أرشيف الموتى   : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

 سأل الصبي والده بدافع فضول أو مشاكسة :

ـــ بابا !.. لماذا  انقطعت العمّة عن زيارتنا  ؟ ..

أجاب الأب باقتضاب وعدم اكتراث، وبشيء من دهشة من السؤال المفاجئ  وبدون أية مناسبة مسبقة :

ــ  قد تكون  مشغولة .. أو ربما زعلانة !.. من أين لي أن  أعلم  ؟..

فجاء تعقيب الطفل وبلهجة مرحة وشبه فرحة

ــ  بعد احسن ! ..

استغرب الأب من رد الأبن  المتشمت لغياب العمة ، فسأله بدافع حب استطلاع  :

ــ  لا يجوز أن تتحدث هكذا عن عمتك ..  بس ليش بعد احسن بالنسبة لك إنها ما تزورنا ؟.

ــ لأنها كلما  زارتنا وقبل أن تكمل شرب الشاي ، تفتح موضوع فلان مات وعلان مات وشعلان مات وسرحان مات وأحسان مات !.. و بعدها تبدأ  تبكي بكل حرقة  وآهة  ومرارة ، وكأنها عادت من دفنهم قبل ما تأتي إلينا بساعات ،فكلما تكلمت عن الموتى وتذكرهم فأنا يعتريني خوف من الموت ، فيعتكر مزاجي كآبة وحزنا طوال اليوم ، شاعرا كأن أشباح الموتى  ورائي متربصين مطاردين إياي ، و خاصة في أحلامي الحاشدة بهم جمهرة من أشباح مرعبين !..

تأثر الأب من كلام الابن وشعر بتأنيب ضمير لعدم انتباهه لهذه المسألة في أوانها ، فحّك جبينه بحركة عفوية ربما تعبيرا عن شعوربالتقصير ، ليقول موضحا أو مبررا :

ــ كل إنسان له  طبيعة خاصة به ،  فلا يستطيع التخلص  منها بسهولة.. فعمتك هي أيضا هذه طبيعتها المتغلبة عليها :  تحب  أن تتذكر الموتى الذين تحبهم و تحّن إليهم من أقرباء جيران ومعارف من أهالي المنطقة !..

ثم سكت الأب سارحا بين  أفكاره التي تزاحمت في رأسه  فجأة ، فخطر على باله أن أخته لم تزرهم  فعلا منذ مدة طويلة ، ربما على أثر مشادة كلامية بينهما ، قد تكون زعلانة حقا  أو مجروحة مشاعر ، لأنه طالبها بالكف عن ذكر الأموات في مناسبة وغير مناسبة أمام أطفاله ، كلما قامت بزيارتهم  المتكررة أسبوعيا ،إذ وما أن تجلس قليلا و حتى قبل تشرب  شايها وتكمّل تدخين سيجارتها ــ التي هي بنفسها تقوم بلفها بأصابعها النحيلة الصفراء والمرتجفة  ، حتى تقوم بذكر آخر مَن مات قبل أسابيع أو شهور من  أقربائها أو معارفها من أهل البلدة  ، حتى لو كان الميت مات  موتا عاديا وهو يبلغ الثمانين  من العمر! ، فكانت كلما توغلت في ذكر” مناقب ” الميت ،  كلما أخذت  تتهدج أوتار صوتها و تتأثر بانفعال مباغت  وهي تتناغم لترتفع عالية بانتحاب حار ومرير مع دموع  ساخنة بقطرات كبيرة منسابة تجعل وجهها المحتقن حزنا قاتما مبللا  بقطرات و خطوط خليطة من دموع ومخاط  ، ومن ثم لتضفي من خلال ذلك طقسا فجائعيا  كئيبا على أركان  البيت كلها …

وعندما كانت لا تجد  شخصا حديث الوفاة  لتذكر مناقبه وصفاته الحسنة و خسارة رحيله المبكر  لتبكي عليه وتنوح بصوت عال  ، فإنها كانت تغوص عميقا  في ذاكرتها راحلة عبر سنوات طويلة لتنبش هناك بين طيات وتلافيف ذاكرتها  لتجد ميتا عزيزا على قلبها يكون قد مات قبل عشرة أو عشرين عاما ، لتبكي وتنوح عليه ردحا من الزمن  ، ثم لتهدأ شيئا فشيئا  ، مثل من تناول لتوه  حبوبا مهدئة  لراحة واسترخاء لتولع سيجارة جديدة…

فلم يكن هو يطيق   تلك الأجواء والطقوس الحزينة التي كانت العمة تثيرها وتنشرها في أرجاء البيت ، فقال لها ذات يوم بعدما طفح عنده الكيل :

ـــ  ” أما تكفين عن ذكرالأموات أمام أولادي الصغار كلما تأتي إلينا من حيث تجعلين يومنا حزينا وكئيبا  على طول الخط ، أو تقللين عن زيارتك رجاء وبلا أي زعل .. .

أما هي ففضلت الانقطاع عن الزيارة  على أن تنسى أولئك الموتى الذين كانوا يشكّلون عالمها المغلق و الخاص وكأنهم أحياء يرزقون حواليها و يتحركون ويملئون الدنيا حيوية ونشاطا !..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here