المشيخة بين الأمس واليوم

*المشيخة بين الأمس واليوم*

المشيخة في المجتمعات العشائرية والقبلية ، تمثل سلطة معنوية تهدف إلى اضفاء شعور بالترابط والانسجام تحت ظل سلطة الشيخ …
ولم تكن هذه المسألة في يوم ما مجرد منصبا وجاها يبرز صاحبه إلى واجهة الاحداث، بل كانت قوة معنوية تستمد منه القبيلة اسباب عزتها وقوتها تجاه الاخرين…
وكلما كان الشيخ من ذوي الجاه الرفيع ، ساعده ذلك على فض النزاعات ومساعدة المحتاجين وبالتالي تعزيز مركز قبيلته فينعكس ذلك على باقي افراد القبيلة الذين يشعرون بموقعهم بين الاخرين والامثلة كثيرة على مر الزمان ،
وفي المجتمعات العراقيه نجد ان شيوخ العشائر والقبائل كانوا هم الحكام الفعليون ، في حين كانت الحكومة مهتمة بجمع الضرائب وتحصيلها بواسطة موظفيها، وضرب القبائل بعضها ببعض لتحقيق اغراضها الخاصة، رغم ان بعض تلك الحكومات وحسب ظروفها لم تكن ترغب في حدوث اضطرابات خطيرة فكانت تعمل على مسايسة شيوخ القبائل واستمالتهم إلى جانبها سواء بمنحهم الالقاب والاوسمة، او بالتخويف وضربهم بواسطة سلطاتها الخاصة وبمعاونة القبائل المناوئة لهم…
وبطبيعة العربي البسيطة وانقياده لطاعة شيوخه فان مهمة هؤلاء الشيوخ كانت يسيرة ومبسطة ، اذ استطاعوا ان يهيمنوا على جميع الافراد المنضوين تحت لوائهم القبلي وساعدهم على ذلك اعتزاز كل فرد بقبيلته وعشيرته وعدم اتاحة الفرصة للاخرين او المعادين من استغلال تلك الثغرات لضرب العشيرة من الداخل.
ولا شك ان ابن القبيلة – سابقا – ولظروف معينة – كان محدود الافق لما هو ابعد من محيطه الذي يعيش فيه…
فالوطن عنده ، هو العشيرة وما دونه لا يعنيه لا من قريب او بعيد ، اللهم الا اذا وجد شيوخه يدفعونه إلى ذلك…
فنظرته كانت انانية ومبسطة تجاه الوطن ، بسبب عدم نضوج مثل هذه الافكار في مخيلته، ولكن بعد ان تغير الزمن انصهر الجميع في بوتقه اسمها (الوطن) الذي اصبح الخيمة التي تضم داخلها الاوطان الصغيرة (القبائل والعشائر) فتوسع بذلك مفهوم الوطنية لديه اكثر واكثر…
ومركز الشيخ عموما مصان ومحاط بهالة من التقدير لدى اتباعه وولي عهده في مشيخته غالبا ما يكون من ابنائه ، ولكن هذا قد لا يكون شرطا دائميا ، فقد يسود القوم احد ابناء العشيرة ،
والضرورة تقول انه ليس من الضروري ان يكون ابن السيد سيدا على القوم من بعد ابائه ، انما يحق لوالده ان يقدمه لصدارة القبيلة اثناء حياته ليضمنها له بعد مماته وليثبت اقدامه في معترك الحياة العشائرية فيما بعد…
ولكن كم من المشيخات ماتت ولم يبقى منها غير الذكرى الحميدة بعد ان درس الزمن معالمها وظهرت من بعدها مشيخات حملت على اكتافها تكملة المسيرة . فقد تظهر مشيخات ليس لها من العمق الاجتماعي ما يؤهلها لتولي امر العشيرة ولكن وجود مجموعة من الصفات النادرة في شخص ما تؤهله لتسنم سدة المشيخة متخطيا بذلك المشيخة الاصلية التي لها عمق حضاري قديم ولكن عدم وجود اشخاص مؤهلين من بين ابنائها اضاع علهيم الاستمرار في حمل لواء المشيخة.
