عقيدة الدين في بلاد الرافدين

       بقلم :عضيد جواد الخميسي

في بلاد الرافدين القديمة كان معنى الحياة بالنسبة للفرد ؛ أن يعيش بتوافق دائم مع الآلهة ، وأن القصد من خلق البشر ؛ كان لجعلهم شركاء مع آلهتهم في صّد قوى الفوضى ، والسعي في الحفاظ على سلامة المجتمعات .

أسطورة بلاد الرافدين

وفقاً لأسطورة الخلق في بلاد الرافدين ( إينوما إيليش ) ؛ بدأت الحياة بعد صراع ملحمي بين الآلهة الأكبر والأصغر سنّاً .

في البداية كانت هناك فقط دوّامات مائية في حالة من الفوضى ، وغير متمايزة بين مذاقيها العذب والمُرّ . فُصلت هذه المياه إلى مصدرين رئيسيين : مصدر ذكري ” أبسو” ؛ وهو الماء العذب ، ومصدر أنثوي “تيامات” ؛ وهو الماء المالح ، ومن اتحادهما معاً ولِدت الآلهة الأخرى .

كانت الآلهة الصغيرة تنشر الصخب والفوضى في كل مكان جرّاء نشاطها اليومي ، إلى درجة أثارت فيها غضب الآلهة المسنّة ؛ وخاصة أبسو. وبناء على نصيحة مستشاره ؛ قرر التخلّص منهم . عند ذاك ؛ صُدمت تيامات بمؤامرة أبسو وحذرّت أحد أبنائها (إيا) ، إله الحكمة والذكاء منها .

بمساعدة إخوانه وأخواته ، قام إيا بتنويم أبسو ثم قتله. من جثة أبسو؛ خلق إيا الأرض وبنى منزله الخاص (على الرغم من أن الأساطير اللاحقة تفيد من أن ” أبسو ” تعني المنزل المائي للآلهة أو عالم الآلهة) .

 

قررت تيامات المستاءة من موت زوجها أبسو في الانتقام له من أبنائها . واجه إيا وإخوته والدتهم تيامات والمتحالفين معها من المخلوقات المتوحشة في تلك الحرب ، وقد كان قائد حملتها الهجومية ؛ عشيقها ” قوينگو  Quingu” .

تمكنت تيامات وقواتها من تحقيق النصر على الآلهة الأصغر سنّاً في أول المعركة ، وبعد الهزيمة التي مني بها الآلهة الشباب ، تقدّم  ” مردوخ “إله الرياح والعواصف الكبيرة بعرض الى رفاقه الآلهة ؛ أقسم فيه مردوخ على أنه سيهزم تيامات في حال جعْلهِ ملكاً عليهم . وافقت الآلهة على ذلك ، ودخل مردوخ في معركة حاسمة مع تيامات ، فتمكن من قتلها ؛ ومن جسدها خلق السماء ، ثمّ استمرّ في إنجاز مفاصل النشوء الأخرى ؛ وذلك عندما خلق البشر من بقايا  جسد قائد الهجوم ” قوينگو” ؛ كمساعدين للآلهة .

 

كتب البروفيسور “دي . بريندان نيگل “، التعليق التالي حول هذه القصة :

“على الرغم من انتصار الآلهة الشباب الواضح ، إلاّ أنه لم يكن هناك ضمان ؛ من أن قوى الفوضى قد لا تستعيد نشاطها وتقلب جهود الخلق المنظّم للآلهة. لذا فقد كان ضرورة مشاركة الآلهة مع البشر في كبح جماح الفوضى المدمرّة ، وكان لكل منهما دوره الخاص في هذه المعركة الدرامية . أمّا مسؤولية سكان مدن بلاد الرافدين ؛ فهي مهمّة من خلال تزويد الآلهة بكل ما تحتاجه لإدارة النظام الكوني ” .

 

المدن والمعابد والآلهة

يعتقد سكان بلاد الرافدين القدامى ؛ أن الآلهة قد اهتمّت بشركائها البشر في كل جانب من جوانب حياتهم ، وذلك من خلال تلبية دعواتهم في الصلاة ؛ ابتداءً من ديمومة الصحة والثراء والرخاء إلى أبسط متطلبات الحياة . وتتركز حياة سكان بلاد الرافدين حول آلهتهم . وبالتالي ؛ فإن المعابد التي شُيدّت ؛ كانت منازلهم على الأرض .

كان لكل مدينة وعند مركزها ؛ معبداً يخصّ الإله الراعي فيها . أشهر مدينة مقدسة في بلاد الرافدين ، كانت “نيپور” ، حيث أجاز الإله إنليل حكم الملوك وأشرف على المعاهدات والمواثيق . فقد كانت نيپور مركزاً مهماً جداً ؛ بحيث لم تمتد لها يد التخريب في الفترة المسيحية ، باعتبارها مركز ديني مقدّس ، ولكن خلال الفترة الإسلامية ؛ حصل الدمار فيها حوالي عام 800 ميلادية ،أي بعد أقل من مئة عام على ظهور الإسلام .

