ألرّاشد ألرّشيد

ألرّاشد ألرّشيد
بقلم ألعراف الحكيم عزيز حميد مجيد
ألتّناقض موجود في كل مكان و زمان و لعل ديمومة الوجود مبنيّ على التناقض و قائم به؛ لكن ذلك آلتّناقض الموجود في آلعراق يختلف كثيراً .. إنّه نوع آخر و لون صريح و صارخ .. له طابع آخر و غريب و في كثير من الأوقات لا يُصدّق , لسبب واحد هو أنك تعني بوصفك بلداً إسمه العراق؛ بلد يضمّ من جهة (صدام) الذي كان ينساب الحقد و العنف و القسوة و الجّهل من أنفاسه و نظراته آلشريرة و هو يملك زمام العراق بطوائفه و قومياته التي رضخت و إستسلمت له كآلعبيد فإمتازوا بنفس تلك الطباع بمرور الزمن..

و يضم في نفس الوقت في الجهة الأخرى المقابلة؛ عالم سماويّ سويٌّ لم يملك حتى متراً واحدا ولا سيارة ولا حتى ثوباً جديداً كجده الأمام عليّ(ع) كما لم يملك ناصية أحد سوى سلطته على قلوب أهل القلوب الحيّة النابضة بآلمحبة و الخير الذين وحدهم صمدوا ولم يدعوا بيع الدين كما فعل دعاة اليوم العار, كما لم يملك مالاً أو وسيلة نقل ولا حتى غذاءاً كافياً له و لعائلته بينما كانت أموال الناس تحت تصرفه لكنه ما مدّ يده ليشتري منها حتى عنباً لإبنه جعفر الذي ترجّاه لذلك, قائلا له؛ لدينا (الرقي) و يكفي ذلك و هذه الأموال صحيح إنها كثيرة .. لكنها يا بني ليس لنا ولا نملك حق التصرف بها .. لم يكن يملك شيئ من مال الدنيا سوى قلب أبيض يسع السموات و الأرض حتى الله تعالى .. لأنه (الصّدر) ألذي لا عديل له .. هذا رغم جسده النحيل و قامته القصيرة و زنه الذي لم يصل لأكثر من 50 كليو غرام و لباسه الرّث و فراشه البسيط و مكتبة صغيرة فيها بعض الكتب!

أما العراق فخيرها كثير لكنه مستهلك في كل عصر و زمن, لأن الحكام يجندون جيوشاً من الأمن و المخابرات والشرطة والحمايات و الأفواج و المنظمات الحزبية و الحمايات المختلفة يدافعون بهم عن الباطل ليمحقوا الحقّ, بينما تجد في مقابلهم مؤمنين أخيار راشدين كرشيد (أبو محمد ملا رشيد الخياط) و زوجته الشهيدة التي وحدها كانت تسنده لمقاومة تلك الجيوش المليونيّة الحمقاء المجرمة و هو يكد ليل نهار للقمة حلال بإدارته لمعمل آلخياطة في الطابق السادس في عمارة شارع النهر بآلكامل ليعيش من ورائه عشرات العوائل الفقيرة, تلك كانت و ما زالت صورة العراق! فهل شهدتم بكل التأريخ تناقضات كهذا في غير العراق!؟

لذلك فإني أنعى بمقالتي هذه ذكرى صديقي الشهيد رشيد(أبو محمد الخياط) ألذي غاب عنيّ .. و عزائنا أدباً خالداً يبقى فينا؛

قصة الكاسيت:
“كاسيت” صغير أحدثت ثورة أعلنّاها بلا تدبير و مقدمات و من أين نأتي بآلتدابير و الإمكانات في سبعينيات القرن الماضي حيث كان المسجل العادي هو المنتشر ولا وجود للكومبيوتر أو حتى التلفزيون الملون, ولم نكن نملك المال, بل لم يكن يبقى بجيوبنا درهما في اليوم الثاني من كل شهر لأن جميع المحيطين بنا كانوا فقراء من الاهل و الأصدقاء و عوائل الشهداء أصحاب نساء و أطفال ولدوا في غفلة نتيجة غباء مفرط كانت الشهوة هي السبب في إفرازها, ليأتوا – الأطفال – إلى عالم القسوة و الجيوش الظالمة .. و لينخرطوا فيها بقانون رجعي لأجل لقمة لسد جوعهم و كما هو حال و وضع القوانين اليوم و التي إنبثقت من عقول تربّت على نفس الأفكار الصدامية و إن كانت معممة أو مؤمنة في الظاهر؛ لذا إستمر الفساد كما تشهدون لأن رشيد الراشد و أخوته قد غابوا من افق العراق ولم يبق فيه سوى النطيحة و المتردية و من لا يرتاح إلا للحرام و الزنا و الظلم و النهب!!

