هل أكتب قصيدة أم أزرع شجرة ؟ : ومضة قصصية

هل أكتب قصيدة أم أزرع شجرة ؟ : ومضة قصصية

بقلم مهدي قاسم

لا أعلم فيما إذا كنتُ قد حلمتُ قبل أيام أو ليلة أمس فقط ، ربما لم احلم إطلاقا ، إنما اعتقدتُ بأنني حلمتُ ، إلا أن كل هذا ليس بأمر مهم بحد ذاته حسب تصوري ، بقدر وجدت نفسي واقفا أمام خيارين فقط ، بعدما كأنما أحدما من نفسي يدلني إلى ما هو نافع ومفيد :
ــ إيهما افضل وأنفع ،كتابة قصيدة ، مثلا ، أو زراعة شجرة !..
ولكن رغم ذلك شعرتُ ما أشبه بصوت داخلي مغرِ و متحمس ، منحاز تلقائيا نحو زراعة شجرة ، يهمس ، بخفة أجنحة فراشة قرب أذني :
— أزرع شجرة ! .. أنه أفضل اختيار صدقني .. أعني زراعة شجرة بدلا من كتابة خاطرة و قصيدة ..هيا .. فذلك هو انفع و أجمل حسب تصوري ..
– ليش زراعة شجرة بالضبط ؟ ..
سألتُ متحججا .. متشككا بأولية فائدة شجرة على فائدة قصيدة ..
رجعت الهمسة الخفية أكثر لطفا ورقة تقول :
– لأن الشجرة أكثر نفعا وازدهارا و اخضرارا.. بل أطول عمرا حتى من البشر أنفسهم .. أما كتابة قصيدة او شيء من هذا القبيل .. فإنها سرعان ما تغادر إلى عالم النسيان بين طبقات غبار و تلف و بهوت أصفر ونسيان ..
اردتُ ان احتج قائلا :
ــ هذا انحياز متعصب و غير عادل !..
ولكن ذلك الصوت الخفي و المُغري كهمسة عاشقة مغرية مضى بإصرار عجيب في محاولة إغرائي و إثارة رغبتي ، مضيفا :
ــ طيب !..ما هي إلا بضعة شهور أو سنة وإذا بشجرتك تنمو و تكبر رشيقة سامقة ، لتتعانق متحاضنة مع غيوم شاهقة تخيم فوقها كعشاق قدماء .. لتصبح قامتها الرشيقة و الباذخة مأوى لطيور مهاجرة و ظلالا منعشة لمشردين و رعاة يلهثون من ضراوة قيظ وظمأ و شرارات لهيب شمس حارقة .. شجرتك الرائعة تلك !.. ستكون حتما محمّلة بثمار طيبة و لذيذة للغاية .. خاصة لأطفال و عابري سبيل من جائعين وجوابّين و طيور و سناجب .. سيجد كل واحد منهم ملاذا له بين أغصانها الوارفة وظلالها المديدة .. وطعاما وفيرا ..
أما كتابة قصيدة أو قصة أم رواية ، أفلا ترى أن غالبية بنات و أبناء قومك كلهم منهمكون ليلا ونهارا بالكتابة ، يكتبون ويكتبون و يكتبون بأطنان مطننة وهائلة لما يصورونه شعرا جميلا وفريدا أو حكمة نادرة كلؤلؤة باهرة ،أو قصة ورواية ملحمية بفرادة عبقرية مميزة ؟..
و عندما اردتُ القول أن كل فلاح يستطيع ان يزرع شجرة ، ولكن ليس كل فلاح يستطيع كتابة قصيدة أو قصة او رواية ..
فقاطعني ضاحكا ، ولكن بنبرة طريفة ومداعِبة ؛
ـــ انت واهم جدا يا صاحبي!.. فكل ما يفعله فلاح من زرع حبة قمح ونبتة ريحان و شتلة وردة وفسيلة شجرة مثمرة ، فكلها بمثابة اجمل قصائد .. وهي نابضة وعارمة بزخم حياة خضراء يانعة وبجمال مدهش و ساحر أخاذ .. بل بطراوة و لذة ثمرة حلوة و طيبة .. ثق أنها أجمل بكثير من تلك الصفحات التي بعضها يضج بهراء على عواهنه هذيانا طليقا ..
ثم صاح بصوت عصبي بعض الشيء كأنما نُفد أخر ما تبقى من صبره ، حتى فهمته نوعا من احتجاج على عدم فهمي لمقاصده النبيلة فهتف بنبرة متوسلة :
ــ نحن بحاجة الآن إلى عد كبير من زراعي أشجار ونبات وأزهار داخل وحول مدينتنا .. فلماذا صعب عليك فهم هذا الشيء البسيط ؟..بينما جحافل الصحراء تحاصر مدينتنا من كل الجهات زاحفة بمليارات أطنان من رمالها الهائلة والخانقة ..
هنا قاطعته بعدما نُفدت حجتي وذريعتي .. مقرا معترفا :
ــ حسنا سأزرع شجرة .. و سنرى .. ربما اثنتين أيضا.. من يعلم ؟.. ربما حتى ثلاثا كذلك ..لتكون فيما بعد غابة عامرة تحيط مدينتي بذراع عاشقة حنونة ..
ــ طيب .. شيء عظيم و رائع !.. أخيرا !..
……..
فها انا أغسل يدَّي الآن من من بقايا أطيان و سماد عالقة بين أصابعي .. بينما نكهة تراب مبلل بقطرات ماء وبقايا أعشاب ورمال تشق طريقها إلى رئتيّ .. فاستنشقها بعمق و متعة .. وكأنها سحابات عطر دافقة من وريقات ريحان طرية و غضة وفوّاحة ، تحتضن حافة ساقية نعسانة على وسادة أمواجها الخافتة ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here