كان معبد الإله الراعي أو الإلهة الراعية للمدينة هو الأكبر في المدينة ، ولكن كانت هناك معابد ومزارات أصغر للآلهة الأخرى على مدار التاريخ القديم . إذ كان يُعتقد ؛ من أن المعابد التي تم إنشاؤها ، هي بمثابة السكن الحقيقي للآلهة ، وقد تم تصميم معظم المعابد بثلاث غرف ، جميعها ذات نقوش وزخارف مبالغ بها كثيراً ، وأبعد غرفة وأوسعها في بناية المعبد ؛ كانت غرفة الإله أو الإلهة ، حيث الإله يقيم في شكل تمثاله أو تمثالها ، وفي كل يوم ، كان كهنة المعبد يقومون بتلبية احتياجات الإله.

كتب “نيگل” ، وصفاً دقيقاً للنشاط اليومي الذي يمارسه الكهنة في المعابد؛ كما ورد في المقطع أدناه :

” يومياً ؛ وعلى صوت الموسيقى والتراتيل والصلوات ، يتم غسل تمثال الإله وتبديل ملابسه ، وتعطيره وتغذيته ؛ من قبل المنشدين والراقصين من الكهنة .

مع أدخنة البخور الكثيفة المتصاعدة ؛ توضع قبالة تمثال الإله ؛ وجبات من الخبز والكعك ، وفواكه كثيرة مع وعاء من العسل على طاولة الطعام ، وإلى جانبها ؛ طاولة متنوعة من أقداح البيرة والنبيذ والماء .. في أيام الأعياد ؛  يتم نقل تماثيل الآلهة على ظهور العربات الخشبية ؛ في موكب رسمي عبر فناء المعبد ، ومن ثمّ الى شوارع المدينة ؛ مصحوبة بالغناء والرقص “.

 

حظيت آلهة كل مدينة بهذا الاحترام والتبجيل العظيم ، وكان يُعتقد في أنهم بحاجة إلى جعل جولات المدينة مرة واحدة في السنة على الأقل ، وذلك بنفس طريقة التنقل التي يتبعها الملوك أو الحكّام المخلصين والذين يبدأون بها من قصورهم في تفقد مدنهم بانتظام .

يمكن للآلهة حتى زيارة بعضهم البعض في أوقات متفاوتة ، وفق ما ذكر في حالة الإله “ناپو” الذي كان يُنقل تمثاله مرة واحدة في السنة من “پورسيبا” (اليوسفية حاضراً) إلى بابل ؛ لزيارة والده الإله “مردوخ ” . حيث يتم تكريم مردوخ نفسه ، في احتفال مهيب خلال مهرجان السنة البابلية الجديدة عندما يُنقل تمثاله إلى خارج المعبد وعبر شوارع مدينة بابل . عند نهاية اليوم ، يتم نقله إلى منزل صغير خاص خارج أسوار المدينة ، حيث يمكنه الاسترخاء مع الهواء المنعش ، والاستمتاع ببعض المناظر الطبيعية الخلاّبة التي من حوله !. طوال تلك المسيرة الحاشدة ، كان الناس يهتفون ” إينوما إيليش “؛ تكريماً لانتصار مردوخ الكبير على قوى الفوضى في تلك الملحمة الاسطورية .

 

بلاد الرافدين والعالم السفلي

لم يكن سكان بلاد الرافدين يوقرّون آلهتهم فحسب ، بل أيضاً أرواح أولئك البشر الذين رحلوا إلى العالم السفلي . كانت جنّة بلاد الرافدين (المعروفة باسم “دلمون” للسومريين ) ؛ أرض الآلهة الخالدة ، إلا أنها لم تحصل على نفس الدرجة من الاهتمام الذي يتلقّاه العالم السفلي . كان العالم السفلي في بلاد الرافدين ، حيث تذهب أرواح المتوفين من البشر ، أرض مظلمة ، وكئيبة ، ولن يَعود منها أحد  ، ومع ذلك ، فإن الروح التي لا يجرى أداء مراسيمها وطقوسها بشكل صحيح  أثناء الدفن ؛ يمكن أن تجد طريقها لإحداث البؤس في نفوس الأحياء .

بما أن القتلى من الناس (بسبب الحروب أو الجرائم الجنائية ) ، غالباً ما يتم دفنهم تحت أرض المنزل أو بالقرب منه ، فقد كان هناك مزار صغير لهؤلاء الموتى داخل كل منزل تقريباً  (أحياناً معابد صغيرة خاصة في منازل الأثرياء ، كما عثر عليها في مدينة أور ) ؛ حيث تُقدم القرابين والنذور اليومية من الطعام والشراب غفراناً لأرواح الراحلين .

