لماذا نفرط فى مكتسباتنا الثورية؟

لماذا نفرط فى مكتسباتنا الثورية؟

محمد سيف الدولة

[email protected]

فى 25 يوليو 2021 أصدر الرئيس التونسى المنتخب قرارا بتجميد السلطة التشريعية المنتخبة (البرلمان) لمدة شهر ضمن حزمة من الاجراءات الاستثنائية الأخرى. وفى 24 اغسطس قام بتمديد هذا التجميد الى أجل غير مسمى، فانقسمت الاحزاب التونسية بين مؤيد ومعارض، وكذلك فعلت بعض النخب العربية.

وفى السطور القادمة سأحاول ان اناقش هذا الموضوع عبر خمسة عناوين رئيسية:

1) النخب ومصداقيتها.

2) مناقشة الاسباب المعلنة لتأييد الاجراءات الاستثنائية.

3) الانظمة العربية والسلطات التنفيذية والثورات المضادة.

4) اشكالية الاسلاميين فى الثورة وفى الانتخابات.

5) عقدة الشعوب العربية.

***

اولا ـ النخب ومصداقيتها المبدئية والسياسية والجماهيرية:

1) لماذا تبارك بعض النخب عودة استبداد السلطات التنفيذية فى بلادها، بعد دهور من غياب الحريات وابسط انواع الديمقراطية، وبعد شقاء وتضحيات اجيال وراء اجيال “هرمت” من اجل انتزاع قليل من الحقوق والحريات مما نجحت ثورتهم فى انتزاعها بالفعل؟ ولماذا هذه المباركة رغم ما حققته احزابها من نجاحات لم تحققها من قبل وقد لا تحققها فى أى انتخابات قادمة فيما لو اجهضت التجربة الديمقراطية فى البلاد؟

2) وهل قرارها بتأييد تجميد البرلمان أو حله هو حق لها؟ ام انه حق للناخبين الذين وثقوا فيها واعطوها اصواتهم؟

3) وما هو الخطاب الذى ستوجهه مثل هذه الاحزاب الى الناخبين فى أية انتخابات قادمة؟ وكيف ستكسب ثقتهم مرة اخرى اذا كانت على استعداد دائما لتأييد اى قرار بحل البرلمان مجددا اذا توافق مع مصالحها السياسية؟

4) وهل من المقبول مبدئيا وسياسيا، ان تشارك الاحزاب فى الانتخابات البرلمانية، وهى تبطن نوايا بدعم حل البرلمان او تجميده اذا لم تتحصل فيه على الاغلبية؟

5) فنظرية اننا سنشارك فى اللعبة السياسية ونقبل الدخول فيها، وسنقوم بتأسيس احزابنا وترشيح كوادرنا فى كل الاستحقاقات الانتخابية وسنتمتع بكل الحريات السياسة والاعلامية، “بشريطة” ان من حقنا، اذا لم نكن نحن الرابحين، ان ننسحب فى اى وقت ونستدعى السلطة التنفيذية لاغلاق الملعب وهدم اللعبة فوق رؤوس الجميع، هى نظرية لا تستقيم فى اى مجتمع حر وسوى.

6) وهل يمكن ان يستقيم ويستقر اى نظام سياسى فى العالم، ببرلمان (منتخب) عرضة للحل او التجميد فى اى وقت وفقا لأهواء السلطة التنفيذية وارادتها المنفردة؟

***

ثانيا ـ الاسباب المعلنة لتأييد قرارات الرئيس الاستثنائية:

يقولون فى ذلك:

· ان النظام السياسى الذى افرزته الثورة ثبت فشله،

· وأن كل ما تحقق من حريات لم يكن سوى احدى اشكال الديمقراطية الليبرالية الشكلية الزائفة الخالية من اى مضامين اجتماعية،

· وأن البرلمان المنتخب لم ينجح فى تلبية احتياجات الشعب التونسى المعيشية،

· فلقد سقط تحت سيطرة تحالف من الفساد والاسلام السياسى،

· الى الدرجة التى وصفه قيس سعيد بأنه خطر على الدولة التونسية،

· وان قرارات الرئيس لم تكن سوى استجابة لمطالب الشعب التى عبر عنها فى مظاهراته فى 25 يوليو 2021، بعد أن فاض به من تدهور الاوضاع على كافة المستويات.

***

وحول هذه الاسباب هناك بعض الملاحظات والتساؤلات:

1) ولنبدأ ملاحظاتنا بالاتفاق على أن هذه الثورات العربية كانت ردة فعل طبيعية ومتوقعة فى مواجهة النظام العربى الرسمى بكل وحداته ودوله ودويلاته الذى انتهت صلاحيته من زمن طويل، ربما بدأت مرحلة سقوطه مع توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، واكتمل السقوط الكامل مع الغزو الامريكى للعراق. وان كل محاولات اصلاحه من الداخل قد فشلت وتعثرت ولم يتبقَ الا الرهان على ثورات الشعوب التى لم تتفجر الا بعد ثمان سنوات من سقوط بغداد.

