شؤون الحياة المعاصرة/ج6 العولمة في محك في هذه المرحلة من التاريخ

شؤون الحياة المعاصرة/ج6
العولمة في محك في هذه المرحلة من التاريخ
بقلم يوحنا بيداويد
الموقع الشخصي للكاتب

Activity

نشر هذا المقال في ايلول 2021
في العدد 32 من نشرة “نسمة الروح القدس” التي تنشرها ارسالية الروح القدس للسريان الكاثوليك في ملبورن بمناسبة عيد الصليب في زمن وباء كرونا

العولمة هو مصطلح حديث لغويا، لكن فكرته قديمة جدا ربما يشير الى اول بازار ظهر بين القبائل البدوية الرحل . يعبر هذا المصطلح عن النشاط الحضاري للانسان الحالي، الذي جعل العالم صغيرا بحجم القرية لسرعة ولكثرة وسائل التواصل بين البشرية من خلال الطفرة العلمية التي احدثتها تطبيقات التكنولوجيا الحديثة، في النصف الثاني من القرن العشرين لحد اليوم.
اذا العولمة هي الظاهرة التي جعلت اسواق العالم اكثر قربا عن طريق التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم تقليص الفترة الزمنية لسد احتياجات السوق للمنتوجات، ومراقبة التغيير الذي يحصل عليها، وخلق صراع لتقليل قيمة السلعة من خلال وجود ايادي العاملة الرخيصة، وتحسين المنتوج، واخيرا تنتقل الخبرة بين الامم والشعوب العالم كأنها هي قرية صغيرة.
لكن في نفس الوقت هناك مساويء جانبية كبيرة للعولمة، بدأ النقاد وعلماء الاجتماع ملاحظتها وهنا نقوم بذكر اهمها وكما يلي:
1- في زمن العلومة هناك خطر فقدان الثقة او المصداقية في المعرفة، بسبب كثرة مصادرها ادت الى امتزاح الحقيقة بالخرافة، هذا ما يمكن ملاحظته من التقارير الاعلامية (العلمية) المتضاربة حول تاثير فايروس “كورونا” على جهاز المناعة لدى الانسان وكيفية انتشاره؟ ومصدر صنعه؟ وكيفية معالجة او اخذ اللقاح؟ وما الهدف من صناعته، وعلاقاته بالشركات العالمية الكبرى وارباحها؟

2- في زمن العولمة هناك احتمالية كبيرة ان المجرمين يمكن ان يتفادوا العقوبة او يتمكنوا الانفلات من العقوبات التي يستحقونها بسبب النظام العالمي الضعيف غير المترابط بسبب القوانين الدولية الضعيفة، او تغير هويته و شكله عن طريق التجميل، او العيش في مناطق نائية وهناك امثلة كثيرة حصلت في التاريخ.

3- في زمن العولمة هناك زيادة مضطربة في التعصب القومي و الديني والخوف من المستقبل المجهول الذي تمر فيه الاثنيات او مجتمع الاقليات الضعيفة في الدول ذات الطابع الديني المتعصب مثل تركيا وايران ومعظم الدول العربية والاسلامية والهند والصين.

4- في زمن العولمة هناك تاثير كبير في القيم لا سيما عند الساكنين في المدن الكبيرة، فالمباديء والقيم الاجتماعية بين افراد العائلة او الزوج والزوجة بسبب طبيعة الحياة المزدحمة والمتأثر بالحالة الاقتصادية، حيث يتم استبدالها بقيم وقوانين مدنية مبنية على حرية الذات والانفلات من المسؤولية (مباديء الفلسفة الوجودية).

5- في زمن العولمة هناك شعور لدى رؤساء المؤسسات الكبيرة القديمة سواء كانت سياسية او اجتماعية او رياضية او فكرية بفقدان السيطرة على كيانها كمؤسسة، بسبب حصول انقسام وتصدع وصراعات داخلية بين اعضائها، بسبب ميل الفرد الى المصلحة الذاتية اكثر من التزامه بمبادئ مؤسسته، بكلمة اخرى انتشار “مباديء الفلسفة البراغماتية”.

