تحالف المصالح المذهبية المشتركة

تحالف المصالح المذهبية المشتركة
د. علي المؤمن
في مقالي عن حقيقة التشيع العلوي والتشيع الصفوي؛ اتهمني كثيرون بأني أسوغ للدولة الصفوية بعض سلوكياتها الظالمة والمنحرفة. وهذا الفهم غير صحيح إطلاقاً؛ فالدولة الصفوية في نظامها السياسي، هي كغيرها من الدول السلطانية الوراثية، وملوكها، هم كغيرهم من الملوك الوراثيين والمستبدين، ولست في وارد الدفاع عن سلوكياتهم إطلاقاً، لا هنا ولا في مقالاتي السابقة.
لكن؛ ما كنت أريد قوله، هو أن الدولة الصفوية في وقتها كانت أمراً واقعاً، ولم يؤسسها الفقهاء الشيعة؛ بل كانوا يتعاملون معها على أساس ما تحققه للشيعة من مصالح مصيرية وجودية، وحماية كاملة لمجتمعاتهم وعقيدتهم وشعائرهم، بصرف النظر عن نواياها وغاياتها في هذا المجال؛ لأن علم النوايا من اختصاص رب العالمين.
ومن العبث واللاعقلانية أن تسأل من يحميك من سيف يريد ذبحك ورصاصة تريد قتلك عن نواياه، أو تسأل من يمنع سارقاً من السطو على بيتك عن نواياه، وتسأل من يريد تحريرك من السجن عن نواياه، خاصة إذا كان هذا الشخص يشترك معك في العقيدة والشريعة والشعائر والطقوس والرمزيات والمظلومية والتاريخ والثقافة المجتمعية الدينية، وإن كان بعض سلوكيات هذا الشخص خاطئاً؛ فالأخطاء هي سمة السلطة دائماً، عدا الحاكم المعصوم.
ولذلك؛ أعتقد بأن سلوك الدولة الصفوية في حماية الشيعة ونشر مذهب أهل البيت، سواء كان يتم بدافع سياسي مصلحي، أو بدافع الصراع السلطوي مع العثمانيين الطائفيين، أو بدافع ديني، أو خليط من الثلاثة؛ فإن سلوكها، في النتيجة، كان ينتهي لمصلحة الشيعة، وخاصة الشيعة العرب، ويحافظ على كيانهم وأرواحهم ومعتقداتهم وشعائرهم من حملات الاجتثاث المستمرة، وهو السلوك الذي كان ممضياً من فقهاء الشيعة في ايران والعراق ولبنان، أي يحظى بقبولهم وتشجيعهم.
وبما أن الشيعي غير الإيراني كان يستشعر تلاقي المصالح مع الدولة الصفوية؛ بل تطابقها غالباً؛ فلم يكن يعنيه البحث والتنقيب عن دوافع الدولة التي تدعمه وتحميه وتدفع عنه الأذى، وتستنهضه من أجل تحقيق أهدافه الدينية والدنيوية؛ لأن ما يجمع الطرفين هي المصلحة المذهبية الإنسانية المشتركة العليا، والتي ظلت تتعرض للمخاطر من الآخر الطائفي أو المستعمر على مر الزمن.
وبالتالي؛ كان من البديهي والطبيعي والعقلاني أن يتحالف شيعة العراق ولبنان والشام وآذربيجان والقوقاز والهند وأفغانستان والبحرين والحجاز مع الدولة الإيرانية الصفوية، في مواجهة التحالفات والتخندقات الطائفية التي تقودها الدولة التركية العثمانية ومعها السنة العرب قاطبة. وهنا يطرح السؤال نفسه تلقائياً: لماذا كان مسموحاً للسنة العرب الولاء المطلق للسلطان العثماني التركي والخضوع لحكمه وتقبيل أعتابه، ولايسمح للشيعي التحالف مع الدولة الإيرانية الصفوية والاحتماء بها من ماكنة الذبح والتشريد والاجتثاث؟!.
