الماسونية
الحلقة الثانية
تقدم الماسونية نفسها كشريك أساسي في حياة الناس لتسهيل مهمة الإيمان بالإله الواحد ، محترمة في ذلك كل مناهج القوم وطرقهم في الإجتهاد و البحث والتنقيب ، والماسونية لا تُلزم الناس بإتباع طريقا معيناً ومحدداً في الفهم بل تترك ساحات البحث مفتوحة وهذا ما أشرنا إليه في الحلقة الأولى ، فالشرط الموضوعي للإيمان بالإله الواحد لدى الماسونية ، هو الشرط اللازم الذي تعتمده في ذهنية الإجتهاد والنظر لدى كل طرف ، وهذا يوضح المعنى الدلالي لفكرة الإيمان – بالكائن الأسمى – الذي تحدثنا عنه سابقاً ، ومفهوم الإيمان جدلي بطبعه لدى أصحاب كل الديانات السماوية والأرضية ، وهو كذلك مادام يحقق معنى الإيمان في وحدانية الإله الخالق والإله المعبود ، والذي يؤدي إلى تجريد كل الكائنات من صفة الإله الشريك أو المتعدد ويركز قيمة الوحدانية ، وطبعاً يسري هذا الحكم على كل الآلهه الُمدعاة مهما علت وسمت وتقدست في ذهن اتباعها والقائلين بها .
يقول ادغار فوهر : – إن الماسونية تواظب على الربط الدائم بين الإنسان و عمله ، فكل إنسان مسؤولاً عن تصرفاته ونتائج أفعاله – ، و الماسونية تعمل على دحض الفكرة الميثيولوجية و السلبية المنشأ والتي تقول : – إنما المسيح هو الذبيحة عن الخطايا أمام الله عندما ( سفك دمه ومات ) ليدفع ثمن خطايا كل المؤمنين به – جاءت هذه المقولة عند (أفسس 2: 8-9؛ رومية 5: 8؛ ولدى يوحنا 3: 16) ، هذه الفكرة السلبية نفت ان يكون الإنسان مسؤولا امام الله عن تصرفاته ونتائج أعماله ، لكن لماذا قالوا بهذا ؟ ، لأنهم قالوا بان المسيح قد تدارك ذلك وأزاله بفعل دمه والذي كان بمثابة الثمن الذي دفع عن كل خطايا المؤمنين به في كل زمان وكل مكان !!! ، هذه المقولة نفتها الماسونية ودحضتها وعززت بدلاً عنها المقولة المغايرة لها ، والتي تقول : بان الإنسان مسؤولاً عن أفعاله ونتائج أعماله ، وهذا التوجيه العقلاني من الماسونية يلتقي مع المقولة القرآنية التي تقول : – كل نفس بما كسبت رهينة – أو – كل أمرء بما كسب رهين – أو – وكل إنسان إلزمناه طائره بيمينه – ، وبذلك ينتفي هذا الإلحاح التصوري الساذج في كون المسيح هو المخلص من العواقب لجميع المؤمنين به . وفي ذلك يدخل المسيح عليه السلام في دائرة الإنسان المسؤول عن أفعاله ونتائج أعماله ، شأنه في ذلك شأن كل البشر الأخرين وبانه مخلوق مثلهم ، وهو لا يمثل إلاَّ نفسه ، وأما دمه المسفوح فكان بسبب فعل متهور لحاكم موتور في زمانه ، فالماسونية إذن تمهد الأرضية لجعل ميكانيكية الخلاص من الخطايا مرتبطة و مرهونةً بالعمل الصالح من الإنسان ، وفي ذلك تلتقي الماسونية مع القرآن مرة أخرى وهي تحدد هذا الشرط الموضوعي في قبول الأعمال تحت بند – والعمل الصالح يرفعه – فاطر 10 – .
