الانسان و الاخلاق

الانسان و الاخلاق (*) د. رضا العطار

هل ان اخلاق الانسان نسبية ام مطلقة ؟

لست اذكر على وجه الدقة اسم الفيلسوف الاغريقي الذي قال: ( لو انك جمعت سائر العادات والتقاليد والفضائل الاخلاقية، التي تُعد في بلد معين، مقبولة مقدرة و مقدسة، وقارنتها بصفات مماثلة في بلد آخر، لتبين ان البلد الاخر يعتبرها غير مقدرة ولا اخلاقية، انما هي كفر واجحاد بقيم المجتمع.

فالعادات والاخلاق تتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان بالامس فضيلة يمكن ان يتحول اليوم الى رذيلة، او يمكن على اقل تقدير ان ينظر اليه على انه (عادة) قديمة طواها النسيان. وما يعد فضائل في مكان ما قد يكون رذائل في مكان آخر، ولنضرب هذه الامثال:

كان في الهند قديما عادة ممقوتة، اسمها (سوتي). التي كانت تقضي على الزوجة ان تحرق نفسها في جنازة زوجها، وفاء له. حتى ترقد الى جانب شريك حياتها في قبره معلنة للعالم بأسره مدى اخلاصها ووفائها. ولو كانت هذه المرأة خرجت عن هذه العادة المتوارثة، لنبذها المجتمع وطردها لتعيش في عزلة ابدية. وظلت هذه العادة المقرفة قائمة في شبه القارة الهندية، حتى منعها الانكليز بعد احتلالهم للهند وقد عانوا كثيرا من معارضة الهنود لهم.

تلك عادة كانت فضيلة في المجتمع الهندي وواجبا اخلاقيا تفرضه التقاليد الموروثة على الزوجة اذا فقدت زوجها لكنها اصبحت الان رذيلة في نفس هذا المجتمع فضلا عن انها كانت تعتبر رذيلة في المجتمعات غير الهندية في الحقبة الزمنية نفسها.

لنأخذ مثلا آخر: لقد كنا في مجتمعاتنا العربية وحتى الى عهد قريب نستنكر سلوك الشاب وهو حاسر الرأس ان يدخل على قوم، او على رجل كبير السن، الذي ينبغي عليه احترامهم. في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الاوربية ولا تزال تنظر على العكس الى الرجل الذي يدخل على قوم او شخص مهم نظرة استهجان، لو كان محتفظا بغطاء الرأس انما عليه ان يخلع – قبعته – قبل ان يدخل.

والمثل الثالث يخبرنا بأن لدى سكان جزر الملايو القدماء عادة غريبة وممقوتة، مفادها ان على الابن ( البار ) ان يقتل والديه اذا ظهر عليهما مظاهر الشيخوخة والمرض حتى اصبحت الحياة عليهما عبئا ثقيلا. كانت هذه الجريمة الفضيحة تعتبر (برا بالوالدين) الذي (يساعد) الوالدين للتخلص من عذابهما.

وحتما ينظر سكان الملايو اليوم الى مثل هذه الممارسات على انها جريمة بشعة يعاقب عليها القانون !

لنأخذ المثل الرابع: كانت التقاليد المتبعة في الصين قديما، اي قبل عهد الرئيس ماوتسي تنغ، تقضي على المواطن الذي يبغي زيارة مريض، سواء كان من احد افراد اسرته او عزيز له او صديق ان يحمل اليه ( كفنا ) ! على سبيل (الهدية). تعبيرا عن محبته واخلاصه، ولا سيما اذا ساءت صحة المريض ووصلت الى مرحلة خطرة.

اما نحن فكنا ولا نزال نستهجن هذا السلوك – اللااخلاقي – وربما امتعض احدنا حين يسمع بالخبر، وفي ظنه ان هذا الانسان هو عديم الاحساس، كيف يحمل لصديقه مثل هذا (الفال السيء).

غير ان السؤال الذي ينبغي ان نطرحه هو الا يمكن ان يكون الاختلاف في الظاهر ؟

الا يمكن ان نجد – مبدأ – واحدا وراء هذه المظاهر المتغيرة جميعا ؟ الا يجوز ان يكون السطح الخارجي هو الذي يتلون بلون المجتمعات المختلفة اما المبدأ الاخلاقي فهو ثابت ودائم. وفي ظني ان اخلاق الانسان لا تقوم على مبادئ متغيرة تختلف من مجتمع الى اخر، فاخلاق الانسان واحدة في كل زمان ومكان وليس ثمة فضيلة تتحول يوما الى رذيلة، ذلك لان المبادئ الاخلاقية ثابتة لا تتغير وهي مطلقة وليست نسبية وان كانت مغلفة بقشور سطحية كثيرة.