أما قصة ذلك “الكاسيت” الذي غيّبَ (رشيد) و زوجته و والده العجوز و أصدقائه؛ هي قصة مؤلمة تحتاج لكتاب بل مجلدات لبيانها .. لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله!

إنها قصة ثورة (الكاسيت) التي تعلّمناها من ثورة القائد العظيم ورجاله الذين لم يلحقوا بهم في زمن النبي(ص), لقد حاولنا تكرارها وإعلانها لشعب لا يزال لا يعرف قيمة القراءة رغم إنها مفتاح الفلاح لأمّة من الأمم خصوصا و إن أول قانون أنزله الله في كتابه هي : (إقرأ), لهذا حاولنا بيانها عبر تسجيل صوتي لا يكلف الكثير لمن يسمعها, خصوصا وقد كتبنا عليها (أغنية عبد الحليم) أو (ام كلثوم) للتغطية كي لا يثير إنتباه المخابرات و جيوش الأمن الصدامية فتصل الناس لسماعها علها تستفيق !؟

لم يكن مجرد نشره جريمة كبرى تودي بحياتك و حياة كل من حولك و معك؛ بل وجود بصمتك أيضا على (الكاسيت) تُمثّل مشكلة قد تسبب كشفك و إعدامك, هذا إلى جانب الصوت!؟ و كذلك مشكلة تسجيل و تكثير الكاسيت ثم أيصاله لمن نتمكن في أجواء العراق المقفلة من كلّ جانب و مكان نهاية السبعينات و ما بعده!

ورغم كل تلك المعوقات أوصلنا أول كاسيت بعد طبع مجموعة منه (للراشد ألامين أبو محمد الخياط) الذي كان يدير معملاً للخياطة في شارع النهر ببغداد و تقبّلها بفرح و كانه كان ينتظر ذلك لأنه كان صاحب ضمير و وجدان ولا يفكر بحياة ذليلة يعيشها كما آلآخرون, كنت أرتاح لصفاء روحه و تواضعه و إخلاصه الذي لم أشهد حتى أقل من نصفه على دعاة اليوم رغم كثرتهم اليوم مع ندرتهم بآلأمس .. و حتى على الذين ألتقيتهم في إيران بعد هجرتي .. لذا تركتهم لأنّهم كانوا أسوء من بني العباس رغم ظاهرهم و لحاهم و مسابحهم و تبتلاتهم أثناء الصلاة التقليدية وكما أثبتوا ذلك عملياً فيما بعد حين هجموا على أموال دولة وشعب فنهبوها!

حاولت التركيز على المناطق التي يكثر فيها المسؤوليين لتوزيع “الكاسيت” كباب المعظم و الأعظمية و الكرادة و المنصور و غيرها, لهدايتهم و تعبئتهم, والمشكلة التي عانيتها من بعض المحسوبين على الدّين وقتها كان معظمهم من الطلبة الجامعيين؛ هي أثناء نقلي لخبر توزيع مجموعة منها في منطقة باب المعظم و محيطها؛ أعلنوا إزعاجهم من ذلك و قالوا: لو كنت تريد الخير والصلاح لنا حاول أن ترجع و تجمع و تعيد كلّ (الكاسيتات) لانها تضر بنا و ربما يتم محاصرة المنطقة كلها بسبب ذلك, و إستغربت كيف تجرّؤا بذلك القول و هم يعلمون إن مجرد حمل ذلك الكاسيت يعتبر جهادا و ثورة ضد الظلم في تلك الأجواء!؟
تصور هذه المفارقة و (التناقض)؛ فبعد جهاد مرير أستطعت إعدادها ثمّ توزيعها و تحملت المخاطر و العناء و الهم و بعد ذلك كله يقولون لي إجمعها و كأنهم تصوّروا أنني ساجمع بعض الحصى .. أيّ بلد هذا؟ و أي شعب؟ و أيّ دعاة جهلة تعاملت معهم!؟

و هل يمكن أن يفكر احد بوجود إسلام في العراق بعد الذي كان؟ طبعا أقصد إسلام عليّ و الصدر و الراشد رشيد – لا إسلام الفاسدين و المتخمين الذين أقلهم بات صاحب عقار و حمايات و مليونات!؟ و هكذا فعلوا ليرجع الأسلام للوراء 500 عام, فآلناس اليوم لم يعودوا يسمعوا لأحد يدعوا للأسلام بسببهم, حتى كرهت بغداد و من يسكنها بسببهم!

