قصة قصيرة :مطرقة من حديد

مطرقة من حديد

رقية محمد علي

بدأت الشمس تظفر جدائلها الذهبية متأهبة للرحيل ، تاركة للمساء مغازلة غبش الليل ليدثر ما تبقى بسواده الأفق .

الأمواج تتلاطم و تراقص بياضها على صدر البحر المترامي قبالته.

جالس هو على أريكتهِ البالية التي اعتاد جلوسها عشاق الهوى فأبلوها بشكواهم، ينظر للأمواج متسائلا تُرى لماذا تتلاطم مزمجرة و غاضبة ؟ ألأنها تعبر عن رفضها لما أبثه لها من لواعج القلب ، أم تساندني في رؤياي؟

بينما هو كذلك جالت بخلده صورتها وهى تضحك كاشفة عن حبات اللؤلؤ المصطفة بانتظام تزينها شفتيها القرمزيتين ونظرتها الساحرة تضج بريقًا وحنانًا في آن واحد، راحت تداعب مياه البحر بقدميها فتتراجع الأمواج، ثم تأتي على حين غرة وترتفع و كأنها تراقصها على أنغام سمفونية من حلم ، تبتل أطراف ملابسها وهى في نشوة الغِبطةٍ والسرور .

تعدو نحوه ، تشده من يديه ، تجره ضاحكة ، ترشه ، يتساقط الرذاذ عليه تتبلل ثيابه . يقترب منها ممسكا يديها كي تكف عن مداعبته ، ويحدق كل منهما في الآخر بنظراتٍ يملؤها العشق والهوى. هبت نسمة باردة ، ارتعش ، استفاق من شروده لماذا هو الآن يفكر فيها ؟

كان الليل قد أرخى سدوله و البدر في عليائه ينثر ضوءا فضيا ينعكس على جبين البحر المكلل ببياض الموج يزيد المنظر بهاء و سحرا و ألقا .

هذه اللوحة الربانية التي جذبت عينيه بجماليتها لكنها لم تجذب لبه؛ شاردا مرة أخرى كأنه في صلاة . أين وعودها التي ألبستني إياها ؟ ألم أكن أنا الهواء الذي تتنفسه؟ كيف هان عليها ودي الذي نثرته كرماد على عتبة أعراف بالية؟

لماذا لم تنطق ببنت شفة و تعلن رفضها المطلق يوم ذهبت لخطبتها من أبيها؟ كانت وراء الباب تسترق السمع و والدها يرغد و يزبد معنفا إياي صارخا :

– هل تتحدى الأعراف والتقاليد ؟ ألا تعرف أن ابن العم أحق ببنت عمه من ابن الخالة ؟ ألم تدرك ذلك ؟ و أنا أتصبب عرقا و خجلا وخلف الباب ماتزال هى تسمع ، لكنها لم تظهر امتعاضا أو ردة فعل أستشف منه تضامهنا معي . غادرت و أنا أجر ورائي أذيال الخيبة .

كنت أنتظر منها أن تفاجئني بالخبر اليقين، أن تفصح عن مشاعرها نحوي لأهلها ، لكن صمتها وقتها ساد كسكوت أبي الهول المخيف ، كان صمتها كهدوء الريح قبل العاصفة..

و زفت إليه ، قبلت به عريسا دوني ، لم تُمِت نفسها كما ظننت ، ولم تحاول ..كل شئ كان طبيعيا أنا فقط من كان غير طبيعي و لحد الآن لا أستطيع استيعاب ما يحدث .

جئت إليك يا بحر أناجي أمواجك كما اعتدت ، ليس لأعيد لها ذكرياتي التي طالما سمعتها مني بل جئت سائلا إياها هل أسامحها بعد انفصالها عنه؟ بعثت لي برسائل عدة تبثني فيها لوعة الأشواق ، و تشكو غدر طليقها الذي تجرأ على الدوس على قلبها ، و راح يتأبط حبا نحو أخرى ليتزوجها و تركها هي تلوك خيبتها على مضض .

أيا بحر ! مازلت أعيش على ذكراها ، أدمنت حبها رغم الذي كان . أأسامحها؟أأجبر كسر قلبي بوصلها مجددا؟ أنطق يا بحر ، وهنا تعالت أصوات الموج معلنة رفضها لهذا القيد الذي يدمي قلبه و هذا الأسر الذي يكبل خطوه ، يا أسير الوهم ماكان حبا ! لم يكن إلا وهما من طرفٍ واحد . هذا الطرف هو أنت ، فغض الطرف عنها و ابتعد و لا تقترب

عاد إليه ريقه الذي جف في حلقه ، استرجع أنفاسه، استرجع قلبه ، استرجع إدراكه

و راح يحدق من جديد في اللوحة الربانية التي تطفو على سطح البحر بجمالها الأخاذ و الآسر ، وكأنه يراها الآن و لأول مرة ، لحظتها قرر أن يطرق على ذكرياته البالية بمطرقة من حديد .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here