احتفال كرنفالي بيوم رحيل شهيد : قصة قصيرة

احتفال كرنفالي بيوم رحيل شهيد : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

كنتُ سائرا في دربي هوينا على هواي بخطو هادئ ، كمن ليس لديه ما يستعجل من أجله .. فقط سير متواصل دون وجهة أو هدف محدد ، ربما حتى نهاية العالم .. فعلا فلم أكن مستعجلا من أمري.. لعلمي أن متعتي تكمن في طول وقت السفر وليست في المحطة المجهولة أو النهائية .. إذن فلِمَ الاستعجال والسرعة ؟ .. سألتُ نفسي ، إنما وفقط مزيدا من أسفار تلو أسفار لآخر بقعة بلا نهاية محددة .. و هذاما كنتُ أفعله حقا .. ولكن لو سألني أحدهم : إلى أين تذهب تحديدا ؟ .. لأجبتُ فورا : في الحقيقة لا أعلم ! .. و في أحيان أخرى كنتُ اعتبر نفسي عابر سبيل غريبا كيتيم البشرية الأوحد في في وسط مجاهل وجود قاحل كقفار الربع الخالي ، أمضي متنكبّا ظلي كذراع حبيبة حنونة .. ففي النهاية ليس من مرافق وصاحب لي غير صمتي وهذا الأفق الرحب و المديد وهو يمتد أمامي ملوّحا بانحناءة لطيفة ، حتى يكاد أن يمس جبيني مداعبا بمشاغبة طريفة كمرشد سياحي ظريف ، كأنما ليرشدني ويحرسني من مغبة تيه محتمل ربما سيغوي خطواتي نحو مخاطر متربصة .. كان علي أن أعبر وديانا عميقة تقاطعت مع دربي ، وهي تغفو على وسادة صمتها بسكون مثير بهواجس غامضة .. وأن اجتاز غابات مطرية كبيرة لا زالت تحتفظ بحضورها العذري و النقي وهيبتها الخرافية الآمرة احتراما ! ، حتى توجست أنها ربما لازالت تحتضن من طول عمرها وقدمها الغابرين ديناصورات وطيور نابضة بحياة حافلة ، وهي تحلق مجنّحة بحجم أفيال فوق رأسي ، ففكرتُ أنه كم سيكون جميلا و ظريفا لو حلّقت هذه الأفيال المجنحة فوق رأسي وهي تراني بحجم نملة دون أن تبالي بوجودي العجيب هنالك !.. حينذاك بات حب استطلاعي وفضولي قويا ، ملحّاحا ، في أن ألج هذه الغابات الأسطورية بمناخاتها الساحرة .. وفيما أنا كذلك وإذا بجبيني أوشك فجأة أن يصتطدم بظل جبل ذات قمة شاهقة تلامس سمت السماء ، كانت تتخذها مجموعة غيوم كسولة قيلولة لها ، كأنما انتظارا قلقا لقدوم مواكب إعصار ورعود جامحة وهائجة لتعكر عليها نشوة كسلها المريح .. كان عليّ إما الرجوع على أعقابي قهقرا ــ وهو الأمر الذي لم أكن أريده ولا أحبذه قطعا ، حيث صحت مخاطبا نفسي :لا عودة إلى الوراء ابدا حيث ثمة عقائد تتناسل منها الوحشية والهمجية جيلا بعد جيل ، ــ أو ..أو صعود سفح الجبل الوعر المتعرج المحتشد بكتل صخرية كبيرة ومسننة وحادة كنصل رماح مصوبة بكل حدة واستنفار نحو كل جهات ، بينما الغيوم التي كانت حتى الآن خامدة و كسولة أخذت تعطس بشدة عطسات عاصفة بشلالات من قطرات أمطار غزيرة ودوي رعود وسياط بروق تجلد جسد السماء بشرارات متطايرة و مرتعشة كرقصة أفاع هندية ذات رؤوس منتصبة عالية ، وهي ترشق عينيَّ بسطوع وهجها الشديد ..ولكن كلما تقدمت عابرا سفح ومنحدرات الجبل إلى جهته الثانية ، كانت تتناهى إلى أذني من بعيد ، أصوات موسيقية صدّاحة تُثير المسرّة في القلب ، توحي وكأنها تعبر عن مناسبة سعيدة أو أفراح ريفية : أصوات أبواق وطبول بهيجة ترافقها أنغام غناء خلابة ، مصحوبة برقصات شعبية و صيحات وهتافات أفراح جذلة .. فبدا لي كأنما المسافات بدأت تنكمش وتطوى فجأة بيني وبين تلك البلدة المحتفلة بمناسبة ما ، لتقريب المسافة فيما بيننا بخطوات أسرع .. كانت الغيوم في أثناء ذلك قد كفّت عن إطلاق شذرات عطستها في وجهي .. حتى الشمس نفسها قررت الظهور مجددا وهي تمد برأسها من بين شراذم وباقي غيوم شاحبة بدأت تجفف نفسها على حبال أشعة الشمس الوهّاجة ، وهي تلقي بنظرة مشعة و دافئة على أعشاب وأزهار مبللة ببريق قطرات فضية كبيرة.. وكان يمكنني في هذه الأثناء أن أرى مجموعات من فتيان وفتيات بملابس احتفالية جميلة وفي منتهى أناقة بألوانها الزاهية والمبهجة للعين حقا ، يرقصون على شكل دوائر و حلقات مغلقة هنا وهناك في ساحة البلدة المحتشدة بتجمعات كبيرة صغارا وكبارا ، يبدو أنها كانت ساعية لتنشد التسلية واللهو في يومها السعيد هذا .. وحينما وقفتُ متفرجا أحاطتني إحدى حلقات الرقص و حثوني على الرقص معهم ..فاعتذرتُ قائلا بأنني منهك لحد الإعياء لكوني لتوي عبرتُ سفح جبل عملاقا و وعرا طيلة يوم كامل ،فها هو جبيني لا زال مُترّبا بغبار طريق طويل جدا .. فاستغربوا قائلين كأنما بخيبة أمل :
ــ إذن أنت لم تأتِ لتشاركنا كرنفال احتفالنا وفرحتنا هذه ؟..
ــ مع الأسف لا ! ..إنما منعطفات وتعرجات دربي هي التي قادتني إلى هنا مصادفة كعابر سبيل جوال في قلب العالم ــ أضفت بحب استطلاع ــ لكن ما هي مناسبة هذا الاحتفال الكرنفالي البهيج رجاء ؟..
ردوا بمناسبة مرور ذكرى رحيل مصلحنا و شهيدنا إلى مقره الأبدي ؟..مكررين أنهم يحتفلون بذكرى يوم رحيل رجل صالح ومصلح عظيم ، ضحى من أجلهم حيث كان له دوره الكبير في ازدهار البلدة من كل ناحية وعلى كل صعيد ، و له الشكر كل هذه الرفاهية التي ينعمون بها الآن. سعداء ومرتاحين بفضله هو ..
وأضافوا : إذ أنه لم يكتف بعواهن كلام كثير ولا بمواعظ وحكم فقط ، أنما طبقها عمليا أيضا على ارض الوقت ولم تغريه مغريات سلطة أو مال ..