ولمن لم يقرأ التاريخ نقول؛ بأن الدولة العثمانية تأسست قبل الدولة الصفوية بعدة قرون، وأن سياساتها التوسعية الاستعمارية واحتلالها البلدان العربية، وقمعها الطائفي للشيعة وعدائها لمذهب آل البيت، سبق تأسيس الدولة الصفوية بقرون، أي أن سياسات العثمانيين المعادية للشيعة لاعلاقة لها بالصفويين إطلاقاً؛ بل ولاعلاقة للسياسات القمعية للدول والحكومات الطائفية، التي سبقت العثمانيين أو أعقبتهم؛ بوجود أو عدم وجود دولة شيعية أو حراك شيعي أو عدم وجوده؛ بل أن قمع الشيعة هو جزء من التقاليد والأعراف الثابتة للدول الطائفية، على مر القرون، بسبب أو بدونه.
ولذلك؛ واهمٌ تماماً، من يعتقد بأن سبب اضطهاد العثمانيين للشيعة هو وجود الدولة الصفوية ومطامع الصفويين، وأن المشكلة الطائفية ضد الشيعة سببها الصراع العثماني الصفوي، وهذا الواهم لايعلم شيئاً عن حقائق التاريخ. أما الذي يعلم بالحقائق ويخفيها ويتحدث بما يخالفها؛ فإنه يريد استغفال الناس والضحك على عقولهم، والتغطية على جرائم الدولة العثمانية والأنظمة الطائفية ومجازرها ضد الشيعة، ويحول دون حصول أي تحالف شيعي – شيعي، أو احتماء شيعي بالدولة الشيعية الوحيدة.
وإذا قبلنا جدلاً بمعادلة الصراع العثماني الصفوي؛ فلماذا لم يوقف العثمانيون قمعهم واضطهادهم للشيعة بعد سقوط الدولة الصفوية؟!؛ إذ أن الحكم الصفوي اندثر في العام 1722؛ بينما سقطت الدولة العثمانية في العام 1924، أي بعدها بثلاثة قرون. والحال؛ إن مجازر العثمانيين ضد الشيعة العرب استمرت بأبشع ما يمكن تصوره، وكان آخرها مجزرة مدينة الحلة العراقية في العام 1915، حين استباحوها ثلاثة أيام، وقتلوا الرجال واغتصبوا النساء وهدموا البيوت وأحرقوا الأسواق؛ فهل كانت هناك دولة صفوية أو صراع مع الفرس أو أطماع إيرانية؟!
وبناءً على وعي الشيعة غير الإيرانيين بحقائق الصراع وأهمية التحالف مع الدولة الصفوية والاحتماء بها؛ فإن التاريخ لم يسجل حينها أي موقف سلبي من علماء الدين والنخب والشعوب الشيعية غير الإيرانية ضد الدولة الصفوية. أما المواقف السلبية لبعض من يسمون أنفسهم المستنيرين الليبراليين والعلمانيين والقوميين الشيعة؛ فقد ظهرت في القرن العشرين فقط، وهي متأثرة بالدعاية الطائفية العثمانية والدعاية الطائفية القومية من جهة، وهو ما حصل في العراق، حين ظهرت بعض الأقلام المتأثرة بأفكار ساطع الحصري الطائفية والسلوك العارفي وسياسات حزب البعث. كما ظهرت في إيران أيضاً متأثرة بالمدارس الاستشراقية والفكرية والأكاديمية الغربية، وكان أبرز رموزها أحمد كسروي وعلي أكبر حلمي زادة وعلي شريعتي.
بيد أن الحملة الدعائية ضد الدولة الصفوية تزايدت بعد العام 1979، وراحت تعمل على تكريس مصطلحات التشيع العربي والتشيع العلوي والتشيع العراقي والتشيع الفارسي والتشيع الصفوي، وهي حملة شرسة ومكثفة، تنطوي على أهداف طائفية سياسية عميقة متجددة، وهي لاتستهدف الدولة الصفوية بتاتاً؛ بل تستهدف النهضة الشيعية الجديدة وعصرها وقيامتها، عبر تشبيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالدولة الصفوية، وتشيعها بالتشيع الصفوي أو الفارسي، وهي إعادة لنفس سيناريو العثمانيين وأتباعهم الطائفيين، والذي يهدف الى تمزيق الواقع الشيعي ونسيجه وعالميته، ورفع الحماية والغطاء عنه، وإعادة الشيعة الى مرحلة ما قبل العام 1979؛ حین کان الشيعي في كل البلدان يعيش مرحلة انعدام الوزن، والقمع والقهر والتشريد والقتل والتهميش والاقصاء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here