زيارة كافكا بعد منتصف الليل : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم
بينما كان هو يحاول غلق الصفحة الأخيرة من رواية ” القصر ” شاعرا بأصابع الإرهاق تضغط عليه بشدة ، فقد كانت عقارب الساعة حينها تخب بخطوات متثاقلة و مترنحة لتدخل ممرات ودهاليز منتصف الليل المعتمة لتستريح أخيرا على نقطة الصفر ذات فراغ نابض بقوة ، بينما ظل النعاس يتراقص يمينا ويسارا تحت جفنيه باستغراقات خاطفة حينا و عميقة حينا أخر ، فوجد نفسه يسرع خطاه بين تلك الدهاليز الشبيهة بتفرعات المتاهة الشائكة وسط أناس مجهولين وغامضين أشبه بخدم مطيعين جدا ، يسرعون حاملين سجلات ضخمة ومصفرة ومهترئة من أوراق عتيقة تحمل أنفاس قرون متيبسة …غير أنه سرعان انتفض ، فجأة ، على صوت رنين جرس البيت ، أو خُيل له على هذا النحو، ُ مستغربا من أن أحدا يسمح لنفسه ليزوره في مثل هذا الوقت المتأخر من منتصف الليل ، وحالما فتح باب المدخل تفاجأ برجل غريب يقف هناك بمعطفه الأسود الطويل وقبعته المائلة قليلا ، وقد بادره الرجل الغريب حينذاك بصوت ضعيف ونبرة مرتبكة ومنهكة :
ــ مرحبا ؟.. رأيتك ساهرا من خلال الضوء المشتعل في غرفتك ففكرت بزيارتك فعذرا إذا كان الوقت غير مناسب ..
عندما رأى استغرابي وحيرتي أضاف ــ أراك لا تتذكرني يا ماكس ..أنا صديقك القديم فرانتس كافكا !. ــ ثم وهو يتراجع ، فجأة ، قليلا إلى الوراء بعد أن تفرّس في ملامح وجهي جيدا وإذا به يضيف :
ـــ أوه أنا آسف حقا ..يبدو لي أنني خلطت بين عنوانك وعنوان صديقي ماكس برود..آه يا للخطأ الفادح .. أعذرني رجاء ..
ثم استدار ليرجع على أعقابه فصحتُ خلفه بنبرة صداقة حميمة :
ــ آه لو تعلم كم تسعدني زيارتك .. يا له من طيف تلباثي .. فقبل أيام كنتُ أفكر بك فيما إذا كان قد حالفك الحظ بالعثور على رب القصر .. و ها أنت هنا أمام بيتي ! .. أدخل رجاء ولو فترة قصيرة لترتاح على الأقل.. ــ واردفت كأنما أشكو ــ حقيقة ليس ” كاف ” وحده تاه هناك بين تلك الممرات الطويلة و المتداخلة والمتشابكة جدا بحثا عن أمير القصر ، إنما أنا أيضا تهت تيهانا مدوخا أصابني باليأس قليلا ، دون أن أعلم من هدف وجودي هناك أصلا ..
عند ذاك فتحتُ الباب على مصراعيه مستأذنا له بالدخول ، في نفس الوقت مرحّبا به بحرارة مع فرحة جذلة غمرتني لحضوره المفاجئ ،لأقول له في النهاية ، كأنما اعتذارا عن تقصير غير متعمد :
ــ آه لو تعلم يا صديقي كافكا ، كم من مرة خططتُ لزيارتك إلى مصحتك في سويسرا ، ولكن في اللحظة الأخيرة كانت دائما ثمة عقبة تأتي مباغتة لتعرّقل خطة الزيارة ، بالطبع لم يكف ضميري عن تأنيبي بسبب هذا التقصير . فليس شيئا جميلا أن لا تزور صديقا حميما يرقد في المستشفى محدقا طوال الوقت في جدران بيضاء أو في سقف واطئ جدا ..
تمتم هو بلهجة خجولة هازا يده بحركة :
ــ لا عليك قطعا !.. ولا أخفي عنك أنه ما كانت تبهجني زيارة أحد بسبب حالتي الصحية المتردية على طول الخط ، ولكن في مقابل ذلك ، كانت وحدتي الروحانية الممتلئة و المزدهرة بتجليات دائمة مع صمت وقور ورصين مخيم ، فكل ذلك كان يعوّضني عن أية زيارة آخرى .. حقيقة أنا لست ممن يرغبون في معاشرة الناس طلبا لمؤانسة أو تمضية وقت في ترح و مرح .. فلي عزلتي الاختيارية البهيجة و الممتلئة بجماليات روحي الزاخرة ..
في أثناء أنه لم يكف عن السعال ماسكا بين أصابع يده منديلا أبيض ، محاولا مسح زوايا فمه ، بعد كل نوبة طويلة ومزعجة من سعال مُلّح ، بينما قمتُ أنا بتحضير قدحين مع قنينة نبيذ ساخن تصورته سيخفف من حدة سعاله ، وإذا به ينهض بعد فترة قصيرة من جلوس ، مرتديا معطفه وهو يقول مودعا باستعجال :
ــ يتحتم عليّ الذهاب لمقابلة صديقي ماكس .لأقول له رأيي الصريح في سلوكه غير النزيه معي ..
