جريمة الانتفاع من أعمال الوظيفة العامة التي يرتكبها الموظف العام

جريمة الانتفاع من أعمال الوظيفة العامة التي يرتكبها الموظف العام
د. ماجد احمد الزاملي
أدى تطور الدولة وإتساع نطاق نشاطاتها إلى التفكير ملياً بإيجاد وسائل من شأنها المساهمة في إبراز ذلك النشاط والذي تهدف من ورائه لتقديم خدماتها للافراد, وإستكمالاً لما بدأت به الدولة من اللجوء لمثل تلك الوسائل وجد من الضرورة تنظيم التشريعات المُتَّبَعة في ظِلها للحفاظ على المصالح والاموال العامة والخاصة. إن موضوع الوظيفة العمومية مرتبط بإختيارات سياسية وإيديولوجية للدولة. فتغيير هذه الاختيارات السياسية يؤثر على قطاع الوظيفة العمومية بما في ذلك النظام التأديبي بالإضافة إلى كل ما سبق ساهم في هذا التغير مصادقة أغلب إن لم نقل جميع الدول على معظم المواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان ؛كالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى إتفاقيات أخرى جهوية ، كل هذه المواثيق والاتفاقيات كانت مهمة نظراً للمسؤولية الدولية المترتبة عن الإخلال بها.
تُعد جريمة الإضرار بسوء نية بالأموال والمصالح من الجرائم ذات الضرر أي تلك التي يشترط لوقوعها حصول ضرر فعلي أو أن يتسبب الموظف أو المُكلف بخدمة عامة في ذلك الضرر من جراء فعله في أن يُصيب الجهة التي يعمل بها ضرراً, والذي يهدف من وراءه الحصول على منفعة لنفسه أو لغيره(1), فالموظف أو المكلف بخدمة عامة يكون متسبباً بالاضرار إذا لم يكن قد دقق في الكشف على المواد التي إشتراها, أو عند إستلامها مما ترتب عليه حصول ضرر للجهة التي يعمل بها فهي من جرائم الخطر وليس من مستلزماتها أن يترتب ضرراً على المصلحة العامة. فجريمة الاستفادة مبنية علي جريمة الإختلاس فلا بد من وجود قبول بالإخلال بالوظيفة من جانب الموظف أي توافر أركان جريمة الإضرار لكي يتم محاسبة المستفيد عن تلك الاستفادة ويلاحظ أيضاً أن المشرع لم يُفرِّق بين الموظف العام والموظف الخاص فقد ساوى المُشَرِّع في تلك الجريمة بينهما لمعاقبة المستفيد ويُشترط توافر الجريمة بركنيها المادي والمعنوي.
وإذا تَفشَّت جريمة الإنتفاع في مجتمع من المجتمعات فلا شك أنه مجتمع فاسد محكوم عليه بالعواقب الوخيمة، وبالهلاك المحقق، لقد تحَمَّل الإنسان الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها، والواجب على هذا الإنسان أن يؤدي الأمانة على الوجه الأكمل المطلوب منه لينال بذلك رضا الله تعالى ورضا الضمير ألإنساني ، أما إذا ضاعت الأمانة ففي ذلك فساد للمجتمع وإختلال نظامه. فالاتجار بالوظيفة يفترض مقابلاً نظير العمل، وإنصراف إرادة الموظف إلى تلقي هذا المقابل. أما جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة فتفترض تخلف المقابل إطلاقاً, كما تتطلب أيضا قيام الموظف فعلاً بالعمل أو صدور الامتناع أو الإخلال بواجبات وظيفته.
إنَّ جريمة الانتفاع من أعمال الوظيفة العامة التي يرتكبها الموظف أو المُكلَّف بخدمة عامة، ومما لاشكّ فيه، أن هذا الموضوع يُعتبر من القضايا الهامة والجديرة بالبحث والمعالجة القانونية، وذلك نظراً لإنتشار الفساد الإداري والمالي في دوائر الدولة بشكل واسع في عصرنا الحالي، يرجع السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة السيئة المُضِرَّة إلى وجود ثغرات تشريعية، سياسية، إدارية واقتصادية أيضاً، حيث أصبحت هذه الظاهرة الإجرامية سلوكاً معتاداً بين كثير من الموظفين والمكلفين بخدمة عامة رغم تعارضها مع الدستور والتشريعات العقابية النافذة.