وفي المتابعة لما مضى يمكننا القول : – إن المدرسة الإسلامية ربما تأثرت وعلى نحو ما في شروحاتها للكتاب المجيد من نفس المتلقيات والمواقف التي أثرت بتفسير الإنجيل – ، كالقول مثلاً : بأن الكتاب المجيد كله معجزة !! ، والصحيح إن هذا القول مزاجي وعاطفي ولا يحمل في طياته الكثير من الهدوء ، ذلك لأن الكتاب المجيد ليس كله كذلك ، وليس كل فصوله تحسب بنفس الدرجة من هذه الجنبة ، إنما فيه باب واحد أو فصل واحد يمكننا وصفه بذلك وهو – باب القرآن المجيد أو فصل القرآن – ، طبعاً هذا لا ينفي تلك المقولة التي تصف الكتاب كله بانه معصوم ، كذلك ويجب التمييز بين كونه معصوماً وبين كونه معجزاً ، فالقول بأنه – لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه – فصلت 42 ، يدل على عصمته ولا يدل على كونه معجزاً ، و المستمسك الذي يؤيد هذه المقولة هو الإيمان بصحة صدوره ، وما يستند فيه إلى قوله تعالى – وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى – النجم 3 ، وسلامة الإستنتاج هذا تكون فيما لو أعتبرنا ذلك مرهوناً فقط بالدلالة والمصدر وصحة الصدور ، ولا يخلو الأمر هنا من توقف معرفي ذهب إليه نفر من الدارسين الجدد بالتفريق بين الكتاب و القرآن ، والذي يُراد منه حصر مادة العصمة والإيمان بموضوعتي الكيف والأين ، وتجريد الإسترسال الذي كان سائداً في المدرسة الإسلامية ، والذي يمثل رؤية أصحاب الكنيسة في نظرتهم للكتاب كله على أنه مقدس ومنزه ومعجز ، وهكذا تقول المروية عن ثيموثاوس الثانية 3 : 16 على إعتبار إن الكتاب كلمة الله !! .
ولكن هل تتيح صفة القدسية هذه إلغاء باقي الكتب من أهل الديانات الأخرى ؟ ، تجيب الماسونية بالقول : لا يجب ذلك ولا يصح إعتماده فليس ثمة إدعاء جماعة بقدسية مالديهم يمثل نسخا وإلغاءً للغير ، ولكن الصحيح هو إحترام الجميع لكن بشرط صحة الإيمان ومايؤدي إليه ، والقرآن المجيد تبنى في ذلك مقولته عن – الكلمة السواء – بعد توثيق ما لدى الأخرين من كتب ومعلومات .
من هنا تبدو رؤية الماسونية أكثر واقعية وفهماً لمعنى القدسية المُدعاة عند كل طرف ، وتبدو أكثر عقلانية حين ترفض التزاحم والتعارض مادام الغرض والهدف المطلوب واحد ، يعتبر القرآن المسيح – كلمة الله – ، والعبارة كما هي في لغة العرب ثنائية الدلالة والرسم واللفظ – فالكلمة شيء و الله شيئ أخر – ، و مفهوم الكلمة : من المفاهيم اللسانية ذات القيمة الرمزية والقيمة الدلالية التي تتميز بها ، [ فهي من جهة المفهوم تبدو بديهية التصور ، ولكنها من جهة المصداق تبدو صعبة التحديد ] ، وقد أولت دائرة المعارف البريطانية – الإنسيكلوبيديا – أهمية معينة في ذلك معتمدة على ماقدمته كتب الأولين وحتى بعض الدراسات الحديثة ، وأما – كلمة الله – ومعناها في القرآن المجيد ، فقد وردت وصفاً في هذا الباب لولادة المسيح وكيفية خلقه ، وقد صار هذا الوصف – كلمة الله – معجزة حينما تدخلت في سياق المعنى الدلالي لقوله تعالى – إنما أمره أذا اراد شيئاً أن يقول له كن فيكون – هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ربما تكون هذه العبارة قد إشارة إلى معنى البشارة بولادته ، ويكون قول البعض فيها دال على معنى خلق الله ، وبما أن المسيح هو واحد من مخلوقات الله فهو إذن كلمة منه ، و أما لفظ – الله – ودلالته فهو لفظ عربي خالص غير قابل للإسشتقاق ودال على الإله المعبود ، وقد دلت على ذلك أشعار العرب وتراجم الأقدمين ، ولم أجد فيما أعلم إن لساناً أخر قد أتى بهذا اللفظ ، وحتى الجذر الكنعاني لمعنى الإله إنما ورد على نحو – إيل – .