6- في زمن العولمة ظهر مفهوم “التشيء” اي تشيء القيم وبالاخص قيمة حياة الانسان، حيث اصبح الانسان مجرد رقم او سلعة يتم تعييرها بالمقياس المادي.هذه الظاهرة قد تبدوغير ملحوظة كثيرا، لكنها بدات في المجتمعات المادية البحتة، وان الدليل على انتشارها هو بدا ضمور الشعور الوجداني من سلوك الانسان، فقدان العواطف والعلاقات الاجتماعية المتاثرة بها .

7- في زمن العلومة اصبح النظام الاقتصادي العالمي غير مستقر، بل يعيش الانسان في قلق متزايد من المستقبل المجهول، في اي لحظة يمكن ان تتهاوى اسواق العملات في البورصات، وتشهر الشركات الكبيرة افلاسها، او تعلن الدول الكبيرة دخول اقتصادها في الكساد ، الامر الذي يؤثر على الامكانية المادية للمواطين بسبب زيادة البطالة مثلا.

8- في زمن العلومة ظهرت وستظهر امراضا فتاكة اكثر من جائحة “كورونا” بسبب الثورة الصناعية والتلاعب الذي تمارسه شركات الادوية او الشركات المختصة في الابحاث الطبية على الجينات الوراثية للمنتوجات النباتية او الحيوانية او صناعة الاغذية او الادوية ، التي بلا شك لها تاثيرات على صحة الانسان، ان لم تظهر مباشرة، ستظهر بعد زمن طويل من استخدامها.

9- في زمن العولمة هناك مؤسسات اعلامية كبيرة لها القدرة على تشويه الحقيقة واستبدالها، فتقوم بغسل دماغ الشعوب او الطبقات الفقيرة، فيتم توجيه انظارها عن طريق زرع مفاهيم التعصب الديني او القومي او خلق صراعات جانبية يعيدة عن المشكلة الرئيسية التي تواجه تلك الدول او المجتمع .

10- اخيرا نرى في زمن العلومة ان الصراعات الدولية من اجل السيطرة على الموارد الطبيعية او الممرات المائية او السيادة على البحار، او سرقة حقوق براعة الاختراع، الامر التي يجعل من الانسان مكتوف الايادي امام مصيره، حينما يسمع تقارير الاخبارية حول لغة الحوار المتشنجة بين قادة الدول الكبيرة مثل امريكا والصين وروسيا والدول العربية واوروبا وتركيا، والوضع التي تعيشه دول مثل العراق، وسوريا، ولبنان، وايران وتركيا وغيرها، يشعر بخطر اندلاع الحرب العالمية الثالثة.

في الختام لم نتطرق على الايجابيات الكثيرة للعولمة التي لم تعد البشرية تستطيع التخلي عنها، لكن نرى ان النظام العالمي بحاجة الى تعاون دولي اكثر فاكثر وباخلاص وبامانة، كي تبقى مسيرة العولمة تحت الرقابة العلمية، كي لا يتسرب اليها الفساد عن طريق اصحاب النفوس الضعيفة، فتنتشر ظاهرة الخداع والتزوير والسرقة، او تشيء حياة الانسان في النهاية.

في هذا العصر كثير من النخب الثقافية والمجتمعات المدنية الملحدة استسلمت الى الماكنة الاعلامية التي تسحبها العولمة، فتخلت عن القيم الروحية المتسامية التي حافظت على الروح الانسانية لحد الان والتي تعلمها المسؤولية الاخلاقية اتجاه الاخرين في مجتمعاتها، وتخلت عن التقاليد الايجابية خاصة “التقاليد العائلية”، وتخلت عن التراث واللغة التي تربط الاجيال الحاضرة بماضيها وهويتها.

املنا ان تبقى مسيرة العولمة سالمة ومستمرة في خدمة البشرية بصورة شمولية وان ترفع الكنيسة صوتها دائما ضد اي انحراف او خطر يعيق هذا التقدم، الذي يجب ان يكون هدفه الاسامي والدائمي هو تحقيق العدالة والمساواة بين البشر وتقديس حياة الانسان فوق كل الاعتبارات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here