وتتم هذه الجريمة حين يستغل الشخص أعمال وظيفته للحصول على منفعة أو عُمولة لنفسه أو لغيره بدون وجه حق. وجريمة الانتفاع تُعد من الجرائم الخطيرة على المال العام والنزاهة أو الأمانة التي يجب أن تتسم بها الوظيفة العامة ، لأنها تؤدي إلى زعزعة الثقة والإستقرار لدى المواطنين والإضرار بالمصلحة العامة. وعلى هذا الأساس لقد جرَّمَ المُشرِّع العراقي سلوك الانتفاع من اعمال الوظيفة العامة بموجب نصوص قانون العقوبات رقم 111 لسنة1969. ان الجريمة تتحقق بأي نشاط من الموظف او المكلف بخدمة عامة من خلال اسهامه في الاشغال او المقاولات او التعهدات و يحصل على منفعة او عمولة له او لغيره ، و قد يحصل على فائدة بطريق مباشر كاشتراكه مع المقاول في شراء مواد البناء او بطريق غير مباشر او بوساطة شخص اخر كأن يُكلِّف الموظف شخص آخر للحصول له على مبلغ من المال و ينبغي ان تكون الفائدة غير مشروعة، و لا يشترط وقوع الضرر فيها بل يكفي احتمال الضرر , وهذه الجريمة تقع بطريق ايجابي كما يمكن ان تقع بطريق سلبي كما لو دخل الموظف في عملية تجارية تحت اسم مستعار ثم كُلِّف بالاشراف عليها و ادارتها و لكنه يرفض التنحي ، كما يتصور الشروع فيها كما لو اتفق مع المقاول و قُبِضَ علية قبل قيامه بشراء المواد و الانتفاع منها.
وإساءة استعمال الوظيفة عندما يبتغي الموظف بممارسة اختصاصه تحقيق غاية تختلف عن تلك التي حددها القانون للإعمال الداخلة في هذا الاختصاص مما يؤدي إلى إهدار المال العام و ترهل الجهاز الإداري و تضخمه وضعف الأداء العام، إما الإخلال الجسيم بواجبات الوظيفة و تتسم هذه الصورة من حيث طبيعتها بأنها ذات نطاق واسع بحيث تكاد تشمل جميع صور السلوك الإجرامي المنصوص عليها في المادة (341 ) من قانون العقوبات العراقي ويحب على الموظف ان ينأى بنفسه عن مواطن الشكوك في وظيفته و حمايته مما يثور حوله من شبهات استغلال الوظيفة صوناً لسمعته و سمعة الوظيفة العامة ذاتها كما يجب ان يسلك في تصرفاته مسلكاً يتفق والاحترام الواجب وهذا الالتزام يفرض عليه الابتعاد عن مواطن الفساد و الرذيلة و كل ما يبعث على الشك و الريبة و يشترط لتطبيق احكام المادة (341 ) من قانون العقوبات العراقي ان يصيب الضرر مادة أو مصلحة مالية لجهة من الجهات المحددة قانوناً إذ قد يتسبب الإهمال الجسيم لأحد المنتسبين في تعطيل إحدى الآلات أو حدوث انفجار في المعمل مما يؤدي إلى إضرار جسيمة كما يُعد من قبيل الإضرار بمصلحة الجهة التي يتصل بها بحكم وظيفته ان يتسبب في تلف أو فقدان أو سرقة أوراق مهمة لهذة الجهة أو إفشاء إسرار المناقصة لأحد المتقدمين للعطاءات أو عدم تحصيل الضرائب. ولا تقتصر إساءة إستعمال الوظيفة على استيلاء بعض الأفراد على الأموال العامة وتهريبها فحسب، بل يمتد الى ما هو أخطر من ذلك ليصبح غطاءً لممارسات اجرامية كالاتجار غير المشروع فى المخدرات، والاتجار بالبشر وتدمير أجيال الشباب والاسهام فى هدم القيم الموروثة والاخلاق الفاضلة لدى المجتمعات.