وعندما وجدوا الاستغراب في نظري أردفوا كأنما لتوضيح أكثر :ـ
ــ لا تستغرب من أمرنا ..فحن لا نبكي لوفاته المبكر واستشهاده من أجلنا إنما نحتفل ونفرح لاعتقاد منا أنه سينعم بحياة خالدة و مريحة وهانئة هناك حيث دار الخلود والسلام والهناءة ، كرجل صالح ومصلح ضحى من أجلنا جميعا راحلا بجيوب فارغة وأدراج بيت خاوية..
وهنا أيد أحد القرويين بحماس ما قيل ، كأنما ليقنعني بصحة موقفهم ذاك :
ــ حقا .. فلماذا البكاء والنحيب وجلد الذات على رجل ضحى من أجلنا فهو عزيز علينا وغالِ جدا.. وقد رحل بإرادة الله داخلا دار السلام الأبدي؟..فهل يوجد ما هو أفضل وأحسن مكانا و إقامة دائمة من تلك الدار السعيدة ؟.. فلماذا البكاء والنحيب والعويل عليه وتعذيب الذات هوسا ؟.. أليس كلنا نسعى و تتمنى الذهاب إلى هناك حتى لو كنا شبابا يافعين..؟. .إذن فما من معنى نحيب وعويل على رحيله ؟..
و بينما كنت على وشك أن اقتنع بصحة ما يقوله هؤلاء القوم ، وإذا بإحدى حلقات الرقص تحيطني بلطف و شغف ، وسط ضحكات مكركرات لصبايا مبتهجات ، يقمن بجذبي إلى وسطهّن لأرقص معهم ، رغما على تعبي المنهك و الذي ـــ لدهشتي ــ أخذ يزول شيئا فشيئا ليتحول إلى راحة وغبطة ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here