صلاة أبو غالية!

صلاة أبو غالية!
علاء كرم الله

عندما كنا في الجبهة أثناء الحرب العراقية الأيرانية (1980 – 1988) كان معنا في قلم الفوج يعني ( الشؤون الأدارية) ، عريف طابعي مطوع بالجيش لا أتذكر أسمه بالضبط ولكنه كان يكنى بأسم أبنته ( أبو غالية) ، ذو شخصية مرحة ومحبوبة من قبل الجميع ، وكان كما يقال في لهجتنا الدارجة من النوع ( الشقندحي) ، حيث كان يشيع بيننا حالة من الأنس والفرح والضحك من خلال تعليقاته على أي شيء وفي كل شيء ، تنسينا غربة الأهل والخوف في الجبهة ، وكان لا يتوقف في تعليقاته حتى في أصعب المواقف والظروف وشدة القصف ، ولم ينقطع ( أبو غالية) عن أشاعة النكته والتعليق حتى أيام معارك الفاو الرهيبة! التي أشترك فيها فوجنا ، وكان منتسبي الفوج كلهم يعرفون (أبوغالية) ويحبون سوالفه وشقندحياته وتعليقاته0 بنفس الوقت كان (أبو غالية) ، أداريا كفؤا وطابعيا ممتازا سريعا يطبع الكتب كالبرق وبدون أخطاء! فهو يعرف وحافظ الطابعة وحروفها وما فيها عن ظهر قلب كما يقال0 ولكن مشكلة (أبو غالية) هي كثرة الغياب فهو لا يستطيع أن يبقى أسبوع في الجبهة مهما كانت الظروف! ، حتى أن أمر الفوج عجز من كثرة نصحه فتركه لحاله!0 ومرة أشار عليه أحد الجنود بأن يصلي عسى الله أن يصلح شيئا من عبثيته وفوضويته المعروف بها ، وفي لحظة من صفاء العقل أمتثل (أبو غالية) لنصيحة أخينا الجندي ، وصرنا نرى ونسمع (أبو غالية) وهو يقيم الصلاة بأوقاتها وقلنا جميعا أو هكذا أعتقدنا أن (أبو غالية) ، قد هداه الله عز وعلا وحمدنا الله على ذلك0 وأستمر (أبو غالية) ، على هذا الحال لأكثر من عشرة أيام وهي فترة طويلة بل طويلة جدا بالنسبة (لأبو غالية) حيث لا هو ولا نحن أعتدنا على ذلك! ، ولم يفكر بالنزول وأنتظر أجازته الدورية كبقية الجنود! 0 ولكن صادف أن توقفت الأجازات بسبب هجوم على أحد الألوية في القاطع الأوسط الذي كان فوجنا فيه ، هنا (أبو غالية) ، فقد صبره ! فأستأذن من نائب الضابط مسؤول القلم بأدب جم لم نألفه منه من قبل! ، بالنزول ليوم واحد فقط لا سيما وأنه كان من سكنة أحد أقضية محافظة ( ديالى)، فأذن له مسؤول القلم بالنزول0 ونزل (أبو غالية) والروحة روحة ولا خط ولا خبر! كما يقال ، وبعد أكثر من أسبوع جييء به مخفورا من قبل أنضباط الفرقة ، لأنه كان دائم النزول بلا أجازة ولا نموذج عدم تعرض! ، وبعد التوسل والترجي من أمر الفوج ولحاجة القلم لخدماته عفى عنه أمر الفوج ولم يعاقبه ولم يودعه السجن كما أعتبر غيابه أجازة أعتيادية وأنتهى الموضوع 0 وما أن حان موعد صلاة الظهر لم نر(أبو غالية) يهيأ نفسه للصلاة ويقوم بالوضوء فقلنا له ( ها أبو غالية خير مناوي تصلي، فقال لنا : دطيروا يمعودين كبل من جنت ما أصلي جنت أقوى سيطرة أعبر منها مثل الورد ، شو من كمت أصلي رأسا لزمتني السيطرة؟؟!) 0 (أبو غالية) ، حسب فهمه وأدراكه البسيط كان يتصور أنه أذا صلى فأن الصلاة سوف تساعده على عبور السيطرات ونقاط التفتيش! حتى وأن كان لا يحمل نموذج أجازة ، فهو فهم أو هكذا تصور بأن الصلاة ستفتح له كل الأبواب وتعمي عنه أبصار السيطرات! ، وواضح أن علاقته بالصلاة هي علاقة منفعة ومصلحة ذاتية! بعيدا عن أي فهم للدين وللصلاة وما الى ذلك 0 ذكرتني قصة (أبو غالية) وصلاته بما نراه اليوم من كثرة المصليين ، ولكن بقلة أيمان أو حتى بلا أيمان أصلا! ، فقسم منهم يؤديها من باب أسقاط الفرض والواجب ، يعني صلاة (حبج لبج)! كما يقال في لهجتنا الدارجة ، بلا أي تركيز وأي فهم لما يقول!، وقسم منهم يصليها من باب الخوف! ، والعقاب الذي ينتظره بالآخرة! وهي ما تسمى بصلاة العبيد ، وقسم أخر يصليها بما تسمى صلاة التجار! ، الغاية منها الربح وأن يفتح عليه الله أبواب الرزق والكسب الكثير! وهكذا بالنسبة للغالبية العظمى ممن يصلون فهم لا يخرجون عن هذه التوصيفات التي ذكرناها! ، وقلة قليلة جدا من يفهم الصلاة ويراها بنقائها وطهرها بأنها ليست واجبة فحسب ، ولكنها يجب أن تكون صلاة المحبة الى الله وطلب رضاه ومرضاته والتقرب أليه 0 وكم من مرة صادف وسألت الكثير ممن يصلون وطلبت منهم الأجابة بصدق! ، هل تركزون في الصلاة أم تأخذكم