وحتى مع وجود اشخاص قد لا يملكون صفات معينة مطلوب توافرها . *وقيل إن كسرى سأل النعمان بن المنذر ، هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة ؟؟..
قال نعم … قال فبأي شيء ، قال من كانت له ثلاث اباء متوالية رؤساء ، ثم اتصل بكمال الجد الرابع ، فذاك الذي تعتبره العرب سيداً عليها* ،
ولكن يبقى الكرم هو معيار المشيخة الاول… وقيل ان احدهم جاء إلى احد ملوك العرب طالبا منه ان يوليه المشيخة على عشيرته فقال له الملك (كبر منسفك يوليدي)…
وعند البعض قد تكون الشجاعة هي المعيار العام للمشيخة ، فقد سأل بدوي كيف يصير الشيوخ عندكم؟ … قال وهو يهز سيفه بالفهم السوي والزند القوي..
واردف اخر قائلا.. الذي اذا حضر هبناه واذا غاب عبناه..
وعموما فان الكرم والشجاعة والايثار والمضيف المفتوح أمام الناس في أي وقت هي المعايير التي تحدد المشيخة، وبسببها ازدهر التراث والشعر والكصيد في المجالس والدواوين، واصبحت بعض القصائد بمثابة قنوات اعلامية مهمة لتوثيق مراحل كثيرة من طبيعة الحياة العشائرية وخصوصاً مشيختها فكم من شيخ ضاعت اخباره لولا قصيدة مهمة قيلت في حقه، وكم من افعال كبيرة وعميقة الاثر اندثرت معالمها لولا ان تناقلتها المجالس في صورة قصيدة تناقلتها الاجيال وتتغنى بقيمها الاصيلة.. اذن نحن امام منعطف كبير في الحياة العشائرية لعبت فيه القصيدة الشعبية الدور الاكبر في حفظ مآثر وأفعال الكثير من اعلام القبائل والعشائر العربية واضحى لشاعر القبيلة او مهوالها مكانة خاصة متميزة في الحفاظ على الصفات الايجابية لشيخه وقبيلته من خلال القيام بدور المؤرخ لتلك الافعال ولكن من خلال القصيدة سواء بدوية او شعبية او فصحى.. الخ وهكذا اصبحت ملامح الصورة واضحة تماما امام ابناء القبيلة لتوثيق دورهم تجاه شيوخهم ويتمثل ذلك في:..
. احترام المشيخات الاصيلة والتي قامت على اكتافها كيان العشيرة وبرزت افعالهم خاصة في اوقات الشدة والعسر والمجاعات وهذا يمثل جانب الكرم.
. اعطاء المشيخات التي حافظت على كيان العشيرة العام حقها الصحيح في التوثيق الشفوي واظهار التقدير والتبجيل لهم أمام ابناء العشائر الاخرى خصوصا وان الكثير من شيوخ العشائر كانوا فرسانا بقدر ما كانوا قادة حافظوا على عشائرهم ودافعوا عنها بالدم قبل المال وهذا يمثل جانب الشجاعة.
. رفض سيادة اصحاب المال دون الاخلاق والصفات الحميدة ، فالمال ليس المعيار الوحيد للمشيخة وان كان عاملا مساعدا مهما لاداء واجبات معينة مع احترام اصحاب الاموال بقدر ما تحمل دواخلهم من صفات اصيلة.