أن المادة 104 من قانون العقوبات المصري والتي تنص على كل شخص طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لاستعمال نفوذ حقيقي أو مزعوم للحصول أو لمحاولة الحصول من أية سلطة عامة على أعمال أو أوامر أو أحكام أو قرارات أو نياشين أو التزام أو ترخيص أو اتفاق توريد أو مقاولة أو على وظيفة أو خدمة أو أية مزية من أي نوع يُعد فى حكم المرتشى ويُعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط فى الأحوال الأخرى، ويعتبر فى حكم السلطة العامة كل جهة خاضعة لإشرافها. وتكمن الحكمة من تقرير القواعد القانونية بشكل عام، والقواعد الإجرائية على وجه الخصوص في استقرار المعاملات والمراكز القانونية. وهذه الأخيرة لها أهميتها في الدولة بما تعنيه من طمأنينة تنتشر في نفوس الأفراد على صحة ما بدر منهم من نشاط. وفي ذات السياق فإن القواعد الإجرائية بما تقرره في ممارسة الحق بتقديم البلاغ في شكل معين لتحقيق الهدف الأساسي وهو إستقرار المعاملات وضمان عدم إغراق الهيئة ببلاغات غير ذات أهمية. فمن خلال ذلك يلتزم كل من كان لديه وجه للبلاغ بضرورة تقديم أي منهما في شكل محدد وواضح، وإلاّ قامت القرينة القانونية على صحة العمل المُبَلَّغ عنه. ولا شك في أن هذه القرينة يمكن دحضها بشكل أو بآخر وفقا لمواعيد أخرى أمام جهات أخرى.
وقد أخذ المشرع العراقي بمفهوم واسع للموظف العام في نطاق جرائم الباب الرابع فهو لم يقتصر على مدلوله فى القانون الإدارى ولا على مدلوله فى جرائم الرشوة ,فى المادة 111 عقوبات وإنما أخذ بمفهوم أكثر اتساعاً فى المادة 119 مكرراً فنصت على أنه يقصد بالموظف العام فى حكم هذا الباب:
أ- القائمون بأعباء السلطة العامة والعاملون فى الدولة ووحدات الإدارة المحلية.
ب- رؤساء وأعضاء المجالس والوحدات والتنظيمات الشعبية وغيرها ممن لهم صفة نيابية عامة سواءً كانوا منتخبين أو معينين.
ج- أفراد القوات المسلحة.
د- كل من فوَضته إحدى السلطات العامة فى القيام بعمل معين وذلك فى حدود العمل المفوض فيه.
هـ- رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة والمديرون وسائر العاملين فى الجهات التى إعتبرت أموالها أموالاً عامة.
و- كل من يقوم بأداء عمل يتصل بالخدمة العامة بناءً على تكليف صادر إليه بمقتضى القوانين أو من موظف عام فى حكم الفقرات السابقة متى كان يملك هذا التكليف بمقتضى القوانين أو النظم المقررة وذلك بالنسبة للعمل الذى يتم التكليف به.
ولعل الإضافة هنا قد اقتصرت على الفقرة ( هـ ) وهم رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة والمديرون وسائر العاملين فى الهيئات التى اعتبرت أموالها أموالاً عامة وفقاً لمفهوم المال العام الذى حددته المادة 119 عقوبات عراقي . إنَّ مصطلح الانتفاع الذي جاء به المشرع العراقي في جريمة ألإنتفاع من أعمال الوظيفة العامة نجده أوسعاً وأكثر شمولاً من لفظ التربح والذي تبناه كل من المشرعين المصري والكويتي إذ أنه يشمل الانتفاع المادي وكذلك المعنوي بينما لفظ الترَّبح لايمكن أن ينصرف سوى إلى أوجه الانتفاع المادي وهذه الكلمة غالباً ما تدخل في ميدان الاعمال التجارية, وعلى أساس ذلك فإن الانتفاع أوسع دلالة من التربح أما عند مقارنة تسمية الجريمة التي أوردها المشرع العراقي بتلك التي أوردها المشرع الفرنسي إذ لم يحدد ألأخير نوع الفائدة التي يتلقاها الموظف أو المكلف بخدمة عامة والتي تقوم بها الجريمة لكن الفقه والقضاء الفرنسي قد فسرا ذلك بأن المراد من تلك الفائدة هي الفائدة بالمعنى الواسع لها أي سواءً كانت ذات طبيعة مادية او معنوية و في ضوء ما ذكر من تعريفات مختلفة لهذه الجريمة, نؤيد بدورنا التعريفات التي صاغها الفقه الجنائي والتي أسس لها بناء على المصطلح الذي ذكره المشرع العراقي ألا وهو _الانتفاع_, وعلى ذلك فإن صياغة تعريف محدد لهذه الجريمة يجب أن ينطلق من جانبين هما مراعاة التطورات التشريعية وأحكام القضاء الجنائي مع تسليط الضوء على توجه الفقه الجنائي في تعريفه. ولم تتطرق التشريعات إلى تعريف محدد لهذه الجريمة وهو إتجاه نتفق معه ولم يبادر القضاء كعادته لوضع معنى محدداً لها وصولاً إلى تعريفات الفقه الجنائي والتي تبيانت بحسب إتباع كل فقيه ما لتشريع معين , ونؤيد المعنى الذي تبناه المشرع العراقي كونه يتوزع الى الانتفاع المادي واخر معنوي مع تكامل التعريف مع النص التشريعي المُجرِّم لفعل الموظف أو المكلف بخدمة عامة وعليه فإن جريمة الإنتفاع (هي كل فعل يقوم به المكلف بخدمة عامة بنفسه أو بالواسطة من الانتفاع من الاعمال المختص بادارتها او الاشراف عليها انتفاعاً من شأنه أن يخل بالثقة الممنوحة له ويؤثر على نزاهة وشفافية اجراءات التعاقدات العامة).
