لماذا نحب ؟

لماذا نحب ؟ * د. رضا العطار

كلمة ( الحب ) من الكلمات التي تتعدد معانيها وتختلف، وهذا التعدد يتضح عندما يقول احدنا : انا احب البرتقال، او انا احب زوجتي، او انا احب النظام، او انا احب الله.

فإننا هنا ازاء طائفة من المعاني المختلفة التي كان يجب ان يكون لكل منها كلمة خاصة تبعث احساسا خاصا.

ونحن نقتصر هنا على معنيين : هما الحب الجنسي والحب البشري.

فأن كثيرين من المفكرين يرجعون حب البشر : كالاخاء والصداقة والتعاون، الى الحب الجنسي. كأن هذا هو الجذر الذي اليه ترجع عواطفنا البشرية السخية. ولكن الحقيقة ان كلا منهما يرجع الى اصل منفصل من الآخر. فغاية الحب الجنسي هي التناسل، وغاية الحب البشري هي تكبير الشخصية والتعاون الاجتماعي والرقي العائلي والنمو الذهني.

وليس هذا الذي نسميه ( حبا جنسيا ) ضروريا للتناسل. فإن السمك مثلا يتناسل دون ان يعرف الحب. لأن الذكر يلقي بخلاياه المنوية في الماء وكذلك الأنثى تلقي بويضاتها في الماء مثله، ثم يتم التلاقح دون ان يعرف الذكر الأنثى.

وعندما نتأمل الحيوان وقت التلاقح نجد ان العاطفة الغالبة والتي تتضح في سلوكه هي عاطفة الافتراس والاكل والالتهام. فان الذكر يفترس الانثى وليس بين الاثنين حنان. واحيانا ينقلب التلاقح الى شجار وقسوة وافتراس. واذا كان الحب الجنسي بين البشر قد خالطته رقة وحنان، فإن مرجع ذلك الى الثقافة الاجتماعية التي ارتقت بها عواطفنا.

اما الحب البشري فمرجعه ينبوع آخر، هو حب الأم لأولادها وحب هؤلاء لها. وهذه العاطفة بعيدة جدا عن الحب الجنسي. اذ هي تنضح حبا وحنانا ورقة، وهي تحمل الأم والأبناء على ان يترافقوا ويتعايشوا ويتعاونوا.

والأنسان البدائي كان دائم الترحال. فكانت الأم مع اولادها ترعاهم وتربيهم. وكان تعلقهم بها يحملهم ايضا على ان يتعلق احدهم بالآخر. فاذا ماتت الأم مثلا بقى الابناء على قواعد رفقتهم السابقة، يترافقون و يتعايشون ويتعاونون. وهذه الأخوة بينهم هي اصل الأخاء، بل اصل المجتمع البشري.

بل نستطيع ان نزيد هذه التميزة بان نقول انه اذا احب الرجل المرأة حبا بشريا عميقا فان هذا الحب قد يعيق الحب الجنسي. كأن هناك تناقضا بين الأثنين : الأول كله حنان ورقة. والثاني اغلبه عنف وقسوة.

وعندما نتأمل الحب الجنسي نجد انه غريزة ذاهلة. ولكن الحب البشري عقل وضمير.

ولذلك نحن نزداد وننمو بالحب البشري الذي نرتقي به ونرتفع. لأن هذا الحب يستنبط هنا احسن الخصال في الحنان والظرف والرقة والكياسة بل احيانا في التضحية. وهذا الحب هو الذي يجعل الانسان انسانيا. وما ندعو اليه من اخاء بشري او ما نقدره من خصال في صديق او ما يتعلق به من آمال نرضي بأن نضحي لتحقيقها، انما كل هذا يعود الى الحب البشري الذي كسبناه من عواطف الأمومة والبنوة.