2) ولكن لأنه لم يكن بمقدور أى تيار أن يقوم بالثورة منفردا، فلقد قبلوا جميعا منذ البداية ان يتحالفوا معا رغم الاختلافات والتباينات فى المرجعيات الفكرية والمواقف السياسية، فلم يضع اى منهم “فيتو” على اى تيار آخر فى البداية، لاداركهم انه لا يمكن الاستغناء عن اى منهم لاسقاط “بن على” وتفجير الثورة.

3) وهو ما يفسر اقتصار الثورة التونسية مثلها فى ذلك مثل الثورة المصرية، على تبنى برنامج “حد أدنى” اكتفى بالتركيز على مطالب الاصلاح الدستورى والسياسى والديقراطى، مع تأجيل المطالب الأكثر جذرية الى مرحلة لاحقة وبالتحديد لدى التيارين القومى والاشتراكى، واللذان يضعان على رأس اولوياتهما قضايا الاستقلال والتحرر الوطنى ومناهضة الاستعمار والصهيونية وتبنى سياسات اجتماعية عادلة تكسر استئثار الطبقة الرأسمالية بثروات البلاد.

4) وانه رغم ادراك جميع الفرقاء لهذه الحقيقة (حقيقة ان ثورتهم لا تطابق النموذج الثورى الأمثل الذى يتبنوه ويدعون اليه)، الا انهم انخرطوا فى صفوفها وقبلوا ان يكونوا جزءا من نظامها وشاركوا فى انتخاباتها وبرلماناتها، من منظور أن هذا لن يكون هو آخر المطاف، بل أول خطوة فيه، وانه بالحريات والديمقراطية وامتلاك حرية ابداء الرأى وتاسيس الاحزاب واصدار الصحف والاجتماع والتظاهر والانتخابات النزيهة وتداول السلطة والفصل بين السلطات، يمكن تحرير مساحات اوسع من المجتمع والوصول الى قطاعات شعبية اوسع، وبالتالى التمكن من تطوير الثورة ومطالبها فى اتجاهات اكثر جذرية.

5) ولكن الذى حدث ان أحدا من قوى الثورة لم يكن يمتلك رؤية واضحة عما يجب وما يمكن انجازه بعد نجاحها، ولذلك غرقوا جميعا بدرجة او بأخرى فى حالة من البرجماتية والتجريب والتخبط والتقدم والتراجع، وتفرغوا فى بداية الامر، ولاول مرة فى حياتهم، لتأسيس وبناء أحزابهم المستقلة الامر الذى كان محظورا قبل الثورة. وبدلا من أن يحافظوا على تحالفاتهم التى نجحت فى اسقاط “بن على” ويطوروها من اجل استكمال تفكيك النظام القديم وفرض حظر على اختراق او مشاركة قواه وعناصره فى النظام الثورى الجديد، انخرطوا للاسف الشديد فى الاشتباك مع بعضهم البعض فى معارك طاحنة فى سياق المنافسة الحزبية والبرلمانية سرعان ما تحولت الى انقسام واستقطاب رهيب فى المجتمع. وبالتالى اذا صح ما ورد فى نقدهم لنظام ما بعد الثورة، فانهم جميعا وبدون استثناء شركاء فيما آلت اليه الأمور بدرجة أو بأخرى.

6) ولكن رغم كل هذه التعثرات واضطراب الرؤية وتأخر الحسم والانقسام، الا اننا يجب ان نعترف ان الثورة قد حققت قفزات هائلة فى مجال الحريات السياسية والمشاركة وتداول السلطة، لم تحصل على 1% منها على امتداد عشرات السنوات الماضية فى ظل حكم نظام الاستبداد الذى ثارت عليه.

7) وفلنتفق ايضا على انه من الخطأ البالغ بعد قيام الثورة، أن تقتصر أنشطة قواها واحزابها على المشاركة فى الانتخابات والبرلمانات، فساحات النضال والعمل السياسى والشعبى والوطنى والثورى والديمقراطى اوسع من ذلك بكثير.

