو وقوع في خلاف آ
عظم أو مفسدة أما الخلافُ الشّاذُ أو غير المعتبر فيحق تركه, بل يجب الإنكار على صاحبه، لعدم قيامه على دليل مقبول ولا قيمة لهذا النوع من الخلاف ولا يمنع من الإنكار.
يجب المعرفة بحال من يأمره أو ينهاه: و هذا نحو من دخل بلداً وهو لا يعرف عاداتهم أو لهجاتهم أو مذاهبهم الفقهية وسوى ذلك، وخاصة ما قد يكون ممّن حاله الاضطرار كمن جاز له أكل الميتة أو لحم الخنزير، و كمسافر أفطر في رمضان و نحو ذلك واختلال معرفة أحوال من نأمره بمعروف أو ننهاه عن منكر؛ قد يتسبب بالخطأ أو الحرج أو الوقوع في منكر آخر.
أن يكون المنكر ظاهراً: فلا يتحسس و لا يتجسس على الناس، فلا يصحّ و لا ينبغي لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنْ يتتبع عورات الناس و يكشف أستارهم و لا يبحث عما لم يظهر منهم و هذا فساد عظيم يؤدي إلى دمار المجتمع، و استثنى العلماء من ذلك ما يفوت استدراكه من المُحرَّمات كمن اختلى برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها فيصح الإقدام على الكشف
 واجب لإيقاف وقوع الجرم.
أنْ يكون المنكر واقعاً في الحال لا في الماضي: فلا يجري الإنكار على ما وقع من شخص ما من منكرات في أزمان ماضيّة، إلا إن كان من باب التذكير بالتوبة أو وقوع المفاسد الممكنة و نحوها لمن فرط أو قصر في حقّ الله تعالى أو حقوق الناس
.
تأجيل الأمر أو النهي إلى وقت مناسب: إذا احتمل أن التأخير يسبب الصلاح, فالكثير من الناس نراه من المتعجلين في الأمر أو النهي فيما يصادفه من الأمور و الحقّ أن المسارعة في النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محمودة غالباً إذا كانت في الواضحات وفي المواقف التي قد لا تحتمل التأجيل, لكن نخصص الحديث عن كثير من المواقف والحالات التي تحتمل التأخير إلى وقت أنسب أو مكان أبلغ في الأمر أو النهي؛ حتى يحصل التأثير الذي يدفع الناس إلى الاستجابة كأن يؤجل أحدهم أمر أحد جيرانه إلى يوم الجمعة أو إلى وقت زيارته أو حين يجد منه رقة في القلب أو همة في العبادة ونحو ذلك وهذا من الفقه الدقيق والعمل الصالح السليم نسأل الله التوفيق.
استثمار الفرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: و يقصد بذلك من أوقات وأماكن مخصوصة وتجمعات كالجُمع و الجماعات، فما يتقبله الناس في رمضان أكبر و أكثر مما يتقبلونه في سواه، و كذلك في الحجّ و نحوه من مواسم و أماكن العبادة و المناسبات, ومن خلال ما تيسر بيانه وذكره, و بمراعاته يتضح للمسلم متى يأمر ومتى ينهى ومتى لا يأمر ولا ينهى. فلا ينهى عن منكر وقع في الماضي ولا يتجسس من أجل ذلك ولا ينهى من لا يعرف حاله ولا يُدخل الخلاف الفقهي في مسائل الأمر والنهي ويوازن في حالات اختلاط المعروف بالمنكر ويأمر بالأولى والأهم و دون أن يؤدِ إلى منكر مماثل أو أكبر من الأول ولا يأمر ولا ينهى إلا عن علم و لصلاح و لحفظ كرامة الآخر و عدم تشويه سمعته لرضا هوى نفسه أو كشف عورات الآخرين بإساليب شيطانية, كأن يبدأ كلامه بحسن نيه لكن المراد الحقيقي هو سوء نيّه للنيل من الآخر ويدخل ضمن الغيبة و الكبائر التي لا يغفرها حتى الله تعالى والله الموفق وهو الهادي والحمد لله رب العالمين.
(22) كان البرنامج الذي أعددته لأعضاء التنظيم في الحركة الأسلامية العراقية خلال السبعينات, هو : على للداعية أن يهدي كل يوم أو أيام عراقي واحد لطريق الحقّ بدل طريق الجهل الذي بدأ ينتشر بقوة معت تصدي حزب البعث للحكم, و لم يكن سهلاً .. لأنك كنت تخاطر بحياتك نتيجة دعوتك 

حدث  مراراً و تكراراًللناس .. فبمجرد تقرير من أحدهم كان كافياً لئن يتسبب بإعدامك, 

عزيز الخزرجي 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here