عظمة تولستوي تتجلًى في نزعته الأنسانية !

عظمة تولستوي تتجلًى في نزعته الأنسانية ! (*) د. رضا العطار

ولد عام 1828 ومات في 1910. ومن هذين التاريخين نرى انه عاصر القرن التاسع عشر كله تقريبا ولكنه لم يكد يعيش في القرن العشرين، فقد مات قبل الحرب العالمية الاولى باربع سنوات. فلم يتح لنا فرصة سماع صوته عن هذه المجزرة البشرية.

ولكنه في القرن التاسع عشر راى كثيرا واختبر كثيرا. فقد اشترك في حرب القرم في 1854 وراى بعد ذلك حرب السبعين بين فرنسا والمانيا ورأى احد القياصرة يقتل، وراى تحرير العبيد في 1861 واصطدم بالكنيسة وطُرد منها. واصطدم بعائلته حين اراد تسليم اراضيه الواسعة الموروثة للفلاحين.

وكان طيلة حياته في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ضمير اوربا، يرتأي ويعظ الموعظة ولكنه قلما كان يزيد على ذلك.

كان ضمير اوربا كما كان غاندي ضمير الهند، وكلاهما تولستوي وغاندي صورتان لشخص واحد، هما صورة الاستاذ وتلميذه ولكن هذا التلميذ غاندي جعل اراء تولستوي اعمالا منفذة.

في هذه الحياة التي عاشها تولستوي راى اهوالا من الشقاء البشري بفعل الحروب . ولو عاش وسمع اخبار الحرب الذرية لطالب بارسال جميع المسؤولين الى المصحات العقلية

فالحرب عنده بؤرة لمشكلات عديدة اضطر تولستوي الى ان يشتبك فيها. فأشتبك في معنى الدين ودلالة الفن وهدف الثقافة واسلوب العيش وعادات الحب والزواج وحاول ان يحس وفق ما يقول ويؤمن فكتب القصص حتى توجها بقصة الحرب والسلم. ونجح قليلا وفشل كثيرا. نجح من حيث انه عمم الايمان بان المجتمع يعاني من الاوضاع الفاسدة ما يجب اصلاحه فكانت مؤلفاته ايحاء لثورة اكتوبر الاشتراكية.

وفشل من حيث انه كان يعتقد الاعتقاد الديني بان اصلاح الفرد يؤدي الى اصلاح المجتمع ولم يفقه قط الى ان الفرد مسير بعادات المجتمع واساليب عيشه ونظم اخلاقه وانه لن يتغير الا اذا تغير المجتمع او هيأ له اسباب التغيير. انه كان مثاليا ولم يكن ماديا.

نجد في حياة تولستوي ظروفا وحوادث رسمت له خطوط حياته. فقد جعلته فظائع الحرب كاتبا يكتب عن قهر والزام لانه لا يطيق الصمت وهذه الحالة اعظم ما يهيئ التفوق والنبوغ في الكاتب ثم راى هول النظام الاجتماعي في روسيا القيصرية والرق الزراعي الذي كان يقضي بخضوع الفلاحين لصاحب الارض لا يتركونها الى غيرها اذ هم عبيد تملكهم الارض ولا يملكونها. وقد الغى الرق في 1861 ولكن تولستوي حرر عبيده تطوعا قبل ان يسن هذا القانون.

رأى تولستوي في حياته صراعا بين المستغربين والمستشرقين. فان دعاة الاصلاح انقسموا فريقين احدهما يقول بالتزام روسيا لمبادئها الشرقية والاخر يقول باخذها بالاساليب الغربية . وهذا التردد اوقع الشعب في بلبلة كسب منها الرجعيون اي القيصريون والكنسيون. أليست القيصرية والكنسية مؤسستان شرقيتين وطنيتين يجب المحافظة عليهما ؟ ولذلك كان القول بتحرير العبيد وتعليم المرأة والتفكير الحر في معاني الدين، كل هذا بدع غربية يجب محاربتها.

وكان في الجانب الاخر دعاة الحضارة الغربية العصرية الذين اخذوا بالمذهب الماركسي في الاشتراكية والذين كانوا يطالبون بالغاء القيصرية واحتضان الثقافة العلمية الاوربية. وانتقلت هذه المعركة الى الادب الروسي واحتلت مركز المناقشة فيه ففي ناحية نجد دستوفسكي الكاتب العملاق ينعي على اوربا ماديتها ويدعو روسيا لأستيفاء شرقيتها. بينما نجد تورجنيف يدعو الى الغرب.

الوجود لا يطاق ازاء اناس اشرار يطلبون بقاء القيصرية المستبدة وبقاء الرق الزراعي وبقاء المرأة في البيت وبقاء الاستسلام والخضوع والرضى بالفقر والفاقة. لكن لكل شعب اب روحي ينتمي اليه وفي هذا الانتماء يتولد الشعور بالشجاعة والاصرار والاحساس بالامل، ولا عبرة بان يكون الاديب مصيبا او مخطأ انما العبرة بالايمان، وكان الاب الروحي هذا هو تولستوي. كما كان الاب الروحي لتولستوي جان جاك روسو، كما كان الاب الروحي بعد ذلك لغاندي تولستوي نفسه. وعظماء الادباء في ايامنا هم الانبياء وهم الفلاسفة.

وعندما راى تولستوي غزو النزعات البورجوازية وجشعها اي الاستكثار من الثراء على حساب طبقات الشعب من عمال وفلاحين جائعة يعيشون في غرف نوم ضيقة – حين راى ذلك كله قال ان الحياة في الريف خير من حياة المدن. وقد تعلم صناعة الاحذية كي يحس راحة الضمير وكان يحرث الارض وكان يقول: ان المتمدنين الغربيين يلعبون الالعاب الرياضية لانهم لا يؤدون اعمالا مجهدة ولو انهم كانوا يعيشون مثل الفلاحين على الارض لما احتاجوا الى الرياضة البدنية . واسلوبه لهذا السبب شعبي. هو حديث يكاد يكون عاميا لا نجد فيه تلك العبارات المزروقة. وانه في كل ما يكتب سيكولوجي عميق لا يعلو عليه هنا غير دستوفيسكي الذي عرف سيكولوجية فرويد قبل فرويد .

الحب عند تولستوي هو الحب الافلاطوني اي الحب الشامل للانسان والحيوان والنبات والصدق والشرف والحقيقة والفن والطبيعة ومن هنا لا نستغرب من تولستوي ان يلتفت الى معاني الحب التي دعا اليها الانجيل ولكن التفاته هذا ادى به الى الاصطدام بالكنيسة.

والواقع الذي يثبته تاريخ اوربا انه كلما اقتربنا من الانجيل وحاولنا فهم تعاليمه كأي كتاب آخر، كلما ابتعدنا عن الكنيسة ورجالها.

فان مارتن لوثر، المصلح البروتستانتي حين شرع يدرس الانجيل مباشرة طردته الكنيسة الكاثوليكية. وكذلك فعلت مع رينان وكذلك فعلت مع الكنيسة الارثودكسية مع تولستوي.

كل ما ذكرت عن تولستوي وعن سيرة حياته وتعاليمه التي ما هي الا نقاط وضاءة ومنيرة ، نهفو اليها كما نهفو الى النسيم المنعش، نبتهج بعطره الفواح.

* مقتبس من كتاب (هؤلاء علموني) للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here