الحركة الجماهيرية الفلسطينية والنهوض القاصر

الحركة الجماهيرية الفلسطينية والنهوض القاصر

معتصم حمادة

عضو المكتب السياسي

للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

■ تمر الحركة الجماهيرية الفلسطينية، في مرحلة نهوض مميز، عبرت عنها في العديد من مظاهر النضال اليومي.

• ففي مقاومة الاستيطان، تنتشر في أرجاء القدس وعموم أنحاء الضفة الفلسطينية بؤر الاشتباك الجماهيري مع مشاريع الاستيطان، كما هو حال بيتا، التي تحولت إلى أيقونة المقاومة الشعبية، وبيت دجن، وكفر قدوم، ونعلين، وبلعين، ومحافظة جنين، وطوباس، وسلفيت، والخليل وغيرها من المناطق المعرضة لخطر المصادرات وخطر توسيع الاستيطان، في خطط إسرائيلية واستراتيجية، بدا جلياً أنها تستهدف تقويض الأساس الجغرافي لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، المتواصلة إقليمياً، وكاملة السيادة على حدود 4 حزيران (يونيو) 67. ولقد فرضت هذه النماذج النضالية حالها على الأوضاع الوطنية، بحيث باتت بعض ميادينها كبلدة بيتا، على سبيل المثال، وبيت دجن، محجة للقوى السياسية الفلسطينية.

• وفي مقاومة الاحتلال، تتواصل الأعمال الفردية، في استهداف لحواجز جيش الاحتلال ودورياته. وبغض النظر عن نتائج هذه العمليات، إلا أنها باتت ترمز إلى قناعة لدى الحالة الجماهيرية، بضرورة وضع حد لاحتلال بلا كلفة ولا بد أن يدفع كلفة جرائمه غالياً.

• وعلى الصعيد الوطني، ترسخت لدى الصف العريض من أبناء الحركة الجماهيرية، ضرورة إحداث تغيير عميق في طبيعة النظام السياسي الحالي، جرى التعبير عن ذلك في الإقبال الواسع على التسجيل في قوائم المقترعين للانتخابات، والإقبال الواسع على الترشح لقوائم، قدمت نفسها باعتبارها مستقلة. ولا شك أن واحداً من الأسباب الرئيسية التي دفعت قيادة السلطة إلى إلغاء الانتخابات، هو إحساسها بما يعتمل في المجتمع الفلسطيني من تطورات وتغييرات، ورغبة في التدخل المباشر لوضع حد للنظام السياسي الحالي، الغارق في الفساد المالي والإداري والسياسي؛ والذي تحوّل قيداً على القضية والحقوق الوطنية، والحركة الجماهيرية، بدلاً من أن يكون رافعة رئيسية من روافعها.

• كذلك عبرت الحركة الجماهيرية عن عمق وعيها لحقوقها الديمقراطية، في تحركها في مواجهة السلطة وأجهزتها البوليسية، وقد احتلت جريمة إعدام الشهيد نزار بنات موقعاً مهماً، ساهم في تفجير التحركات الشعبية ضد القمع والبطش والنظام البوليسي، ودفاعاً عن الحريات الديمقراطية، بما فيها حرية الرأي، وكل أشكال التعبير، وصون حقوق الإنسان الفلسطيني. ولا شك في أن تظاهرة رام الله يوم الأربعاء في 26/8/2021، التي شهدت حشوداً غفيره، حتى بإعتراف شرطة النظام نفسها، شكلت علامة فارقة في تطور مناحي نضالات الحركة الجماهيرية التي بدأت تناضل على محورين اثنين. الأول ضد الاحتلال بكل أشكال المقاومة، والثاني دفاعاً عن القانون والدستور، وبما يكفل حقوق الإنسان الفلسطيني، ويعزز قدرته على الصمود في وجه الاحتلال.

• غير أن المحطة التي شكلت ذروة في النهوض الجماهيري، والتي أذهلت المراقبين ووضعتهم أمام واقع جماهيري جديد، هي تلك الهبة، والتي كانت في ظاهرها ثورة غضب، امتدت من الضفة إلى القطاع، إلى مناطق 48، إلى عموم مناطق الشتات، أبرزت حقيقة ما تختزنه الحركة الجماهيرية الفلسطينية من قوة وبأسس وإرادة صمود، أعادت صياغة المعادلات السياسية، وأعادت خلط الأوراق، بما في ذلك انزياحات واسعة لشرائح واسعة على الصعيد الدولي لصالح القضية والحقوق الوطنية، وصولاً إلى وسم دولة الاحتلال بأبشع الأوصاف، دولة تمييز عنصري، وتطهير عرقي، متورطة في إرتكاب العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني.