أمور الدنيا وصخبها الى السهو والنسيان وحتى الخطأ أثناء قراءة الآيات ، فكان جوابهم بأنهم يسهون وينسون حتى أنهم يخطئون في قراءة آيات القرآن في بعض الأحيان بسبب شرود الذهن ومشاغل الحياة!0 ولا أريد أن أقول لا يوجد من يصلي صلاة (الأحرار!) فسأقول أن قلة قليلة جدا جدا من المصلين يصلون صلاة (الأحرار) ، والتي لا يطلب منها المصلي أي شيء سوى أبتغاء مرضاة الله عز وعلا فقط!0 وهنا أتذكر قول للأمام علي عليه السلام وهو يناجي الله عز وعلا ويقول : (ألهي ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنتك ، ولكني وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ) ، وتلك هي صلاة (الأحرار) ، وهذه الصلاة كما أفهمها فيها معنى كبير ورائع فهي تعني (أذا لم يخلق الله عز وعلا الجنة والنار فهل كنا سنترك عبادته؟؟) 0 في الظروف الحالية التي يمر بها العراق والمتمثلة بصعود الأسلام السياسي ركب الكثرة الكثيرة من المنافقين والمتزلفين والفاسدين موجة الدين وأصبحوا بين ليلة وضحاها يصلون ويؤدون الفرائض الدينية برياء واضح ومكشوف فبقدر ان صلاتهم لا تحمل ولو ذرة من الأيمان ، فأنهم بنفس الوقت لا يخافون الله بريائهم وكذبهم في ذلك!! ، فهم يصلون للتباهي والنفاق والرياء أمام الناس وحسب ما تمليه مصالحهم الشخصية وما تمليه ظروف المجتمع المسيس دينيا! 0 ومرة صادف وشاهدت رجلا وسط الجزرة الوسطية بين منطقة الحارثية ومبنى دائرة المخابرات سابقا ، في عز الظهيرة وفي شهر تموز وفي شدة الحر وذروته وزحام المرور، وهورنات السيارات ، وصياح السواقين ، وهو يصلي!! ، كم كان منظره بائسا ومثير للسخرية والضحك وتعليق الناس وكل من شاهدته ، لأنه كان يصلي برياء واضح ومكشوف! ، وأمثال هذا بالمئات بل بالألوف وحتى بالملايين في زمننا هذا!! ، وهؤلاء هم من أفسدوا الدين وشوهوا صورته 0 وفي سياق كلامنا عن الصلاة وعن المنافقين والكذابين الذين يتباهون رياء وكذبا بالصلاة أمام الناس وجدت من المناسب أن أذكر ما قاله ( جاسم العزاوي) سكرتير الزعيم الراحل ( عبد الكريم قاسم أول رئيس لجمهورية العراق) ، حيث سأل مرة : هل كان الزعيم يصلي وكيف كان يصلي ؟؟ ، فأجاب قائلا : (لا أدري! لأني لم أشاهده يصلي أمامي ، ولكن كنت آلاحظ بأنه عندما كان يحين وقت الصلاة ويصادف وجوده في وزارة الدفاع ، لأن الزعيم كما تعرفون كان كثير التجوال وتفقد أحوال الناس ليلا نهارا ، وكان قليل النوم حيث لا تتعدى ساعات نومه 3 ساعات فقط! ، أن الزعيم كان يدخل غرفة صغيرة في مكتبه ويقفل على نفسه الباب!! ، ثم يخرج بعد برهة من الوقت ، فأعتقد جازما بأنه كان يصلي ولكنه كان يحرص أن لا يراه أحد يصلي وكيف كان يصلي؟؟) 0 الى هنا أنتهى ما قاله (جاسم العزاوي) عن الزعيم عبد الكريم قاسم رحمهما الله 0 وللتذكير هنا بأن الزعيم عبد الكريم قاسم عندما أعدم بعد أنقلاب 8 / شباط/ 1963 (المصادف 14/ رمضان) ، المدعوم من الأمريكان والأنكليز! ، كان صائما لحظة أعدامه وطلب شربة ماء قبل تنفيذ الأعدام به!!0 أخيرا نقول: تبقى الصلاة علاقة روحانية بين الخالق والمخلوق وعلى المصلي أن ينقطع فيها عن كل أجواء الدنيا وصخبها ومتعلقاتها وكل ما فيها من مشاغل ، لبضعة من الوقت قدر أستطاعته!! نعم أؤكد على ذلك قدر المستطاع ، لا يشغله أي شيء سوى ذكر الله ومناجاته ولا يطلب فيها ألا مرضاته ، وكم تكون عظيمة عندما يتورى فيها المصلي عن الناس ويكون في خلوة بينه وبين الله عز وعلا 0وأخيرا نسأل هنا : في زمننا هذا وبكل صوره ومشاهده المتناقضة ، في زمن الجوع والفقر والحاجة والفساد ، في زمن الموت وتدمير الأنسان في هذا الزمن العصيب الذي نعيشه وتحديدا من بعد الأحتلال الأمريكي الظالم للعراق وما جلبه من مصائب وويلات علينا ، كم من المصلين يصلون صلاة (أبوغالية) موضوع مقالنا؟ ، وكم منهم يصليها من باب أسقاط الفرض؟ ، أو الخوف أو كسبا للرزق؟ ، وكم منهم يصلي صلاة (الأحرار) أبتغاء مرضاة الله فقط لا غير ، التي كان يصليها الأنبياء والخلفاء الراشدين والرجال الصالحين والأئمة الأطهار عليهم جميعا أفضل السلام؟؟0

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here