8) أما عن مسالة أن قرارات الرئيس الاستثنائية هى استجابة وتعبير عن مطالب التظاهرات الشعبية التى خرجت فى 25 يوليو 2021. فاننا نتساءل: هل يمكن الاقرار على وجه اليقين بأن هذه الحشود كانت تمثل الغالبية العظمى من الشعب التونسى؟ أوليست الانتخابات الحرة النزيهة أصدق قولا وأدق دلالة على اتجاهات الراى العام فى اى مجتمع؟ وكيف يمكن التفرقة والفرز داخل كل هذه الحشود بين القوى التى ثارت على “بن على” وبين تلك التى تريد عودة النظام القديم؟

9) وإذا كان الرئيس قيس سعيد اليوم هو من “الاخيار الثوار الوطنيين الديمقراطيين”، وغالبية احزاب البرلمان ليس كذلك، افلا نخشى من ان تشكل هذه الاجراءات الاستثنائية سابقة ورخصة تبيح لاى رئيس قادم قد يكون من الاشرار هذه المرة لتكرارها مع معارضة من الاخيار.

10) وماذا سيكون الموقف، لو قرر الرئيس التوغل فى إجراءاته الاستثنائية لتطول الجميع، وقام بوأد الحريات وتكميم الافواه والاستئثار وحده بكل السلطات، ليصبح نسخة مكررة من “بن على”؟ ماذا ستفعلون حينئذ بعد أن فقدتم كل ادوات المعارضة والتعبير من انتخابات نزيهة وبرلمان مستقل وحقوق للتظاهر والتنظيم والاجتماع والنشر وابداء الرأى ..الخ؟

***

عن الانظمة العربية والسلطات التنفيذية والثورات المضادة:

1) ان من الحقائق الثابتة للجميع أن النظام الرسمى العربى بكل دوله وانظمته وحكامه ومصالحه يعادى اى حراك شعبى ثورى او حتى اصلاحى، ويتحالف لاجهاضه فى حالة ظهوره فى اى دولة عربية.

2) كما أن من اهم خطط واستراتيجيات قوى الثورة المضادة، محليا واقليميا ودوليا، هو افشال الثورة من خلال وضع العقبات المالية والاقتصادية والادارية امام كل مؤسساتها الوليدة، من اجل اثارة غضب الشعوب ودفعها الى الانقلاب على الثورة وقواها والمطالبة بالعودة الى النظام القديم.

3) بالإضافة الى نجاحها نجاحا باهرا فى توظيف واستغلال حالة الانقسام الحاد بين تيارات الأمة الاربعة فى كل الاقطار العربية التى لا تقل فى حدتها عن الانقسامات والصراعات الطائفية في اقطار مثل لبنان والعراق، فى الانقضاض على الثورات وتصفيتها بعد التمكن من اختراق صفوفها والتفريق بين قواها.

4) ولذلك فانه من غير المجدى مناقشة وتحليل الموقف الرسمى لمؤسسات الدولة العميقة والنظام القديم، لانه من المتوقع دائما من أى سلطة تنفيذية فى العالم ان تتخذ مواقف سلبية ومعادية تجاه اى معارضة سياسية، خاصة ضد تلك التى تشكل منافسة قوية لها، او تهديدا حقيقيا للنظام الذي تحكمه.

5) كما أن طبيعة السلطة التنفيذية فى كل الدول، وطبيعة مؤسساتها وتكوينها ووظائفها وهيمنتها على ثروات البلاد وانفرادها بأجهزة القوة والردع وانفاذ القانون من شرطة وجيش… الخ، يجعل نزوعها الى السيطرة على باقى السلطات، وتقييد الحقوق والحريات هى خاصية اساسية من خصائصها، ولم يحدث الا فيما ندر، ان بادرت اى سلطة تنفيذية من تلقاء نفسها الى تخفيف قبضتها الحديدية او التنازل عن جزء من صلاحيتها او احترام وعودها “بتأقيت” ما وهبته لنفسها من سلطات استثنائية فى حالات الطوارئ، أو اعادتها والتخلى عنها طواعية. فعلى ماذا تراهن مثل هذه النخب والأحزاب؟

6) ولذلك هناك شبه اجماع بين فقهاء القانون الدستورى فى العالم، على ان من اهم اولويات اى دستور ونظام سياسى هو وضع ما يكفي من نصوص وضمانات لتقييد النزع التلقائى للسلطات التنفيذية للهيمنة المطلقة على باقى السلطات. فألف باء فى اى نظام ديمقراطى سواء كان ليبراليا او اشتراكيا، اصلاحيا او ثوريا، هو الفصل بين السلطات، وحماية المجتمع وباقى السلطات من تغول واستبداد السلطة التنفيذية.

