تأويل القرآن الكريم بصورة تعسفية: آية التبليغ نموذجا

تأويل القرآن الكريم بصورة تعسفية: آية التبليغ نموذجا

أحمد الكاتب

لقد نشأت في عائلة شيعية متدينة تعيش في كربلاء وتؤمن بنظرية الامامة الإلهية لأهل البيت، ودخلت الحوزة العلمية الشيعية، منذ صغري، لأتشبع بالفكر الامامي، وأكون داعية لهذا الفكر. وقد كتبت قبل حوالي خمسين عاما كتابا تحت عنوان: (١٠-١= صفر) في إشارة الى موضوع (الولاية) وأهميتها في الدين بحيث اذا حذفنا (الولاية) فلن يبقى شيء من الدين، ووضعت هذه الآية على غلاف الكتاب: “يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغا رسالته، والله يعصمك من الناس، ان الله لا يهدي القوم الكافرين”. (المائدة، ٦٧)

وقلت في ذلك الكتاب الذي كان يقلد الفكر الامامي الرائج في ذلك الزمان في أوساط المؤمنين في كربلاء، والعالم الشيعي الامامي الاثني عشري، بأن الله تعالى قد أمر نبيه الكريم بأن يبلغ أمر ولاية الامام علي من بعده، وقد نزلت تلك الآية في أثناء العودة من حجة الوداع، عند غدير خم، فقام النبي بجمع المسلمين وتبليغهم بأمر ولاية علي، وقال: “من كنت مولاه فهذا علي مولاه…”. وهنا نزلت الآية التالية: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة، ٦)

وقد اشتهر كتاب الشيخ محمد بن علي الصدوق (٤٨١هـ): (كمال الدين واتمام النعمة) الذي يتحدث عن مضمون الأمر الذي هدد الله نبيه بوجوب تبليغه للناس، أي الولاية، (وان لم تفعل فما بلغت رسالته).

وكما تعرفون فقد قمت بمراجعة نظرية الامامة الإلهية، في عام ١٩٩٠ بعد أن درستها بصورة كاملة وشاملة، ولا سيما موضوع ولادة (الامام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري) وتوصلي الى اختلاق نظرية الامامة من قبل المتكلمين في القرن الثاني الهجري، وكتبت كتابي (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى الى ولاية الفقيه) قبل حوالي ثلاثين عاما. ولم أعد أؤمن بأن (الامامة) من فروع الدين فضلا عن أصوله، التي أمر الله بها، وأنها (الواحد) الذي اذا نقص من (العشرة) تكون النتيجة (صفرا) وأن من لم يؤمن بالامامة فقد فقد دينه، واصبح ضالا!

ولكن أحد الأصدقاء القدامى من كربلاء أخبرني قبل أيام أنه كان يستمع الى عدد من محاضراتي حول الفكر الامامي، وانه يكاد يتفق معي فيما أقول، الا انه لا يزال يتمسك بتفسير آية (التبليغ) وآية (اكمال الدين) حسبما تحدثت عنهما في كتابي الآنف الذكر (١٠-١= صفر) وطلب مني الرد على ذلك، فوعدته خيرا.

وقمت اليوم بمراجعة الآيتين الواردتين في سورة المائدة، فرأيت أن آية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) تأتي في مقدمة سورة المائدة، وتحمل الرقم (٦) بينما الأية الأخرى (آية التبليغ) تحمل الرقم (٦٧) وهي تأتي ضمن مجموعة من الآيات التي تخاطب اليهود والنصارى وتدعوهم الى الاعتراف بالإسلام والايمان بما أنزل الله من قرآن، وعدم التشبث بالكتب السماوية السابقة (التوراة والانجيل) لوحدها ورفض الكتاب الخاتم (القرآن الكريم) وهي هذه:

“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)”.