ــ تعني بخصوص حكاية حرق كل أعمالك الروائية والقصصية ..
ــ نعم اختلق قصصا وحكايات غير صادقة عني ربما سعيا في تحقيق مأرب معينة ..
قال ذلك و غادر مودعا بانحناءة رأس خفيفة ، مختفيا كظل هش ابتلتعه موجة كثيفة من ظلام متربص ..
ولكن دون أن تمر فترة طويلة وإذا بجرس بيتي يرن مرة أخرى ، فكرت وأنا أفتح الباب ، أنه كافكا ربماعدل رأيه وقرر البقاء عندي لفترة معينة ، أو ربما نسى مخطوطة عندي أو شيئا آخر من أغراضه الزاهدة والشحيحة ، ولكن الزائر لم يكن كافكا ، إنما آنسة مجهولة زعمت أنها ممرضة كافكا ، جاءت لتبحث عنه ، بعدما غادر دار النقاهة بدون موافقة الأطباء المشرفين على علاجه ….
ليس هذا فقط …………………..
إنما زعمت الممرضة إليسا لوكا التي كانت حاضرة اللحظات الاخيرة لرحيل فرانتس كافكا ـ وهو نزيل مصح نقاهة في سويسرا ــ أضافت بتفصيل أكثر ــ دون أن تتمكن من توضيح فيما إذا كان كافكا يكتب أو يتأمل مستغرقا في أقبية ذاته ، أو متحدثا مع نفسه في نوبة هذيان وارتفاع حمى ضارية كانت تخطفه بعيدا في لحظات طويلة ، مع أن أسارير وجهه الشاحبة جدا ، بدت و كأنها مشرقة بغبطة و انشراح مريحين أثناء كتابة ودفقات تفكير عميق ، فزعمت أنه قال فجأة :
ـــ أخيرا تخلصت من والدي الديكتاتور..
أضافت أنه قال ذلك ببهجة ومرح طفل يكون قد حصل على لعبته المفضلة أخيرا ..
ورغم أن هذا التصريح قد يبدو غريبا بعض الشيء عن الأباء عموما ، غير أنه لم يخرج اعتباطا من فم كافكا مثلما عبر عن اعتقاده بعض الأصدقاء المقربين منه ، حسب زعم ماكس برود و الذين طالما سمعوا شكواه ومعاناته – من اضطهاد وديكتاتورية أبيه الصارم العنيد ، والذي كان يفضّل أن يمضي أبنه كافكا حياته بائعا متجولا بين المدن و الأرياف ليكون في النهاية تاجرا بارعا و ناجحا في حياته مع مال وفير وغزير ، وهي مهنة بائع متجول التي كان كافكا يمقتها ويبغضها أشد مقتا و كرها ومن صميم قلبه ..
وليس هذا فقط أنما زعمت الممرضة إليسا أنها ذات مرة حينما كانت ترتب وسادة كافكا وهي تضع حبة دواء على طاولته أنها لمحت عبارات كتبها كافكا من قبيل :
ـــ أنا الآن حر مثل نسر انطلق مرفرفا من قفصي المشبك و التعيس بعد رحيل والدي ، بل استطيع ان افعل ما يحلو لي ، كأن أتوقف عن أن أكون بائعا متجولا في الأرياف والقرى البعيدة ، وأن أتزوج حبيبتي المخلصة الحنونة مالينا الرائعة أن شئتُ ، أو أن انصرف للكتابة كليا ، فتلك هي قمة السعادة بالنسبة لي، لو منحني قدري القاسي بعضا قليلا من الوقت فقط ..
هنا تكتب الممرضة إليسا لوكا في مذكراتها ملاحظة ، معبرة عن استغرابها من أن كاتبا قديرا و معروفا بانشغاله الشديد بتشاؤمية وعبثية الوجود البشري ومصيره المهدد دوما من قبل قوى مجهولة و مترصدة ، أي كاتب مثل كافكا ، أن تكون أمنيته بسيطة و سذاجة إلى هذا الحد ، كأن يتمنى أن تكون له مثلا :
ـــ ” زوجة محبوبة ، تهز مهد طفلها الغافي بوداعة ولطف ، كل ذلك بقرب طاولة للكتابة ، في وسط غرفة شبه معتمة وغارقة في صمت شامل و مطبق ..
وتختم الممرضة مذكراتها ، كأنما تعبيرا عن خيبة أمل غير متوقعة :
ــ لأكتشف في النهاية أن هؤلاء الكتّاب المشهورين أغلبهم عندهم أمنيات وطموحات بسيطة وعادية مثلنا نحن البشر ” العاديين ” ولكن المسكين كافكا لم يحلفه الحظ لتحقيق حتى هذه الأمنية البسيطة ..
وهنا تحاول إليسا لوكا مسح بعض قطرات دموعها التي سقطت على السطور ، أسفا على رحيل كافكا المبكر.
ملحوظة : أحداث وأجواء القصة برمتها من نسج خيالي أنا ، و من ضمنها شخصية و اسم الممرضة أيضا ..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here