7) ناهيك على أن السلطات التنفيذية فى اى دولة لا تفتقد ابدا لمن يروج لقراراتها، فلديها على الدوام احزابها وكتابها وسياسييها واعلامييها واجهزتها الامنية وعملائهم وعناصرهم المندسة فى صفوف احزاب المعارضة ..الخ، الذين يتبنون خطابها ويدافعون عن قراراتها ويشنون حملات للهجوم والتشهير على كل من يعارضها، فلماذا ترضى قوى سياسية محترمة لها سمعة طيبة وتاريخ طويل محترم من النضال السياسى، ان تقوم بهذا الدور، وتتحول الى مجرد بوق اضافى من ابواق السلطة؟

***

رابعا ـ الاسلاميون والثورة والانتخابات:

1) أياً كانت الاسباب الرسمية المعلنة لحل او تجميد البرلمان، فان الاسباب الاكثر ترويجا وترديدا بين المؤيدين لقرارات قيس سعيد فى تونس هي انه برلمان سيطر عليه وسرقه الاسلاميون كما سرقوا باقى الثورة وقفزوا عليها، أما الاسباب الأكثر اقترابا من الحقيقة فى تصورى، فهى انه لا يوجد أحد فى السلطات العربية، يحتمل وجود أى معارضين او شركاء أو منافسين او حتى رقباء عليه من التيارات الاسلامية أو من غيرها.

2) كما اننا قد لا نملك ان ندير حوارا موضوعيا حرا حول ظاهرة الاسلاميين ودورهم فى الثورات وفى الانتخابات، فى ظل هذه الحالة العميقة من التخوين والتكفير والانقسام والاستقطاب فى العالم العربى، بالإضافة بالطبع الى القيود والمحاذير والمحظورات التى تفرضها بعض السلطات العربية على كل ما ينشر فى هذا الصدد.

3) ولكن يظل السؤال الاهم والأصعب الذى يتجاهله الجميع؛ وهو عن الملايين التى اعطت اصواتها لاحزاب نتهمها بالشر والفساد؟ فربما يكون حل البرلمانات والاحزاب سهلا ومتيسرا، بل والزج بأعضائها فى السجون ايضا متيسرا، ولكن ماذا سنفعل مع هذه الملايين؟

4) ومصدر صعوبة السؤال السابق، ليس فى غموض الاجابة عليه، وانما فيما تتضمنه هذه الاجابة من نقد لسلوك بعض النخب والقوى السياسية، لقيامها باختصار الطريق واستسهال الحل من خلال الاستقواء بالسلطات التنفيذية فى دولها، بدلا من خوض غمار المنافسة مع خصومها السياسيين عبر تحمل مشاق وجهود مضنية ودؤوبة وطويلة النفس بتكثيف الحركة والعمل والنضال والالتحام بالجماهير فى القرى والنجوع والاحياء والمصانع والجامعات والنقابات لسنوات بل ولعقود طويلة.

***

العقدة:

وختاما يجب التأكيد على ان لدى الشعوب العربية “عقدة مزمنة” من كثرة قيام السلطات بتزوير الانتخابات، وحل البرلمانات المنتخبة غير المستأنسة حين لا تخضع لارادتها ولا تسير فى ركابها.

· ففى مصر وحدها وعلى سبيل المثال تم حل البرلمان (11) مرة فى 150 عاما، منذ تأسيه عام 1866 حتى اليوم.

· منها قيام السادات بحل برلمان 1976 بسبب معارضة 15 نائبا من أصل 357 نائبا، لاتفاقيات كامب ديفيد، ليأتى بعدها برلمان 1979، خاليا بسبب التزوير الشامل من اى معارضة على الاطلاق فيما عدا شخصا واحدا هو المستشار الجليل “ممتاز نصار” بلدياتى من مركز البدارى محافظة اسيوط.

· وفى عصر مبارك قامت المحكمة الدستورية بحل البرلمان ثلاث مرات بسبب عدم دستورية قانون الانتخابات، وهي برلمانات 1984 و1987 و1990.

· وفى عام 2010 وكرد فعل سلطوى عنيف على فاعلية قوى المعارضة فى برلمان 2005، قامت السلطة المصرية بعملية تزوير شامل للانتخابات، ادت الى عدم نجاح أى معارض من اى تيار، وهو ما كان من اهم الاسباب التى ادت الى تفجير ثورة يناير.

· وبعد ثورة يناير قامت المحكمة الدستورية باصدار حكم جديد بحل برلمان 2012، وكانت الحيثيات هى عدم دستورية قانون الانتخاب.

***

ولم يحدث فى حدود علمى ان حملت لنا اى قرارات استثنائية صادرة عن اى سلطة عربية أو غير عربية، حلولا اكثر حرية او ديمقراطية او انحيازا لمطالب الشعوب.

***

كانت هذه بعض النقاط التى اتمنى لو اتيح لنا ان ندير حولها حوارا موضوعيا، لعلنا نستطيع ان نضع ايدينا عن السر او السبب الحقيقى الذى يدفع بعض النخب السياسية الى التخلى عما حققته بايديها وعبر نضالها الطويل من انجازات ومكاسب ثورية.

*****

القاهرة فى اول سبتمبر 2021

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here