لقد دفعني ضميري أن اكتب عن موضوع العشائر العراقيه الحاليه التي أوصلها شيوخها الى ( الحضيض ) بعد أن اصبح اسم ولقب ( الشيخ ) *محرج* في الوقت الذي كان شرفا وعزا للفرد والعائله والعشيره والقبيله والوطن ، حتى طلبت من أولاد عمومتي عندما كنت في العراق بعدم مناداتي ( بالشيخ ) لما لمسته ورايته من أفعال دنيئه وخسيسه لبعض الاشخاص الذين أطلقوا على أنفسهم لقب ( الشيخ ) في الوقت الذي هم فيه ابعد من هذا اللقب لعدة اسباب منها : أنهم غير محترمين من قبل الناس ومن عوائل معروفه بجبنها وبخلها ولصوصيتها وليس لديهم مايؤهلهم لقيادة قبيلتهم أو عشيرتهم أو حتى بيوتهم ، ثم لفت أنتباهي أمر خطير على مستقبل القبائل العراقيه هو أن اي فرد من أبناء القبيله عندما يتبوء منصب كبير في الدوله يحاول بكل ماأوتيه من قوه أن يمسخ شيخ قبيلته ويطلق على نفسه وعلى والده لقب شيخ ولايعير اي اهميه لشيخ العشيره الاصلي رغم أنه يعرف ذلك جيدا ، كذلك وجدت كثرة ( الشيوخ ) في العشيره الواحده بعد أن كنا نعرف أن العشيره الفلانيه شيخها فلان وجدت عشرات الشيوخ الجدد وكل شيخ منهم يتبع لحزب معين وقد اصبح مع الاسف ذيل وذليل لذلك الحزب لكونه يتقاضى راتبا شهريا من الحزب الذي نصبه شيخا ، ومن الامور الخطيره التي لمستها خلال وجودي في العراق كثرة المشاكل والتي قسم منها لايجوز الفصل بها مطلقا بل يتم الحكم الفوري دون النظر الى مرتكب الفعل أو الاجتماع به أو الحديث معه بعد أن تثبت القضيه عليه منها : الزنا ، والسرقه ، والقتل العمد ، ومن الامور المضحكه دعاني شيخ ( مستحدث ) وأصر على أن ألبي دعوته وهو شخص بسيط لايملك مايؤهله للمشيخه اي شيء سوى أنه مسنود من حزب قوي في السلطه فلبيت دعوته وذهبت مع عدد من أولاد عمومتي فوجدته قد فتح مضيفا صغيرا يستوعب لعشرين شخص ووجدت لوحه مخطوطه في المضيف وقد كتب عليها أسعار الكسر ، والقتل ، والدهس ، والاعتداء على الناس بدون حق وقد كتبوا على كل مشكله سعر الفصل المراد استحصاله من الخصم مع خصم مبلغ كبير ( للشيخ ) على أتعابه ، لم أعلق على مارايته ولكن عندما أنتهت الجلسه قلت له ياشيخ مزق اليافطه التي في مضيفك فأنها عار علينا نحن الجبور نطالب بالفصل وكل قبائل العراق لديهم مثل يقولونه في كل فصل عشائري ( ياليتنا نصل الى ماوصل أليه أولاد السلطان جبر ) قال وما ذلك ؟ فقلت له : أسال من نصبك شيخا على الناس ، ولمن لايعرف سنينة الجبور وعادتهم أنهم لم يطلبوا فصل من أحد قط ألا من تجبر عليهم وظلمهم فقط ، ولقد رايت ذلك بعيني والله والناس تشهد على ذلك ، لقد اصبحت المشيخه في العراق مهزله ولم يعد شيخ العشيره المحترم الاصلي الشريف المعروف الذي ورث المشيخه وراثة له مكان بين الشيوخ المعينين من قبل الحكومات المتعاقبه على حكم العراق فلقد مسخ البعث شيوخ العشائر الاصليين وقتلهم وشردهم وقلل من احترام الناس لهم من خلال حزب البعث الشيفوني الذي جعل من القبائل مجرد اسم فقط ومن شيوخها مجرد دمى ولايعود لهم الا في الايام الحرجه والتي غالبا مارفضها الشيوخ الاصلاء ليقوم بعدها بتعيين شيوخ جدد ليس لديهم اي مكانه في المجتمع وهم من أطلق عليهم ( بشيوخ التسعين ) ثم جاء شيوخ مابعد التغييرلتصبح المشيخه مجرد أسم لاغير ، أنها الحقيقه التي تزعج الاخرين ،
والله من وراء القصد …..

*جبر شلال الجبوري*

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here