لقد نجحت الحركة الشعبية، بأساليبها النضالية المختلفة، في إسقاط خرافة المقاومة الشعبية «السلمية»، وأكدت في السياق أن أصحاب هذه الدعوة إما أنهم يمارسون الدجل السياسي، دفاعاً عن استراتيجيتهم وخياراتهم الهابطة، القائمة على التقيد بشروط أوسلو، واعتماد المفاوضات السلمية خياراً وسبيلاً وحيداً للحل، ووسم كل أشكال النضال «الخشن» و«العنيف»، بأنه إرهاب. وإما أنهم مفصولون عن الحالة الفلسطينية زماناً ومكاناً، وعن تجارب الشعوب التي سبقت الشعب الفلسطيني إلى التحرر من الاحتلال والاستعمار.

لقد أثبتت تجربة الشعب الفلسطيني، كما كل تجارب الشعوب، أن استجداء الحقوق الوطنية من جيوش الاحتلال، لن يؤدي سوى إلى المزيد من الاذلال، والدوس على الكرامة الوطنية.

فما كان للحركة الوطنية في جنوب إفريقيا أن «تقنع» الطغمة الحاكمة من الأقلية البيضاء، بضرورة النزول عند مطالب الغالبية السوداء وحلفائها من البيض، لولا أن هذه الغالبية، نجحت عبر كل أشكال النضال، ومن ضمنها، وفي سياقها النضال المسلح، في أن تتحول إلى قوة «تفاوضية» في الميدان، قبل أن تكون قوة تفاوضية إلى الطاولة، قوة تفرض شروطها، بحيث لم يعد أمام الطغمة البيضاء إلا «الاقتناع» بضرورة إنهاء النظام القائم، لصالح نظام دولة المواطنة، دون أي تمييز عنصري.

والأمر نفسه في فيتنام، حيث كانت المفاوضات الحقيقية بين الفيتكونغ والجانب الأميركي تجري في الميدان، وتنقل نتائجها إلى طاولة المفاوضات. ولم تقتنع فرنسا الاستعمارية بأن الجزائر دولة عربية، لولا ثماني سنوات من القتال المرير والنضال الجماهيري الصعب الذي جعل من قضية الجزائر قضية عالمية، أدت بالقيادات الفرنسية إلى استدراك الانقسامات الداخلية في البلاد، بقرار الجلاء عن الجزائر.

والأمر نفسه ينطبق على اليمن الجنوبي، وغيرها من الشعوب التي لم يراودها للحظة أن المفاوضات وحدها، في ظل موازين مختلّة بشكل فاقع لدولة الاحتلال، هي السبيل إلى الحرية والاستقلال.

غير أن الخاصرة الرخوة للحركة الجماهيرية في فلسطين [في الضفة والقطاع والشتات] تفتقر إلى القيادة الموحدة التي بإمكانها أن ترسم الاستراتيجية النضالية الكفيلة بتحويل النضالات والتضحيات اليومية إلى قوة تراكمية، تصب في مصلحة القضية الوطنية، وتقود إلى استنزاف الاحتلال وإضعافه، وبحيث يدفع كلفة غالية لاحتلاله، من شأنها أن تخلخل صفوفه الداخلية، وأن تعزز الدعوات لحل يستجيب للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بدعم من التأييد العربي والدولي.

ولا شك في أن أولى أسباب غياب القيادة الموحدة، هو الانقسام المدمر. كما أن من الأسباب الكبرى لغياب القيادة الموحدة، هو غياب الاستراتيجية الوطنية الموحدة. فضلاً عن أن المعارضات الفلسطينية لتشتتها، وفشلها في التوافق على إطار نضالي تنسيقي، تخلفت هي الأخرى [إن لم نقل فشلت] عن تقديم البديل الوطني، دون أن يعني هذا أن قواعدها لا تنخرط، هنا وهناك، بنسب متفاوتة في إشعال نيران الصدام مع الاحتلال والاستيطان، ولا شك أن تجربة بيتا، ونهوض القوى الفاعلة في البلدة وفي محافظة نابلس، تشكل نموذجاً باهراً.

أما في الـ48، فإن القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية والتقدمية، نجحت في تشكيل أطر جامعة للنضال الجماهيري على الصعيد العربي، تقود النضال اللجنة العليا للمتابعة للجماهير العربية، وما على صعيد النضال الديمقراطي فإن نواب القائمة المشتركة يلعبون هذا الدور في الكنيست.

في السياق نفسه، لا بد من التنبيه إلى أن غياب الإطار التنسيقي لميادين النضال الفلسطيني، أعادت الوضع بعد معركة القدس إلى ما كان عليه. ففي القطاع انشغال بالهموم اليومية المعيشية والحياتية، وفي الضفة انشغالات في مواجهة الاحتلال والاستيطان، في بؤر مشتتة، وفي الشتات انشغالات مختلفة باختلاف الظرف المكاني والسياسي. أما في الـ48 فقد وجد الفلسطينيون العرب أنفسهم في مواجهة سلطات قمعية تعقيداً، خاصة بعد أن اقترفت الرؤى السياسية في تقييم نتائج معركة القدس وكيفية تثميرها في خدمة الكل الوطني، وبعيداً عن المصالح الفئوية الضيقة ■

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here