وقد أولت التشريعات الجزائية إهتماماً بالغاً بتجريم فعل الاعتداء على عقود المقاولات أو الاشغال و التعهدات لكن ذلك الاهتمام رافقه إختلافاً واضحاً في التنظيم التشريعي للجريمة بين الدول محل الدراسة المقارنة ففيما أبقت بعض الدول هذه الجريمة في قانون العقوبات كالعراق ومصر وفرنسا فضلت دولٌ أخرى المبادرة إلى إفراد تشريعات خاصة ضمت جريمة ألإنتفاع ومنها المشرع الكويتي إذ تمثل ذلك الموقف بإصدار قانون الاموال العامة, وقد حمَّل ذلك التنظيم في طياته تعدداً في تسميات الجريمة وإصطلاحاتها الدالة عليها حيث نجد أن المشرع العراقي تسايره بذلك بعض التشريعات أطلقت عليها تسمية جريمة “الانتفاع من المقاولات أو الاشغال أو التعهدات” , في حين إتجهت تشريعات أخرى كمصر والكويت “إلى تسميتها “بجريمة التربُّح” , أما المشرع الفرنسي فقد كان له موقفاً متميزاً وذلك بتسميتها بجريمة “أخذ فوائد غير قانونية” , أما إتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة ٢٠٠٣ والتي أطلقت عليها “جريمة إساءة استغلال الوظائف”. التشريع الكويتي فقد أعطى القاضي صلاحية جوازية في مسألة تخفيف العقوبة وذلك لقوله (… ومع ذلك يجوز للمحكمة في الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون وفقا لما تراه من ظروف الجريمة وملابساتها إذا كان موضوعها أو الضرر الناجم عنها يسيرا أو تقضي فيها بدلاً من العقوبات المقررة لها بعقوبة الحبس(مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على ثلاثة آلاف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين وقد أفصحت المذكرة الايضاحية لقانون الاموال العامة عن السبب في إدراج مثل هذا النص بنصها على أنه (… ومراعاة لظروف القضايا التي يكون موضوع المال فيها قليل القيمة فقد أجيز لمحكمة الجنايات التي تنظر الدعوى إذا وجدت من تفاهة المال أو الضرر الناجم عن الجريمة ما يدعو إلى الإمساك عن تطبيق عقوبات الجناية أن تستبدل بها عقوبة الجنحة ولها في ذلك أن تقضي بالغرامة بدلاً من الحبس …). أما الظرف المخفف الوارد بالمادة(٨١ )من قانون الجزاء الكويتي(2). فقد قَيَّدت المادة(٢٠)تطبيقه إلا إذا (…بادر الجاني برد الأموال موضوع الجريمة كاملة قبل إقفال باب المرافعة في الحالات التي يجب فيها الرد…), أما المشرع الفرنسي فلم يُضَمِّن النص الذي يتناول الجريمة ظرفاً مخففاً وبذلك فهو يتفق مع المشرع العراقي في هذا الشأن(3) .
———————————–
-د.فتوح عبد االله الشاذلي , المسؤولية الجنائية , دار المطبوعات الجامعية , الاسكندرية , ٢٠٠١ .1-
-لطيف شيخ محمود البرزنجي , الجرائم المخلة بالثقة والمصلحة العامة , المكتبة القانونية , بغداد 2015 2-
3-د.ماهر صالح علاوي الجبوري , الوسيط في القانون الاداري , دار ابن الاثير للطباعة والنشر , جامعة الموصل , الموصل, ٢٠٠٩

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here