إنتهت الحرب .. فهل تهدأ وطاويط الليل ؟

إنتهت الحرب .. فهل تهدأ وطاويط الليل ؟

محمد علي مزهر شعبان

أنتهت ثمان سنوات والحال هو الحال، الناس تنتظر اليوم المأمول لخلاصها، حتى جاء الثامن من آب عام (1988) ليعلن أن السواد أكتحل باللازورد، وإن الصفحة المشرقة ستفتح آفاقاً جديدة للأمن والسلام، وظلت الحياة في ظل نور آخر النفق، ولمعة ضياء في عتمة أدهمت العمر. إنتهت الحرب وقد احترقت فيها كل الأوراق الندية، تحت عناوين وشعارات قومية وطنية هتلرية، عفترية، عنترية . كان الناس في واد والرئيس في واد . الناس بعد أن سيقت ووقعت صرعى على أديم الشرق لا يعرفون هل من مدى لرغبة هذا الشخص في الإبادة ؟ رغم السكون المؤقت كان الإنذار يتربص كل نأمة أو حركة، في أن هناك في الأفق مالا تحمد عقباه . هل هناك حرب أخرى؟ هكذا تسائل الشعب لقد أنتهت الحرب ووضعت أوزارها، وكانت بمثابة القدر الرحيم التي جادت به السماء على العراقيين ؟

وحين خرجت الناس بعد أن طفأت جهنمها في مساء الثامن من آب عام(1988 )، دون وعي يذكر، إفترشت الساحات والباحات وأختنقت الشوارع بأزدحام قل نظيره, وأغتسلت الناس وهي تمرق بين الأزقة والمداخل والفضاءات . يا لروعة الحركة حين تمور تلك المارة وسط هيجان وصراخ وتعابير لم يحكمها الأحتفال بشعار حكومي ولا تمجيد لقائد منتصر . الماء نافورات وقناني يقذفها رجال وفتية وصبية دون تركيز ولا أهتمام على من قذفت عليه وأبتلً، بعد أن أغتسلوا من دماء معركة أدمت العقول والأجساد، بل أن من يقذف عليه الماء جذلاً فرحاً وكأنما بعطر الجنة قد أغتسل . حركات في الهواء ومفردات تنتزع من اللاوعي، رقص وإن عبًر عن فرح آسر، لكنه لا ينم عن دقة في الأداء . إهتزت الأبدان دون موسيقى، وتمايلت دون دفوف، كل وبعض على حده .

كان للرقص طرقاً لم تكتشف من قبل، رقص فوضوي إعصاري إنتزع الألم من الفؤاد وتسربلت الأنًات والأوجاع والذاكرة الملغومة بالألم، إنه فرح لم يحصل . السيارات تتقابل تتعانق تتهشم تسفر عن جرحى ودماء، ولم ينم عن ذلك أي نوع من الأسى والتأسف، إلا لذوي الحالة ذاتها . هكذا دعتهم أخيلتهم الجامحة أن ينسجوا عوالم من الفرح والفوضى دون حدود . لقد إنتهت النائرة وحلّت المشكلة، ولابد من رجاء في يوم جديد، حيث ستنفض الناس تراب الحرب دون التميز والتذكير لمن هو غالب ومن هو مغلوب، في قناعتهم حروب مثل هذه ليس فيها منتصر إطلاقاً . مطحنة شعوب، ليس فيهم قاهر ومقهور، الكل تحت خيمة الأسى والفقدان.

الميدان اليوم هو إنطلاق الحياة نحو السلامة والأمان، ولكن في ذلك اليوم أضطرم المهرجان حين إنقلب حابلها بنابلها، إذ حمت الكأس برؤوس أزلام السلطة، فحملوا رشاشاتهم الأوتوماتيكية ليشعلوا السماء ناراً بمذنبات حمراء وصفراء وعيدان الصواريخ المنفلقة والرمي العشوائي . وكانت تلكم وهذه بمثابة الحمم وهي تسقط على الرؤوس والأجساد . لازال الفرح يداعب الناس بشفافية ورقة، ولكن ككل مرة لابدّ لهم من أن يغتالوا فرحة الشعب . إنطلق أزلام السلطة من الجانب المظلم لطبيعة البشر، فنفذوا إلى الشوارع كوطاويط الليل الذي يغشى بصره وتعميه الأنوار الباهرة ويحزنه الفرح التلقائي .

أولئك هم هم في هوى ذليل متشنج موسوم بالتظاهر، وكأنها ديدن كل موهوم بالسلطة مفتون بالعضلات . إنهم محبوسون في جسد وعظام وشهوة منحرفة، أولئك مع صاحبهم من ظلام وليس من نور. هم الجانب المظلم من الطبيعة البشرية . حيث إنقادت الناس الى أفعال اولئك الهمج . الألوف من الصبية، تحتفل مقلدة سلوك اللعب بالنار، وسقطت الاطلاقات وكأنها تهرب نحو الأجساد . كانت الخمرة تعاكس الأتجاهات، وتعدم الأبعاد لتكن طائشة الاطلاقة ليست في المهوى بل في الطريق إلى الأجساد(وعادت حليمة لعادتها القديمة ) إمتلأت المستشفيات مرة أخرى وتناثرت وحدة الفرح بين الناس، وأضحت تلك الصرخات العفوية وهي مشبعة بالفرح والحبور، وإذا بها أنًة خافتة وشخرت جرح وأبدان نازفة، وحلوق جافة، وهي تنبأ بقدر ليس رحيم .

تساءلت الناس أي قدر يحكم فينا ؟ وما هي إلا سويعات فقط اذ تملًك الفرح الناس في اغتنام فرصته السانحة للتعبير عنه، حين نأى ثمانية أعوام بحالها عنهم . وجوم حلً في أسرُة المستشفيات، مئات الموتى والجرحى، وهنا أستوقف الجميع التساؤل:

أينبأ ذلك عن حدث عظيم قادم ؟ أي بشارة تحمل مئات الأبدان المهشمة، أليس هي نبؤة عن كارثة ؟ وإلا لم حملت بشارتنا النذور بالمئات من الموتى ؟ هل أعيادنا هذه إضحيات كمقدمة تقرأ المستقبل القريب، وهل تحمل لنا أنباءاً عن إبادة جماعية قادمه ؟

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here