ثم إنتقلت للمحافظات لتوزيع ما أمكنني و أولها كانت مدينتي (الكوت) و أعطيته لأول صديق لنشره, ثمّ إتصلت بصديق ثان ما زال حيّ للآن لكنه رفض, وحين إتصلت بقريبه قبل شهور للسؤآل عنه, قال: أنهُ لا يملك هاتفاً ولا موقعا, و يصعب الأتصال به, لكنه إشترى بيتاً في كربلاء .. كلام غير مناسب و لا يرتبط بآلموضوع و ما عنيته, ولا أدري سبب إعلانه, سوى كونه تناقضات صارخة في عراق آلجهل ولا عجب أن تسمع ذلك في بلد يُعظم الشمر و إبن زياد و يُذل علياً و الحسين و هكذا يُعظم صدام و حاشيته و يُذل الصدر و أعوانه !؟

المهم؛ حاولت إيصال (الكاسيت) وقتها و كان عام 1979م لمن أمكن و لذلك الصديق المعني … وكان مدرس للغة العربيّة في إعدادية الكوت؛ قلت له؛ هذا (كاسيت) لهداية الناس و منهج عمل لا أغنيّة كما كتبت عليه للتمويه و يمكنك نشره بسهولة لتوعية الناس ألذين سيواجهون محناً وخيمة بسبب ثقافة الجهل الذي ينشره حزب البعث لمسخ الناس و قد نجح للأسف!

و لم أكن أنهي نصف كلامي معه و إذا به قاطعني على الفور و إعتذر و لم يستلمه بل بدأَ يرتجف كآلسعفة و كأنهُ مقبل على حبل المشنقة, فقلتُ لهُ؛ طيب يا أخي لا تنزعج, سأبحث عن غيرك لعليّ أجده ليقوم بالأمر و سأرحل بعدها لمدينة أخرى, ثمّ إتصلت بقريب لي و أعطيته (الكاسيت) و اقنعته على مضض و قلتُ: إسمعه جيّداً, هي أغنية جديدة تجمع خير الدّنيا وألآخرة و كان طالباً في نفس الأعدادية, وهكذا خُليت محافظة كواسط من مُؤمن رشيد يقوم بنشر الحقّ فآلجميع إنخرطوا في مؤسسات النظام وجيوشه العسكرية و المدنية بغباء مقدس بإستثناء الأستاذ بلا ل والشهيد ناجي الشاوي و أخيه و الشهيد جلّأوي رحمة الله عليهم أجمعين! كل عملنا كان ثقافياً في حركتنا الثوريّة التي كان يفترض أن يكون حركة مسلحة! و هنا تجلّى التناقض بأوضح صوره أيضا: فكيف يمكن أن يغير العمل الثقافي و أنت أمام جيوش عسكرية و أمنية و إستخباراتية مسلّحة لا تفهم حتى معنى الثقافة, بل لغة القنص و العنف و الهجوم و تريد قتل كل من يُشمّ منه رائحة المعارضة!؟ و هذا هو التناقض الآخر الأكبر لأنك في دولة إسمها العراق!

لذلك إنتبهنا أخيراً لتشكيل حركة مسلحة لمقاومة شعب مسلح لنشر الفساد و الظلم و الكفر البعثي؛ فحصلنا بعد اللتي و اللتيا على أوّل مُسدس لكن بدون (المشط) و كذلك على قنبلة فيها (تايمر) توقيت في مكان لم نهتدي إليه .. لتضيع الحقائق و العناوين و الأسماء .. لأنك في بلد المتناقضات و العجائب!؟ لكننا ما إستكنا, بل حصلت على وعد من أحد أقربائنا في بغداد و كان يعمل في شرطة مكافحة الأجرام, كي نهجم على مركزهم في عملية جهادية و نأخذ السلاح الموجود في خزانتهم للأستفادة منها …

لم يكن لنا ملاجئ و مواقع كثيرة لأن النظام كان يلقي القبض على أفرادنا بقسوة على الدوام و بلا ذنب سوى كونهم لم ينتموا للبعث الهجين وكان عددهم أقل من القليل لأننا كنا نعيش وسط شعب باع كل شيئ للنظام حتى عقله .. لذلك سرعان ما كانت تُغلق مواقعنا ويتبرأ منهم حتى عوائلهم للأسف بعد إلقاء القبض على عضو من أعضاء تحرّكنا لكثرة المخبرين, لهذا لم يبق ملجأ بعد رحيل أبو محمد رشيد ومحمد فوزي وخليل وحيدر وفؤآد وبديع وفياض وموسى وخليل و باقي الأعضاء الذين لا يلد الزمن بمثلهم في بلد كآلعراق!