 

هناك قناعة راسخة لدى الناس في بلاد الرافدين ؛ وهي إذا كان الفرد قد قام بواجبه على أكمل وجه ؛ تجاه الآلهة والآخرين في المجتمع ، وكان يواجه باستمرار بعض المصدّات المسيئة في حياته اليومية ؛وجب عليه استشارة مستحضراً للأرواح أو عرّافاً لقراءة الطالع ؛ لبيان ما إذا كان أحد قد أساء إلى أرواح الموتى بطريقة مقصودة أو بغيرها .

القصيدة البابلية الشهيرة ” لدلول بل نميقي” عام 1700 قبل الميلاد (المعروفة باسم ” لأمجدنَ ربّ الحكمة ” بسبب تشابهها مع كتاب سفر أيّوب المقدس ) ؛ يذكر لنا هذا العمل الأدبي البابلي من خلال بطله ” تاپو ـ يوتول ـ بل ” (المعروف سومرياً باسم ” لالوراليم ” ) ؛ عن مدى شكوكه في سبب معاناته ، إذ سأل العرّاف عن سبب مصائبه : “استَشرتُ مُستحضّراً للأرواحِ ، لكنّهُ لَم يَفهَمني ” ، و ؛ ” لماذا تحدث الأشياء السيئة للناس الطيبين ؟ ” . . الأمر نفسه كان قد تكرر في سفر أيّوب . أمّا عن شخصية لالوراليم ، فهو يؤكد ؛ أنه لم يفعل شيئاً مسيئاً لأي إنسان وإله أو روح ، ليستحق كل تلك المصائب التي يعاني منها.

 

العرافة وقراءة الطالع

كانت العرافة جانباً هامّاً آخر من عقائد بلاد الرافدين ، التي تم تطويرها إلى أقصى درجات الاهتمام في المجتمع الرافديني . يشير رقيم طيني أثري الى (كبد كبش) ، الذي عُثر عليه في مدينة ماري ، وعادة ما يفسّر العرّاف طبيعة الرسائل المذكورة في هذا الجزء من أحشاء ذلك الكبش .

بالنسبة إلى بلاد الرافدين ؛ كانت العرافة طريقة (علمية) في تفسير وفهم الرسائل من الآلهة ضمن السياقات المكانية . مثلاً ؛ إذا سلك نوع محدد من الطيور سلوكاً غير عادي، فكان هذا يعني شيئاً ما يفهمه العرّاف جيّداً ، بينما إذا كان سلوكه طبيعياً ،  تفسيره عند العرّاف ؛ من أن الآلهة  كانت تقصد شيئاً آخر مختلف تماماً عن الحالة الأولى .

مثال آخر ؛ قد يتم تشخيص رجل يعاني من أعراض مرضية معينة من قبل عرّاف بطريقة خاصة ؛ بينما امرأة تعاني من نفس الأعراض يتم تشخيصها بطريقة أخرى ، وذلك بناءً على كيفية قراءة العرّاف للعلامات الظاهرة على المريض .

كان لدى حكّام المدن عرّافين خاصّين (مثلما لدى الملوك وحاشيتهم أطبائهم الشخصيين) ، بينما كان الأشخاص الأقل ثراءً ، يعتمدون على الخدمات التي يقدمها العرّاف المحلّي .

 

قدّمت الأساطير والحكايات والأعمال الأدبية الأخرى المتعلقة بآلهة بلاد الرافدين ؛ العديد من الأحداث المثيرة والرموز والشخصيات التي يعرفها القرّاء في العصر الحديث ؛ على سبيل المثال ؛ قصة الإنسان الأول ( أدابا ) ؛ حكاية الطوفان الكبير ( آطرا ـ هاسيس ) ؛ قصيدة شجرة الحياة ( إنانا وشجرة هولابو ) ؛ حكاية الرجل الحكيم ( أسطورة إتانا ) ؛ قصة الخلق ( إينوما إيليش) ؛ اسطورة البحث عن الخلود ( ملحمة گلگامش ) ؛ حكاية موت وإحياء الآلهة ( رحلة إنانا إلى العالم السفلي ) .

أصبحت تلك الأعمال الأدبية من بين مختلف النصوص الأخرى ؛ أساس الأساطير والحكايات اللاحقة التي تداولها الرافدينيون في مناطق واسعة ؛ والتي تفاعل الناس معها (إيماناً في حقيقتها) ، وعلى وجه الخصوص في أرض كنعان ( فينيقيا ) ؛ عندما كان كهنتها يسوّقون الروايات التي تضم الآن الكتب المعروفة تحت مسميات (العهد القديم) ، و(العهد الجديد)، وجعلها مقدّسة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دي . بريندان نيگل ـ تأريخ المجتمع والثقافة ج7 ـ بيرسون للنشر ـ 2009 .

ستيفاني دالي ـ أساطير بلاد الرافدين ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2009 .

جيريمي بلاك ـ الآلهة ،العفاريت ، الرموز ، في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة تكساس ـ 1992.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here