ذكرت ان الحب البشري عقل وضمير. ولذلك نحن نزداد فهما بالحب، لأنه ينبّه العقل ويوقظه. وهو هنا يناقض الحب الجنسي الذي ننساق فيه بالغريزة. ولذلك ايضا كثيرا ما نجد ان النبوغ او بذرة العبقرية تعود الى عاطفة الحب. لأن الصبي الذي يحب الطبيعة ويجمع الفراشات والزهور و الاصداف واوراق الشجر، هذا الصبي يحدوه حب بشري قد استحال الى حب للطبيعة ينبه ذكاءه ويوسع خياله ويكبر شخصيته. وهو بهذا الاهتمام اقرب ما يكون الى النبوغ او العبقرية. لأن المحب يرى اكثر ويفهم اكثر. كما ترى الأم في ابنها وتفهم اكثر مما يرى غيرها فيه.

والحياة الصحيحة تطالبنا بان نجعل الحب شعارنا، لأنه، اي الحب يملأنا تفائلا، فنبتعد عن الخوف والقلق والشك ونستكثر من الاصدقاء ونلتزم بهم ونخدمهم في سرور

واذا جعلنا الحب اساس علاقتنا بالناس، فاننا سوف لن نسأم الحياة يوما. بل نجد كل ما فيها يدعو الى العطف والرحمة. والحب مثل الشجاعة يحتاج الى تدريب. وصحيح اننا نكسب شيئا من الحب العائلي، لكن هذا الذي نكسبه عفوا في طفولتنا يحتاج الى الرعاية والتنمية. اننا نستطيع ان نتعود الحب بالصداقة والتعاون والضيافة حتى ولو كانت طفولتنا قد اهملت، وغدت فرص تنمية الحب فيها نادرة.

والرجل الذي تنبعث فيه عاطفة الحب نحو المجتمع هو اقرب الناس الى السعادة وهو ابعدهم عن الشقاء. وكلمة السعادة من الكلمات التي يجب الاّ نخلطها باحساس السرور ولكن الحب يبعث السعادة الدائمة اكثر مما يبعثها السرور الزائل.

ومن هنا تأكد الأديان على الحب. اذ لا يمكن ان يتأسس دين على غير مبدأ الحب، لأن الدين ينشد السعادة. والحب بجميع مركباته العقلية والعاطفية ينشد السعادة ايضا. ذلك ان الحب يحتاج الى ثقافة التربية نظريا وممارسة هذه الثقافة عمليا.

فنحن نعرف ان الرجل المثقف يحب، لأنه يعرف اكثر من غيره وقلبه اسمح لأنه اعرف. فأتساع المعرفة تقود الى اتساع الحب، ولهذا السبب ايضا يعد الادب في صميمه والفلسفة في صميمها دعوة الى حب الخير و الاحسان. وعلى قدر ما يستضئ احدنا بمعارفه السابقة، يكون طريق الأخاء والمحبة اكثر انارة

قد يقنع احدنا بالاحسان لمعاونة الفقراء او الصبيان المشردين او الانضواء الى جمعية لمنع القسوة على الحيوان او نحو ذلك. ولكن من يعرف اكثر، هو ذلك الذي يكون انفذ بصيرة في الاسباب التي تحدث للمجتمع البؤس والمرض والجهل والرجعية. المهم اننا نميل الى ممارسة الحب مع بني جنسنا. وهذا الحب يزيد تقديرنا واحترامنا لهم الى جانب فهمنا للحياة.

ومن هنا يجب علينا ان نتآخئ و نتحابب فيما بيننا كي نصل ببلدنا لى شاطئ السلام، لا ان نتخاصم ونتحارب، فالتخاصم والتحارب من شأنهما ان تجرنا الى الهاوية، ونستقر في قعرها، فعلينا اذن ان نمارس عواطف الحب لا مع افراد اسرتنا او مجتمعنا، او وطننا فحسب، بل انما مع ابناء البشرية جمعاء. فالحب الطاهر الذي يخلو من مصلحة ذاتية، هو صفة انسانية سامية تميز الانسان عن بقية الكائنات في الوجود.

* مقتبس من كتاب فن الحب والحياة لمؤلفه الموسوعي سلامة موسى، مع تعليق لكاتب لسطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here