كيف كنّا نستقبلُ شهرَ محرَّم الحرام في منطقة الكريعات / الجزء الأول
—————————————————‐—————
كانت لمحرَّمِ الحرام عاداتٌ وطقوسٌ درجت عليها شرائح واسعةٌ جدّاً من مجتمعِنا العراقي ومنها أهالي الكريعات منذ مئاتِ السنين، قبل أنْ يقدم النظام الطائفي الديكتاتوريّ المقبور على منعِها إيغالاً منه في حجب حرّيّة إقامةِ الشعائر الدينيّة، ولكوني من مواليد أواسط ألخمسينات وعشتُ وترعرعتُ في منطقة (الكريعات) فقد كنتُ شاهداً على تلك العادات والطقوس المهيبة التي تعارفَ عليها الناسُ إحياءً للذكرى الأليمة المتمثِّلة بمقتل سيِّدِ الشهداء أبي عبدِ اللهِ الحُسَين (ع) أو من خلال ماسمعته من أهلنا الطيبين عن شعائر محرم الحرام ، الكريعات تلك المنطقة التي اشتهرَ أهاليها بمحبّةِ آلِ البيت الأطهار عليهم السلام وموالاتِهِم، والتي دفعتْ ثمناً باهضاً جرّاءَ ذلك الحبَ الذي توارثوهُ أباً عن جدّ فزرعهُ في قلوبِنا آباؤنا النجباء وأمّهاتُنا الطاهرات والذي لازال وسيبقى حتى نلقى الحسين (ع) شفيعا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
كانت الكريعات مقتصِرَةً على جامع الدهاليك وحسينية الجوادين فقط، قبل أن يتمّ بناء حسينية الزهراء في زوية الكريعات في عام 1966 وحسينيّة الحاج علي آل باش وتوالى بناء المركز والحسينيات تباعاً حتى أصبح لكل مقلد وحزب جامع وحسينية ، في تلك الفترة حيث لم يتجاوز عمري وقتها ثمان سنوات، وكنتُ أتلو آياتِ القرآنِ الكريم، حيثُ كانت تلاوتي مصدرَ إطراءٍ من قبل السامعين من حولي، مصاحِباً ذلك مع أخي المرحوم وعد الله الذي كان يتفوّق علينا جميعاً في الترتيل بالأطوار المصريّة، وذلك في دار المرحوم والدي الذي كان ينصّب ويُقيم فيه عزاءَ الحسين لمدة ثلاثة عشر يوماً ، وكان (المُلّا حسن عزيز) ابن عمة والدي هو من يقرأ التعزية، وكنا نربط مكبِّرةَ الصوت في أعلى نخلةٍ في بيت والدي الذي كان يحوي ألعديد من النخيل ، في حينِها، ويتوشّحُ الجميع بالسواد في دارنا ، وكانت النسوةُ يقمن بصباغة ملابسِنا باللون الأسود حيثُ يضعنها في قدرٍ كبير يغلي فيه الماءُ الأسود ويقلِّبنَ الملابسَ فيه بواسطة عصى غليظة مقتطَعَة من جِريدِ السعف، ونبقى مواظبين على ارتداءِ الملابسِ السود حتى انقضاء شهر صفر ، كما كانت تعقد مجالس العزاء في بيت الحاج حمود والد الحاج قاسم( أبو بدر ) وفي بيت الشيخ الحاج ( سعيّد ) وفي بيت ( الحاج سلمان عنيبه ) وفي بيت ( عبيس ) في الزويه ، بعدها تشكل موكب الزويه في مقهى المرحوم ( عباس مهدي الدروش ) ثم أنتقل الى مقهى ( بيت عبد المطلب ) وكنا في مثل هذه الأيام ننتهي من رفع الأعلام الحسينية وصور عن واقعة الطف الاليمه ونضعها على واجهة بناية مقهى بيت المرحوم عبد المطلب ، وكان من قراء اللطميات في ذلك الوقت المرحوم كاظم جليل والمرحوم كاظم عباس ( عزيزه ) والمرحوم الملا مسلم وحسن جليل والمرحوم جواد كاظم ( عدس ) ،
ومن المظاهر التي رأيتُها والتي تدلُّ على حُبِّ الناس للحسين (ع) في الكريعات، مشهد ذلك الرجل المُسِنّ الغريب عن المنطقة، وقد جاء إليها من ديالى تقودُهُ زوجته المُسِنّة حيثُ كان كفيفَ البصر، فقد كان يقرأ التعازي المتعلِّقة بمصيبة الحسين (ع) بطريقته الخاصة التي تستدرُّ دموعَ كلِّ من يسمعُهُ، حيث تقوده زوجته ويسيران في كلّ الطرقات كما يجوبان الأزِقّةَ في الكريعات وهو ينعى الحسين، ونحن الأطفال في حينِها نسير خلفه بكلِّ أدبٍ وخشوع، حيث كان في اليوم الأوّل من عاشوراء الحسين يقوم (الملّا عبود) وزوجته (تفاحة) بذلك وهو ينادي بأعلى صوته ياشيعة محمد أما سمعتم إمامَكم الصادق يقول ( إحيوا أمرَنا رحمَ اللهُ من أحيا أمرَنا ) وهو يُعلن للناس أنَّ مجلساً للحسين سيقام في بيت فلان وبيت فلان في الساعة الفلانيّة معدِّداً الأماكن والمواعيد، فكنّا نصِفُ (الملّا عبود) بالإذاعة المتنقلة.
