كيف اغتنت الاداب الاوربية بلغتنا العربية ؟

كيف اغتنت الاداب الاوربية بلغتنا العربية ؟ (*) د. رضا العطار

من الحقائق المسلم بها ان النزعة العلمية التي شاعت في اوربا في عصر النهضة، ترجع اصولها الى التجارب الكيميائية التي كان العرب يجريها لتحويل المعادن الخسيسة الى ذهب. اذ ان تلك التجارب كانت بمثابة الخميرة – للمنهج العلمي – الحديث.

ولذلك يرى الأوربيون ان للعرب فضلا كبيرا على العلم الحديث. فهل نستطيع ان ننسب لهم فضلا كذلك على الادب الغربي ؟

الرأي السائد في اوربا ان الادب العربي بعيد كل البعد عن الادب الغربي. وقد لا يخطر ببال قارئ الادب الاوربي ان لهذا الادب علاقة بالادب العربي. فقد استقر في الاذهان ان الادب الغربي ترجع اصوله الى الادبين اللاتيني والاغريقي. وقليل من المستشرقين والباحثين يرى في الادب العربي اصلا من اصول الآداب الاوربية الحديثة.

لعل ابرزهم جميعا المستشرق الانكليزي – جيب – استاذ اللغة العربية بجامعة لندن الذي يلقي الضوء على الاحداث، بغية توضيح الحقائق من خلال كتابه – تراث الاسلام – الذي ورد فيه ما يلي ( في آخر القرن الحادي عشر ظهر فجأة طراز جديد من الشعر الغزلي في جنوب فرنسا. كان طرازا جديدا في موضوعه وفي اسلوبه ومعانيه. ولم يكن لهذا النوع من الشعر اساس من الادب الفرنسي القديم. وهو يشبه الشعر الاندلسي شبها قويا جدا، اذ هو ضرب من الموشحات والازجال الاندلسية الغنائية التي تدور موضوعاتها على الغزل والحب العذري ). ويضيف المستشرق الانكليزي جيب :

( أليس من المعقول اذن ان نرد هذا الضرب من الشعر الفرنسي الجديد الى الشعر العربي الاندلسي, خاصة اذا علمنا ان نظرية – الحب العذري – التي يدور عليها هذا الشعر الفرنسي, ليس لها اصل في الادبين اللاتيني والاغريقي ؟ )

لقد اثبت المستر جيب هذا الرأي في الكتاب الذي اشرنا اليه اثباتا قاطعا لا يدع مجالا للشك في صحته. وكذلك ليس الامر يكون مقصورا على الشعر الفرنسي فحسب, لكن الشعر الايطالي ايضا تأثر تأثيرا قويا بالشعر العربي في جزيرة صقلية، خاصة في عهد الملك الالماني فردريك الثاني. – –

وقد يُشك في ان الشعر الاوربي قد تأثر قليلا او كثيرا بالشعر العربي. ولكن الامر الذي لا شك فيه هو ان نثر القرون الوسطى في اوربا يرجع في كثير من اصوله الى النثر العربي. فقد كان الادب التقليدي في القرون الوسطى ادبا صارما جامدا. يخاطب الخاصة ولا ينزل لافهام العامة. ومن هنا كانت الحاجة العامة الى ذلك الضرب من الادب الخيالي الذي يُعني بأشباع الحواس اكثر مما يعني بالمنطق والعقل.

فلما نُقلت الى اوربا بعض – الحكايات – ذات المغزى، وبعض القصص الخرافية كقصة السندباد البحري وما اليها, وجد فيها الشعب الاوربي حاجته المنشودة, واقبل عليها اقبالا شديدا. فأصبحت بمثابة البذرة الاولى للادب – الخيالي – الجديد الذي اخذ ينازع الادب التقليدي القديم مكانه. ومن ثم ذاعت القصص الخيالية الرومانسية ذيوعا عظيما.

فلو فحصنا هذه القصص, لوجدنا ان كثيرا منها يرجع الى اصل عربي بحت, ولزيادة المعلومات : ان هناك قصة فرنسيىة يسمى بطلها – القاسم – وهو اسم عربي لا شك فيه . ….. يتضح من هذا السرد المقتضب ان التيارات الشعبية في الادب الاوربي في القرون الوسطى , كانت اقرب الى روح الادب الشرقي منها الى الادبين اللاتيني والاغريقي , اللذين كانا بطبيعتهما اميل الى ادب الارستقراطيين.

ذلك ان الادب الشرقي في جملته ينزع الى الخيال والالوان الزاهية الجذابة. فكانت اوربا كلما احتكت بالشرق، استلهمت روحه وتأثرت بأدبه اشد تأثر. فتأصل الادب الخيالي الجديد في اوربا وترعرع حتى كاد يزحزح الادب التقليدي من مكانه.

