مشروع قانون خدمة العلم… مبررات الرفض والقبول

مشروع قانون خدمة العلم
مبررات الرفض والقبول
كتب : احمد برير
الخدمة العسكرية أو التجنيد الإلزامي عبارات تحمل معها الكثير من الوجع والمعاناة والتجارب المريرة في الذاكرة العراقية، حتى مع تخفيف وطأة التسمية لتصبح ” خدمة العلم ” إلا أنها ما زالت تشكل عنواناً لرواية طويلة تدور كل فصولها وأحداثها حول معاناة العراقيين .

تاريخياً

يجدر بنا مراجعة تاريخ الدولة العراقية الحديثة للوقوف على الأسباب التي دعت الى سن قانون التجنيد الالزامي في العهد الملكي واستمرار تطبيقه في العهد الجمهوري وصولا الى عام ٢٠٠٣ .
بالعودة الى عشرينيات القرن المنصرم، حيث وقعت السياسة البريطانية في العراق تحت تأثير عاملين متناقضين الى حدٍ ما، يتمثل العامل الأول بالضغط الإقتصادي المتواصل من جانب لندن، وهو ما أدى الى تخفيض هائل في القوات العسكرية البريطانية، أما العامل الثاني فقد كان عبارة عن رغبة بريطانية بالحفاظ على دورها الفاعل في العراق، وقد انعكس ذلك في المعاهدات والاتفاقيات التي عقدت بين البلدين .كانت المساعي البريطانية تهدف الى تعزيز السيطرة على العراق، ومع وجود ضعف عسكري نسبي من جانبهم للأسباب الاقتصادية التي أشرنا اليها، كان عليهم التفكير بطريقةٍ تحقق لهم أهدافهم وتضمن لهم عدم خروج الملك فيصل عن سيطرتهم، فعلى الرغم من وجود معاهدات بين العراق وبريطانية، إلا أن الأخيرة لم تكن تثق بالملك فيصل، وكانت تجد في بعض قرارته محاوله للتملص من التزاماته تجاهها، ومن هنا فقد انتهج البريطانيون سياسةً تهدف الى تعزيز سلطة القبيلة وترسيخ مركز “الشيخ” لكبح طموحات الملك وتحجيم دوره واضعافه، مع التأكيد على أن يبقى “الشيخ” مرتبطاً بالبريطانيين دون الملك وموظفيه.

ومن هنا يرى بعض الباحثين أن الملك في السنين الأولى من الملكية لم يكن سوى شيخ كبير يجلس في المدينة بدلاً من الريف.
لم يسمح البريطانيون للملك بأن يتخذ أي خطوة من شأنها تقويض نفوذ الشيخ وتقليص سلطته وتدخلوا عدة مرات لإلغاء بعض قرارات الملك بحجة عدم استشارة المفتش الاداري البريطاني قبل اتخاذ تلك القرارات .
في ظل هذه السياسة وهذا الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي كانت تعيشه الدولة العراقية جاءت فكرة قانون التجنيد الالزامي لمواجهة السياسة البريطانية في العراق، بهدف تقويض مركز الشيخ وكسر الحواجز المنيعة بين القبائل ومعها، واسلوب أمثل لتحقيق الهوية الوطنية لدى أبناء القبيلة الذين ينتمون الى القبيلة والشيخ أكثر من انتماءهم لوطنهم ودولتهم .

الدستور والتوقيت

نص الدستور العراقي في المادة ٩ / ثانيا على أن ” تنظم خدمة العلم بقانون ”
وفي ضوء ذلك فقد طرح موضوع / قانون خدمة العلم أو التجنيد الالزامي لأكثر من مرة، وبين تأييدٍ ومعارضة لم يجد طريقه الى النور، وقد أعيد انتاج الموضوع بعد أن تبنت حكومة الكاظمي مشروع قانون خدمة العلم مؤخراً وأحالته الى مجلس النواب العراقي وفقاً للسياقات القانونية المعتمدة.
أن وجود نص دستوري لا يعني أن المرحلة الحالية مواتية لتشريع هكذا قانون، فالنصوص الدستورية نصوص عامة وذات أفق زمني رحب، فواضع الدستور يحتمل أن تأتي مرحلةٌ ما يتحقق فيها الازدهار الاقتصادي، وتتوفر فيها فرص العمل وربما لا نجد حينها من يتطوع للعمل في الأجهزة الامنية والعسكرية، عندئذ تأتي الحاجة الى تشريع قانون خدمة العلم، أما اليوم ومع وجود هذه الاعداد الضخمة من القوات الأمنية بمختلف صنوفها وتشكيلاتها (جيش، وشرطة، بيشمركة، حشد) فإن الأمر يبدو غريباً وغير قابل للتطبيق، لأسباب عديدة منها ما يرتبط بالجانب الاقتصادي، ومنها ما يتعلق بالرفض الاجتماعي الذي سيجابه به القانون فيما لو أرادت الحكومة تطبيقه، ومنها ما يرتبط بطبيعة النظام السياسي، فالانظمة الديمقراطية تختلف عن الانظمة الشمولية، والعراق دولة ديمقراطية أو ربما في مرحلة التحول الديمقراطي، وطبيعة المرحلة لا تتحمل تشريع وتطبيق مثل هكذا قوانين، لأن مصيرها هو الفشل الأكيد الذي لا خلاف حوله.

أخيراً

من خلال السرد التاريخي للملابسات التي أدت الى ولادة قانون التجنيد الالزامي/ خدمة العلم في العهد الملكي نلاحظ أننا أمام ظرف تاريخي يختلف تماماً عن واقعنا المعاصر، ففي ذلك الظرف كان يمكن قبول فكرة تقوية الانتماء الوطني وتعزيز الهوية الوطنية من خلال الخدمة الالزامية، أما اليوم فإن أدوات تشكيل الهوية الوطنية قد تبدلت وطرق تعزيزها قد اختلفت، فجيل اليوم لا يشبه أي جيلٍ قبله، ولذا فإن أدوات الماضي لا تنفع معه.

يرى البعض أن الخدمة الالزامية تسهم في صناعة جيل قوي قادر على مواجهة تحديات الحياة وخوض غمارها، فالحياة العسكرية ” مصنع الأبطال ” ولذا فهي وسيلة ناجعة لمواجهة الانحلال الاخلاقي والعبثية التي يعيشها الشباب والتي هي نتاج لوسائل التواصل الاجتماعي والميديا والمقاهي و… ولكن السؤال الذي يأتي هنا؛ من قال أن المؤسسة العسكرية مؤهلة لمواجهة الأزمة الاخلاقية التي يعيشها الشباب، على العكس تماماً، فالمؤسسة العسكرية هي الأخرى تواجه مشاكل فساد كبيرة على مستوى الافراد والقيادات، وبالتالي لا يمكن أن ننتظر منها ما لا تملك أن تقدمه لنفسها.
ان بناء المواطن الصالح يأتي من التنشئة الاجتماعية السليمة، مناهج التربية والتعليم، الفن الهادف، المؤسسات التي ترعى المواهب، الخطاب الديني العقلاني، الاقتصاد المزدهر الذي يضمن توفير فرص العمل وانتشال الشباب من هذا التيه والضياع، هذه وغيرها من العوامل التي تتكفل بناء الفرد الصالح، وليس المؤسسة العسكرية .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here