بقيت وحيداً بعد أن أغلقت الأبواب بوجي و تعبت و أصبت بأنواع من الأمراض كقرحة المعدة و القلب و غيرها, بسبب الإرهاق و التفكير المستمر بمصير شعب لا يريد حتى سماع صوت الحقّ و للآن لا يجهد نفسه لقراءة مقال فكريّ أو فلسفي, سوى أخبار الموتى و الولادات وآلحوادث .. لهذا كنت أرى عاقبة العراق بوضوح دون كل الناس ببصيرتي منذ ذلك الوقت و قد حذّرت بعض المقرّبين منها و لكن من يدرك كلامنا الكوني إلا بعد عقود و ربما قرون و بعد فوات الأوان!؟

لم يبق لي صديق ببغداد كما المحافظات الأخرى التي كانت مقفولة لحزب الجّهل البعثي و الناس يصفقون بغباء [بآلروح ؛ بآلدم, نفديك يا صدام], بآلضبط كحالهم اليوم [بآلروح؛ بآلدم, نفديك يا هو الجان من هآلجان]؛ حيث يصفقون لكل من يُعيّن لهم راتب و منصب ولقمة بآلحرام أو الحلال, ثمّ لم يبق حتى بيت واحد نأويه سوى صديق واحد تعرفت عليه بداية 1980م بعد شهادة الصدر الأول عن طريق الشهيد خليل إبراهيم و كان إسمه (حيدر) من مدينة(قرية تبه) التابعة لكركوك, وكنت أزوره أحياناً في غرفته المستأجرة في حيّ بـ(شارع الأمين), وحين إطلع على وضعي الخطير ذات يوم, قال لي ألأفضل أن تترك العراق فوراً لان وجودك خطر بعد الآن على كل من يعرفك و علينا وعلى نفسك خصوصا بعد إلقاء القبض على جميع أصدقائنا بضمنهم المائة داعية!
و سيأتيك (المعلم …) لنقلك إلى كردستان و منها لإيران, ثم عَتبَ عليّ عتباً شديداً حين أعلمتهُ بأني سافرتُ سرّاً إلى أوربا قبل عام و بعض الدول العربية و رجعت للعراق ثانية في لحظة لا أدري أيّة قوّة سحبتنيّ و كيف و بلا إرادة لأضعَ نفسيّ في جهنم العراق ثانيةً بعد ما تخلصتُ منه بإعجوبة!

على أيّ حال جائني المعلم في اليوم المشهود و ركبنا معاً سيارة تاكسي من كراج النهضة حيث نواحي أربيل ثمّ إلى (المثلث الحدودي) مع قافلة لنقل البضائع(القجق) إلى منطقة الوادي (مقر الأحزاب الكردستانيّة) و إلتقيت بقيادة الاتحاد الوطني وطرحت عليهم موضوعات مختلفة منها ضرورة التوسع في المدى الفكري و عبور الحلقة القوميّة الضيقة إلى حيث العراق كله و العالم و كل الأنسانيّة, لكن كاكا (فؤأد معصوم) و آخرين ككا نوزاد لم يرتاحوا لذلك و طلبوا مني السكوت! رغم إني قلت لهم بإخلاص: [لِمَ لا تنفتحون على العراق كله و على كل الفكر الانساني عندها يكون بآلأمكان أن (يكون أحدكم رئيسا للعراق بدل حصر أنفسكم في منطقة كردستان لوحدها و يتطلب هذا تمزيق شرنقة القومية إلى مدار الأنسانية)؟

لقد كانت ربما كلمة عابرة في وقتها؛ لكنها أصبحت حقيقةً فيما بعد .. بعد مضي ربع قرن و سقوط الصنم على يد أمريكا .. بغضّ النّظر عن سلبياتها و إيجابياتها.

و كنت ضيفا عليهم في قمة جبال حمرين لثلاثة أيام و بعدها غادرت المنطقة إلى حيث مدينة (سردشت) ألأيرانية ثم إلى مدينة سنندج بطائرة هليكوبتر عسكريّة لنقلنا إلى طهران, و منها لعدّة مُدن حتى خروجي من إيران نهاية التسعينات و للآن ما زلت متغرباً .. بعد أن فشلت بآلتأقلم مع الناس ثانية و لسوء الحالة الصحية, و لأنّ الفواصل الفكرية بيني و بينهم لم تعد تُقاس بآلوحدات الأرضيّة .. بل بآلكونيّة لحسن أو لسوء الحظ .. و الحمد لله على كل حال.

العارف الحكيم عزيز حميد مجيد.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here