ورد في الإشعار التالي عند كورنثوس الأولة 10: 14 : – إن بولس الرسول يرفض مبدأ تعدد الآلهة ويعتبرها خطيئة بشعة – ، وكذلك قال يوحنا : – إن من يعبدون آلهة متعددة سيهلكون في الجحيم – رؤيا 21: 8 ، ونفس الشيء ورد في القرآن الكريم في رفضه لفكرة تعدد الآلهة ودعوته للوحدانية و التوحيد ، وفي هذا السياق نصت وصايا الماسونية المعروفة على وجوب أن يؤمن كل الأعضاء بإله ما واحد ، و تدعو الماسونية الناس من مختلف الديانات إلى الإيمان بإله واحد ، ولكن كيف يتم الإعتراف والدمج بين دعوة بولس لوحدة الإله ونظرية – الثالوث المقدس – المعمول بها ؟ ، والتي وصفها أنجيل متى ويوحنا بان – المسيح هو الله في صورة إنسان – 1 : 18 إلى 24 ، 1: 1 ، ويعتبر مرقس إن – يسوع هو الأقنوم الثاني في الثالوث المقدس – 1 : 11 إلى 19 ، إذن كيف تتم المزاوجة بين كونه إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً – يوحنا 20 : 28 – ؟ ، كما إن الصلاة المعترف بها لا تكون إلاَّ بهذا الثالوث ، وإن أغضب ذلك غير المؤمنين – أعمال 4 : 18 إلى 20 – .
الماسونية كما القرآن : لا يؤمنون بكون المسيح هو الله ، كما لا يؤمنون بكونه أبن الله ، وهذا الدمج بين هذه الأقانيم الثلاثة – الآب والإبن والروح القدس – ، هو دمج سياسي وقد برر فلسفياً أو روحانياً لطبيعة المسيح المختلفة في الخلق ، وربما مالت الماسونية إلى جوهر تكوين المسيح الذي ورد وصفاً في القرآن بقوله : – إنما مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ..- آل عمران 59 ، لذلك عمدت الماسونية إلى جعل المسيح في نفس درجة القادة الدينين والربانيين ، وتؤدي الماسونية دور المصحح لما طرأ على الفكر الإنساني من معنا هلامي ، حول قضية : هل الإنسان مخطئ بطبعه أم إن الخطأ نتيجة فعله ؟ ، فالمروية الإنجيلية تعتبر الإنسان يولد مخطأً – روميه 3: 23 – ، وإن الإنسان ليس لديه القدرة الذاتية على الكمال الأخلاقي – يوحنا 1: 8 -10 – ، لكن هذا التصور الخطير المفزع دحضته الماسونية ، وأعتبرت الإنسان يولد وهو يحمل جينات للخير والشر ، والغلبة في ذلك تكون من خلال العمل الذي ينشط هذه الجهة على تلك ، ثم إن للعامل البيئي والتربوي وطبيعة فعل الجماعة وما يتبنى من أفكار هي التي ترجح هذه الصفة على تلك ، وتبقى قضية الكمال الانساني قضية نسبية تحددها شروط العمل ونتائجه وليست هي اشياء محددة سلفاً ، وكما القرآن جعلت الماسونية إن شرط الخلاص والنجاة بالعمل الصالح ، كذلك في رؤيتها للمسيح على انه نبي من انبياء الله الصالحين ، ولا تخرج الماسونية عن ما يريده القرآن في مفهومي التورية والكلمة الطيبة والإبتعاد عن الزوايا الحرجة ، بل تعمم مقولة ومفهوم – المؤلفة قلوبهم – ، ويبقى أن نقول إن شعار الماسونية الأزلي هي بهذه العلاقة الدائمة بين المخلوق والخالق ، علاقة تقوم على الوضوح والصراحة والعلم ، ولهذا تبنت الماسونية أدوات العلم والعمل وجعلت العين شاهداً ودليلاً ..
راغب الركابي