وقد تكررت الإشارة الى ما أنزل من الله في هذه المجموعة من الآيات ست مرات، بما يفسر آية التبليغ (يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليكم من ربك) بمعنى تبليغ القرآن، وليس تبليغ أمر معين خاص، بعد أن اكتمل الدين، وأكد الله ذلك في آية سابقة هي الآية السادسة من سورة المائدة.

وان من يقرأ القرآن بصورة محايدة، بعيدا عن نظرية الامامة المسبقة، لا يفهم من تلك الآيات أية إشارة الى موضوع الامامة والولاية، أو نصب الامام علي خليفة للرسول في غدير خم، ولا سيما بأن القرآن الكريم لا يتحدث مطلقا عن موضوع الدستور ونظام الحكم بعد النبي الأكرم (ص)، أو الوصية للامام علي بن ابي طالب (ع) كما لم يتحدث الرسول عن موضوع الخلافة ونظام الحكم، وأما (حديث الغدير) فقد كان حديثا في واقعة، ولا يتضمن تصريحا أو نصا بالخلافة للامام علي. وقد تحدثنا عن ذلك مفصلا في مقال خاص، وكتب عديدة لنا، ونحاول هنا التأكيد على أن آية (اكمال الدين) قد جاءت قبل آية (التبليغ) وبعد أن اكتمل الدين، ولا علاقة لها بآية التبليغ، ولم تنزل بعدها، وبعد (حديث الغدير). وان المقصود من آية (التبليغ) ليس الا تبليغ القرآن.

وان اقحام نظرية الامامة في القرآن الكريم، ليس الا تأويلا تعسفيا لآية التبليغ وآية اكمال الدين، ومحاولة لاتباع المتشابه الذي نهى الله عنه، في الآية السابعة من سورة آل عمران: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ “.

ان الامامة أو نظام الحكم، ليس من أمور الدين ، وانما من أمور الدنيا، كما هو اليوم في العالم الإسلامي، وكما فهم ذلك الصحابة الكرام وعلى رأسهم الامام علي بن ابي طالب (ع) الذي قال في الخطبة المعروفة بالشقشقية: “لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز”.

ان نظرية الامامة الإلهية، ونعني بها النصب من قبل الله تعالى عبر رسول الله ، وعبر الأئمة السابقين لللاحقين، تستند الى (حديث الغدير) الغامض وتأويل القرآن بصورة تعسفية، لكي تبني نظرية سياسية دينية ممتدة عبر الزمان من يوم وفاة رسول الله (ص) الى يوم القيامة، ولكنها تفتقر الى الأدلة الواضحة والقوية والمتواترة، وتتهاوي عند مقارنتها بتاريخ الامام علي وابنائه الكرام، فقد رفض الامام علي الاستجابة لدعوة عمه العباس بعد وفاة رسول الله، بمبايعته فيقال عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يبقى أحد لا يبايعه، كما رفض دعوة ابي سفيان بمساندة الامام علي في مقابل أبي بكر، وفضل الامام مبايعة الخلفاء الثلاثة الأوائل، وعندما قتل عثمان رفض قبول البيعة ثلاثة أيام وقال للثوار: اني لكم وزيرا خير لكم مني أميرا، وعندما ضربه ابن ملجم، رفض الامام العهد بالامامة الى ابنه الحسن وقال: اني اترككم كما ترككم رسول الله، ثم تنازل الامام الحسن عن الخلافة لمعاوية بن ابي سفيان، بعد أن بايعه الناس، ولم يوص الى أخيه الحسين، ولم يوص الحسين الى أحد من بعده. فأين هذه النظرية الإلهية القائمة على النص من الامام السابق للاحق؟ وأين هي نظرية الامامة اليوم؟ ألم تصل الى طريق مسدود عند من قال بها ، في القرن الثالث الهجري عندما توفي الحسن العسكري ولم يشر الى وجود ولد له ولا الى مصير الامامة من بعده ، مما أوقع الشيعة الامامية في حيرة مستمرة الى اليوم؟

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here