كما كانت الناس في بلدتي تحجم عن تكريز وتناول (الحَب) وجميع المكرزات، وكان الجميع يحجمون عن مضغ (العلكة) ولايقومون بصبغ شعرهم أو حلاقة رؤوسهم ولاتضع النساء موادَّ الزينة في وجوههنّ أو التخشُّل بالذهب حتّى انقضاء محرّم وصفر سويّةً، كما أنّ الجميع لا يشترون الملابسَ الجديدةَ أو ارتِدائها، ولاتضع النساءُ الحنّاءَ على رؤؤسِهنّ أو أياديهنّ أو أرجلِهنّ، كما كانت تُقام المآتم الحسينيّة في البيوت من قبلِ النساء ويُطلَقُ عليها (القراية) حيث تنعى (الملّاية) والنساء تلطمنَ وينحبن، وكان ذلك يسبق إقامة العزاء للرجال إذ يجري عزاءُ النسوةِ عصراً فيما يُقام مجلس عزاءِ الرجال بعد صلاةِ المغرب والعشاء ، ومن ( المليات ) المشهورات في ذلك الزمان ( المُله خيريه السواري ) وهي الرائدة في المنطقه والمله المرحومه ( رشوده ) والمله المرحومه ( طلبه ) والمله المرحومه ( رحمه ) والمله المرحومه ( خجه ) والمله ( نجيه عبيس ) أطال الله في عمرها ، والمله ( رماز مهدي حمد ) أطال الله في عمرها ، وفي داخلِ البيوت لا يفتح التلفزيون أوالراديو إلا في وقت قراءة القرآن الكريم فقط، حيث لا يجوز سماع الأغاني أو أيّ مظهر من مظاهر الطرب التي كانت تضجُّ بها إذاعة وتلفزيون الطائفيين في ذلك الزمان دون مراعاة لمشاعر اتباع أهل البيت ، وكنّا نتوسّل بوالدنا يوم الثلاثاء أن يسمحَ لنا بمشاهدةِ برنامج (الرياضة في أسبوع) ولكنه كان لايصغي لطلبِنا ويصرّ على منعِنا من ذلك بكلِّ أدبٍ واحترام، قائلاً لنا كيف سنواجه نبيَّنا الكريم إذا ضحكنا وفرحنا في هذه الايام؟ وهي أيّام مصيبةِ سِبطِهِ التي لاتدانيها أيّة مصيبة مهما عظمتْ، فكنّا نتقبّل نصيحتَه بكلِّ رِضا، رغم أنّا كنّا من عشّاقِ الرياضة وخاصة إذا كانت هناك مباراة لكرة القدم يكون أحدَ طرفيها الفريقُ العراقي، كان الناس على سجِيّتِهِم وفطرتهم لايضحكون في الشوارع ولايشهرون مظاهرَ الفرح، فالجميع يبدو عليهم الحزن خشيةً من الله سبحانه وتأسِّياً لرسوله وأهلِ بيتهِ باستشهاد الحسين.
ومن المشاهد التي لاتُنسى، كان الناس في بلدتي (الكريعات) وجلُّهم يعملون في الزراعة وتربية المواشي، حيث كانت هناك على مسافةٍ من دارنا حضيرةٌ كبيرة تسمّى بيت الماشية تضمُّ الأعدادَ الكبيرةَ من الأغنام والماعز والغزلان والدجاج، وكان والدي رحمهُ الله قد نذرَ كلَّ مولودٍ ذكر من المواشي لإطعام حاضري مجالس ومواكب الحسين (ع) وكان يصل عددُ الخِراف الذكور في بعض السنين إلى أرقامٍ كبيرة، وكلها تُذبح وتوزَّع لوجه الله على حُبِّ الحسين ، وكذلك يفعل العديد من بيوتات الكريعات في عاشوراء ، ومن الأمور التي تلفتُ النظر أنّ الكثيرين كانوا (يوقفون) بساتين واسعة لوجه الله وعلى حُب الحسين أيضاً، وأتذكّر أنّ من البيوت التي كانت (توقف) بساتينها بيت والدي المرحوم الشيخ شلال محمد الجبوري وبيت الشيخ محمد علي ابو نايله ، وبيت الشيخ حسين ( عراو ) الجبوري، وبيت (أبو صبّار) عبد الحسين عباس، وبيت (أبو شهيب)، ومازالت هذه البساتين موقوفة وقفاً صحيحاً لوجه الله على حُبِّ الحسين (ع) بحيث يوزَّع كلّ مايخرج من غلّتِها على حبِّ الإمامِ الشهيد ….. يتبع الجزء الثاني ……
جبر شلال الجبوري
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط