الكتلة التاريخية: الإتحاد الإشتراكي، الإسلاميون وَ الحُكم ؟!

بقلم عبد المجيد موميروس
” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَ كَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” سورة الأنعام- الآية 159.
قبلَ صرفِ المَعاني السياسية الواردة بين تَراكِيبِ المَقالة المُسْتَرْسَلَة، أستَفْتِحُ تَسْطيرَ المَكتوبِ منْ دَلالاَت التّأَمُّلِ الرّزين، في فَرضيات مُلاَمَسة الجَوابِ الكَمين. عمَّا هو موقف محمد عابد الجابري من ركوب مَشْيَخَات التديُّن السياسوي  الحَاكِمي، على أطروحته السياسية اليسارية المتعلقة بشكل و موضوع و هوية الكتلة التاريخية؟!.
فَبِمَا أن المُجتهد المرحوم بإذن ربّه، قد إنتقل إلى الرفيق الأعلى. قد لن يتيَسَّر لنا إستِقراءُ الجواب المتين، عَدَا بكشفِ الغطاءِ عن الصيغة الأخيرة التي اعتمدها المفكر الراحل محمد عابد الجابري لتِبيَانِ غاياتِه وَ تَبْيِينِ أهدافه المنشودة من تشكيل تحالف الكتلة التاريخية. حيث أنه في مقالة عربية مُميزة، إختار لها العنوان التالي: ” الكتلة التاريخية و أَوْلَوِية الثقافي”. فقد أَصَرَّ الفقيد على أن الغاية الفضلى للكتلة المعلومة، تتجَسد في بلوغ المجتمع مرحلة تفتقد فيه التصنيفات القديمة أهَمّيَتها و مُبرِّرَها. ممّا يسمح بظهور تيارات ثقافية و إيديولوجية جديدة تخرج من جوف الكتلة ككل لِتَحُلَّ مَحَلَّهَا.
و استنادا على ما سبق، تتضح لِمن يَهُمُّهُم الأَمْرُ، ماهيّةُ الكتلة التاريخية التي أرادَها الفيلسوف الراحل وسيلةً مَدَنِيَّةً كَفيلَةً بتَيْسير إيناعِ قِوى مجتمعية جديدة. إذ أنها ليست غاية في حد ذاتها. بل القَصدُ المُرادُ عند الوعي بكُنْهِ مفهوم الكتلة التاريخية، قد يتَحدّد بالفسح في المجال السياسي أمام إبراز قوى ثقافية وطنية جديدة شابة قادرة على إحقاق التجاوز الثقافي لإكراهات الحاضر( التَّأَخُّر) و تحديات المستقبل (التقدم). و لعله ذا – بِقُطْرِهِ- ثُقْبُ المَستور منْ فَذْلَكَاتِ الإخوان المُتَيَاسِرين الجُدد، أولئكَ المُتَعَلِّقونَ بٍأهداب مشيَخات التَّديُّن السياسوي الحَاكمي، عند تَجَنِّيهِم بسؤال الحاجة إلى الكتلة التاريخية.
هكذا – إذن- .. لَو بُعِثَ فقيدنا الجابري الآنَ حَيًّا، لَتَمَنْطُقُ بِعَقل البَيان و البُرهانِ و العِرفانِ. وَ لَجَاءَهُم طَائِفُ الفيلسوفِ مُتَأَبِّطًا مَدخَلَهُ الرّحْبَ إلى دراسة القرآن. ثمَّ لمَا رَخَّصَ لِمَشْيَخاتِ التديُّن السياسوي الحاكمي، بالركوب المُبْتَذَل على أطروحة الكتلة التاريخية في نسختها المُعَرَّبة المُقْتَبَسَة من النظرية الغَرامْشيّة. فهو – إذن- محمد عابد الجابري الذي صاغَ فِكرتها المُعَدَّلة في سياق ذي بعد زمني مُحدد من القرن الماضي. ثم كانَ وَ قامَ المفكر الراحل بإعادة تنقيحِها لاحقا من بعض التأويلات المُشَوَّهَة، بعد أن إستفاض في شَرحِه التثقيفي لأولئك الإخوان المُتَيَاسِرين المولُوعين بتَلْفيقاتِ الكُتلة المُفَوَّتَة. حتّى بَيَّنَ -لنَا و لهُم- مدى الأهداف الثقافية الإصلاحية لِكُتْلَتِه التاريخية، التي أرادها الفقيد أن تكون أهدافًا وطنية  للمجتمع ككل. و ذلك عن طريق تحقيق ” الإجماع الثقافي ” حولها، هذا “الإجماع” الذي يشكل لحام هذه الكتلة. و لعله الركن الأساسي المفقود داخل البُنَى المُرَكَّبة داخل العقل الجمعي لمَشْيَخَات التديُّن السياسوي الحَاكمي.
إذ أَنّ الفقيد محمد عابد الجابري، قد لخَّص أهداف الكتلة التاريخية في التنمية الشاملة و الديمقراطية و الاستقلال الثقافي. هَا نحنُ -أيضا- نعتمدها عناصر حُجَّتِنَا عند دَحضِ أراجيفِ كتلة الإخوانِ المُتَيَاسِرينَ. أُولئِكَ الذين تناسوا أن التأصيل الثقافي لمفهوم الكتلة التاريخية، يفرض على التنظيمات المُؤَدلجة لِنِعمة الإسلام، واجبَ التّحرر من شَرنَقة الحَاكِمِيَّة المُؤًدلًجة المُتَرهِّلَة. بعد أن سَجنَت فيها وَعْيَها و رشدَها، دون أن  تتمكن من الارتباطِ ارتباطًا جديدًا حيًّا و فاعلاً، بأولويات المجتمع. و دون أن تقبل قيم الديمقراطية التشاركية من أجل بعث الحركة فيه من جديد،  مثلما أكّد على ذلك المرحوم محمد عابد الجابري.
و على درب التِّبْيانِ و التَّبْيِين.. هَا..أَنا..ذَا أَغوصُ في محيطِ التَّنقيبِ عن تَمَثُّلات “الإجماع الثقافي”، الذي يمكن تحقيقهُ مع هذه التنظيمات المؤدلجة للإسلام (جماعة الخرافة الياسينية و أُشَابَةُ التوحيد و الإصلاح كنموذجين). أَو هكذا وفق صيغة مُحَيَّنَة: ما هي هذه الفائدة الوطنية الديمقراطية المَجْنِيَّة من زَقُوم ” الكُتلة الدَّائِخِيَّة” مع أحزاب التدين السياسوي الحاكمي؟!. فَمِنها الفَاشِلةُ السَّاقطةُ المَدحورَة بِهَوانٍ بعدَ أنْ ضُرِبَت عليها الذِّلَّةُ و المَسْكَنَةُ في استحقاقات الثامن من شتنبر الجاري من سنة 2021. فعَساهُ يَكْفِيكُم  القصور الذاتي لِسَدَنَة “البِدعَة المطْفِيّة” التي عَطَّلَت مسار التجربة الديمقراطية الدستورية بالمملكة الشريفة. بل كانت عُقْدَةِ التَّمكين لدى الإخوان السّاقِطين، مصدرَ الرغبة الجامِحة في التَّحَكُّم بقرار رئاسة الحكومة المغربية، دون أن يستطيعوا  إنجاز أجندة الإصلاح الديمقراطي التنموي طيلة عشريتهم الحكومية السوداء ؟!.
فَيَا قَوْمِي .. كيف السبيلُ إلى تأمين ” الاستقلال الثقافي”، و نحن في مواجهة مَرجعياتٍ بَالِيَّة مُسْتَلَبَةُ العقلِ و الإرادة و المنطق؟!، مَرجِعيات خَاوِيّة مُتَقَادِمة. قد تم نَقْلُها من خارج تراثنا الثقافي الوطني المغربي، و لهَا تَبَعيّةٌ مشبوهة لوَاسِطَةِ المَشْيَخاتِ الأمَمِيَّة. و ذلك سواء تعلق الأمر بمَقاصدِها النظرية القاصِرة الدَّخيلة، أو فيما يَخُص مواقفها من الهوية الوطنية، و  من المواطنة الدستورية، و من الديمقراطية، و من التقدمية، و من حقوق الإنسان بصفة عامة ، و حقوق المرأة بصفة خاصة. بِمَا أن تأمين “الإستقلال الثقافي” يقتضي مواجهة “الاختراق الثقافي”. مِمّا لاَ يتطلب مواجهة الآخر فحسب، بل أيضا مواجهة الأَنَا -أَنانِياتِها و أَوْهامِهَا – كما أكد على ذلك الفقيد المفكر ناقد العقل العربي.
و كما أن المناسبة شرط، فَعِنَد طيب الخَتْمِ لا محيد عن التَمَعَّن العميق الدقيقِ، في عقلانية الدُّرر العشر المُستًقاة ممّا جَادَت به مَلَكَةُ المَعرِفَة عند وصايا الفقيد محمد عابد الجابري. كيْ نستطيع تطوير برمجيات تُراثه الفَلسَفي التّقَدّمي، الذي أفنى من أجله سنين عمره المعطاءة. و حتّى نتمكن كذلك من رفعِ إجتهاداتِه الفَذَّةِ، هكذا سَامِيَّةً رَاقِيَّةً هَا هُنَالِكَ، بعيدًا عن جُرم المَسْخ الأيديولوجي لفكرة ” الكتلة التاريخية” من طرف الإخوان المُتَياسرين جِدًّا.
الوصية الأولى:  
إنّ الخروج من “عنق الزجاجة” كثيرا ما يبدو مَرهونًا باللجوء إلى وسائل أخرى لِكَسر عنق الزجاجة ذاك. غير أنه غالبًا ما يحصل هذا، دون استحضار إمكانية الدخول في عنق زجاجة أخرى!.
الوصية الثانية:
الحداثة تبدأ باحتواء التراث و امتلاكه، لأن ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من ” القطائع” معه إلى تحقيق تجاوز عميق له، إلى تراث جديد نصنعُه.
الوصية الثالثة:
إذا كانت هناك ضرورات عامة خالدة كتلك التي أحصاهَا فقهاؤنا بالأمس. فإن لكل عصر ضَرُورِيَّاته و حاجِيّاته و تَحْسينِيَّاتُه. و هكذا؛ فعندما ننجح في جعل ضَروريات عصرنا جزءا من مقاصد شَريعتنا، فإننا سنكون قد عَملنا ليس فقط على فتح باب الاجتهاد في وقائع عصرنا المتجددة المتطورة، بل سنكون -أيضا- قد بدأنا العمل في تأصيل أصول شريعتنا نفسها بصورة تضمن لها الاستجابة الحية لكل ما يحصل من تغيير أو يطرأ من جديد.
الوصية الرابعة:
ضرورة اعتبار مقاصد الشرع. و هذا ما ركز عليه ابن رشد بصفة خاصة في كتابه ” الكشفُ عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة”. فجاء الشاطبي و نقل تطبيق هذه الخطوة من مجال العقيدة إلى مجال الشريعة، حيث دعا إلى ضرورة بناء أصول الفقه على مقاصد الشرع، بدل بنائها على “استثمار الألفاظ”. كما دأب على العمل بذلك علماء الأصول انطلاقا من الشافعي. و بذلك يكون الشاطبي قد خرجَ عن سمت المُؤلفين في الأصول منذ الشافعي لِيَشُق سبيلاً أخرى مختلفة تمامًا.
و بما أنّ الأُصُوليِّين قد اعتمدوا منذ الشافعي على الاستنباط (استنباط المعنى من النص الديني)، و القياس (قياسُ ما ليسَ فيه نص على ما فيه نص). و بما أن القياس الفقهي إنما يقوم في أقوى أنواعه على “العلة” التي يظن الفقيه أنها المقصودة بالحكم. فإن الشريعة في مُجْمَلِهَا إنما تقوم على الظن، و هذا باعتراف الفقهاء أنفسهم.
الوصية الخامسة:
الجماعات الدينية التي تمارس اليوم الإسلام السياسي بوسائل غير سياسية لا تختلف في شيء، من حيث هي ظاهرة اجتماعية سياسية، عن الجماعات اليسارية المتطرفة التي سلكت المسلك نفسه في أوروبا و أمريكا اللاتينية خلال القرن التاسع عشر والعشرين، من باكونين و تروتسكي إلى شي غيفارا و غيره ممن ينتسبون إلى الحركات الثورية العالمية، و يُدرجهم خصومهم الإيديولوجيون ضمن مقولة “الفوضوية” أو ”الطفولة اليسارية” أو “نزعة التطرف”، أو مقولة “الإرهاب الدولي” الخ..
الوصية السادسة:
إذا كان لنا أن نبحث عن الإطار الوطني المَحلي الذي خرجت من جوفه الجماعات الإسلامية التي تمارس السياسة بواسطة نوع من الحرب، يُطلقُ عليها اليوم بعضهم إسم “المقاومة” و بعضهم إسم “الإرهاب”، فإن هذا الإطار لن يكون شيئا آخر غير ذلك الذي حمل و يحمل إسم “جماعة الإخوان المسلمين”.
الوصية السابعة:
نريد أن نبين أن ممارسة السياسة بتوظيف الدين عملية تحمل تناقضا جوهريا. ذلك أن مجال السياسة هو مجال الجُزْئي و النِّسبي، مجال المحاولة و الخطأ الخ. أمّا الدين فمَجالُه هو المُطلق. و لذاكَ نجد الداعية السياسية باسم الدين، لا يقدم نتائج جزئية ملموسة. و إنما يقدم نتيجة مطلقة، و هي الثواب في الدار الآخرة : الجنة. و المفارقة المثيرة في هذا السياق هو أن صاحب الدعوة يطلب لنفسه النتائج السياسية الجزئية النسبية. في حين يعِدُ من يستَقطبهم بنتائج مُطلقة، و لكن لاَ في الدنيا. بل في مجال المطلق: في العالم الآخر!. فكأنما الدنيا خُلِقَت لهُم  و الآخرة لأتباعِهم.
الوصية الثامنة: 
إن الذين يُفكرون تحت وطأة الأفكار المُتَلَقَّاة يَسْتَسْهلون القتلَ. و رُبما يَخْلِطُون بين هذه “الأفكار” و بين دوافع أخرى “في نفس يعقوب”، تتحرك داخل الشّعور و اللَّاشُعور. ممّا يجعل من خلخلة الاعتقاد الأعمى في الأفكار المُتَلَقَّاة واجبًا.
الوصية التاسعة: 
و مما يُؤْسَفُ لهُ، أن كثيرا ممّن يُبادرون إلى التعبير عن “رأي الدين”. و حين يسألون عن أمور يُفْترضُ أنّها من اختصاصِهم، لا يَتَرَيَّثون، و لا يرجِعون لاَ إلى المراجع و لا إلى المصالح. فتكون النتيجة: الفتوى عن جهل مركب.
الوصية العاشرة: 
أما فتاوى التكفير، التي هيَ كُلُّ ما كان لدى خوارج الأمس من بضاعة “فكرية” -و هل يَختلفُ حال خوارج اليوم؟! -. فهي لم تَنْشُر الإسلام و لم تُعَزز صُفوفَه، بلْ بالعكس فرَّقت الصُّفُوف، بما في ذلك صُفوفهُم هُمْ. فكان أصحاب تلك الفتاوى ممن يصدق فيهم قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَ كَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” (الأنعام- 159).
عبد المجيد موميروس 
رئيس حركة لكل المثقفين
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here