العادة الهندية التي توجب على الزوجة ان تحرق نفسها – وفاء – لزوجها تجد ان القشرة الخارجية – الاحراق – تغلف مبدأ اخلاقيا لا يزال قائما حتى الان في الهند وفي كل مجتمع. وهذا المبدأ يقول – ينبغي على الزوجة ان تكون وفية لزوجها، اما كيف يمكن للمجتمع ان يعبر عن هذه المبدأ فهو امر متروك لظروفه. المبدأ الاخلاقي واحد وكل مجتمع يشكله بطريقته الخاصة. فاذا كان الانكليز عندما دخلوا الهند اجبروا اهلها على ابطال هذه العادة، فانهم هم انفسهم كانوا في بلادهم ياخذون بنفس هذا المبدأ الاخلاقي الذي يقول – ينبغي على الزوجة ان تكون وفية لزوجها – وان كانوا يمارسون هذا المبدأ بطريقتهم الخاصة.

فقد تشيد الزوجة لزوجها قبرا او تقيم لروحه مجلس فاتحة او ذكرى سنوية او ترتدي عليه ثوب الحداد طوال عمرها او تقيم بأسمه – سبيل ماء – يرتوي منه العطاشى او تضع على قبره باقة ورد او تقرأ على روحه سورة الفاتحة – وهو اضعف الايمان.

تلك هي امثلة متنوعة على الوفاء تختلف باختلاف المجتمعات لكن يظل المبدأ الاخلاقي واحدا وهو ( ينبغي على الزوجة ان تكون وفية لزوجها )

وفي مثال ( ضرورة بر الوالدين ) فالمبدأ الاخلاقي في المجتمع القديم كما في المجتمع الحديث يستهجن عقوق الابناء مهما تكن المبررات ! واذا كنا في قتل الوالدين لأراحتهما من المرض في المجتمعات القديمة ضربا من الوحشية، فان الموقف نفسه يعود فيكرر نفسه الان في الدول الاوربية وفي الولايات المتحدة الامريكية، حيث يتدارس فلاسفة الاخلاق على مدى تبرير (القتل الرحيم) بالنسبة للمصابين بالسرطان الميؤس شفائهم !

أتجيز الاخلاق بغض النظر عما تقول به الشرائع والعادات والتقاليد وقوانين المجتمع ام انه سلوك لا اخلاقي ؟ !

اما كونك تحمل في زيارتك لمريض وردا او حلوى او كنفا او تضع تحت وسادته مبلغا من المال، فتلك قشرة خارجية لا علاقة لها بالمبدأ الاخلاقي.

انه ليستحيل عليك ان تجد طوال التاريخ كله مجتمعا يقيم دعائمه على مبادئ لا اخلاقية مثل الكذب والسرقة والغش والتزوير او يستقبل في افراده صفات الجبن والجحود، لكن على العكس تجد تنوعات مختلفة للمبادئ الاخلاقية الدائمة، ذلك لان المبدأ الاخلاقي

– مبدأ عقلي – دائم لا يتغير، لكنه عندما يتحقق في عالم الواقع لا يتحقق وحده، لان الانسان ليس عقلا صرفا. وانما شعور ووجدان وحس وعاطفة. والوان كثيرة من الامور – اللاعقلية – ومن ثم تغلف المبادئ العقلية بكثير من هذه الاغلفة.

مما يلفت النظر ان الذي كتب قصة – دون كيشوف – يؤكد وجوب المبدأ الاخلاقي حتى بين المجرمين. فعند تجولّ رئيس الفرسان بين اعضاء عصابته من اللصوص، يقسم الغنائم بينهم ( قسمة حق ) ويقول معلنا انه قسمها بالعدل، يرد عليه دون كيشوف بسخرية ( الظاهر ان العدالة شئ جميل ينبغي التمسك به حتى بين اللصوص ) وهنا غضب اللصوص وامتعضوا وكادوا ان يفتكوا به، لأنه تجرّأ فأسمى اللصوص لصوصا.

من هذه اللفتة البارعة نخرج بأمرين : الاول ان العدالة تظل مبدأ اخلاقيا ضروريا حتى بين المجرمين. والثاني ان اللص يؤذيه جدا ان يعلم انه لص او ان يقال عنه انه كذلك ! تلك هي جوهر الاخلاق الانسانية الكامنة في اعماق نفس الانسان دون وعي منه :

فلا شرق فيها ولا غرب.

* مقتبس من كتاب افكار ومواقف لمؤلفه امام عبد الفتاح امام، القاهرة 1996

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here