حدث هذا في القرون الوسطى . فلما بدأت النهضة العلمية, نزعت اوربا الى درس الحضارة الاغريقية, فأهملت ادب الشرق. واصبحت مقاييس الادب الاغريقي القديم هي السائدة في عصر النهضة. ومن ثم تغلبت النزعة التقليدية القديمة في الادب على النزعة الخيالية الجديدة بعض الزمن. غير ان النزعة الخيالية الجديدة – وهي نزعة شعبية خالصة – لم تخمد تماما لكنها كانت تحاول الظهور من حين لأخر.

فهذه القصة الرومانسية الفرنسية والفولكلور الالماني والدرامة الانكليزية التي انتشرت كلها في القرن السابع عشر, كانت من اثار النزعة الخيالية التي بدات في القرون الوسطى. والتي حاولت العلمية الاوربية ان تقتلعها فلم تفلح, ثم كان القرن الثامن عشر, حتى تم النصر النهائي للادب الخيالي في اوربا. وقد كانت قصص الف ليلة وليلة التي ترجمت سنة 1704، اقوى عامل لهذا النصر. فقد اقبل الاوربيون على قراءتها في شغف شديد, وراح الكتاب يقلدونها في قصصهم بعد ما اكتشفوا في ثناياها روح الاقحام والمجازفة.

ويرجع نجاح كتاب الف ليلة الى حالة الادب الانكليزي والادب الفرنسي في القرن الثامن عشر, فإن انتشار القراءة قد انشأ جمهورا جديدا من القراء. لم يكن الكتاب يحسبون له حسابا. لكنهم انطلقوا محاولين ارضاء الجمهور واشباع حاجاته في الوقت الذي كانوا في حيرة شديدة من امرهم, لا يكادون يصلون اليها. فلما ظهرت قصص الف ليلة, و راى الكتاب اقبال الجمهور الكثيف عليها, تنبهوا لهذه الظاهرة الجديدة, واخذوا يدرسونها لعلهم يقفون على السر في شغف الجمهور الاوربي بذلك الاثر الشرقي الطارئ. فتبين لهم ان هذه القصص تتميز بخاصية تحبب الى الجماهير قرائتها، و هي روح المجازفة والاقتحام . فعمل الكتاب على ادخال هذا العنصر الجديد في قصصهم, ومن هنا جائت قصة روبنسن كروزو , واسفار جوليفر. التي ما ظهرت لولا قصص الف ليلة وليلة.

اما في القرن التاسع عشر فقد تأثر الادب الالماني بالاداب العربية والفارسية والهندية الى حد كبير. وكان – غوتيه – اديب المانيا الشهير يستلهم روح الشرق في كثير من قصصه التي مزجها بالخيال الشرقي. وكذلك الاديب الالماني الاخر – هيني – لم تخلو قصائده الغنائية من روح الشرق. كما كان – شوبنهور – يتوقع اشتداد النزعة نحو الادب الشرقي وامتدادها في اوربا, لكن حدث ما لم يكن في الحسبان, فقد وقفت الاداب الفرنسية والانكليزية في وجه تلك الحركة. وقد كان غوتيه يحلم ان يجعل الادب الالماني ادبا انسانيا عالميا, لكن تحطم حلمه الجميل في ظهور الحركات القومية واشتداد النعرات الوطنية.

فأثر الادب العربي في الغرب ليس اثرا عاديا ملموسا يمكن ادراكه في سهولة ويسر. وانما هو اثر معنوي – ان صح التعبير – لانه في حقيقة الامر لم تنقل الى الغرب نماذج ادبية معينة, وانما نقل اليه روح الشرق. فكان اثره في بواعث الادب وغاياته اكثر مما كان في اساليبه واشكاله الظاهرة. ثم يجب ان نذكر ان الغرب لم ياخذ عن الشرق نزعات ادبية لم يكن له بها عهد من قبل. فإن البذور الاولى كانت موجودة في الغرب لكنها كانت في حاجة الى حافز يحركها حتى تنمو وتترعرع. فكان الروح الخيالي الشرقي هو الحافز المنشود.

وفي هذا السياق يتذكر كاتب السطور سنوات عمله في المانيا في الستينيات، فيقول :

كنت اشاهد بعض المرضى الراقدين في ردهة المستشفى التي كنت اعمل فيها وفي ايديهم كتبا، يقرأونها، وعندما سألت احدهم عن اسم الكتاب، قال، ادب القصة الخيالية، ثم أدار لي جلد الكتاب، كان عنوانه: ( رحلتي الممتعة من بغداد الى اسطنبول )، لمؤلفه كارل ماي.

* مقتبس من كتاب ماهي النهضة ؟ للموسوعي سلامه موسى مع التعليق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here