مذكرات رجل ” خروف ” سابق : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم
يقول بطل القصة راويا :
ـــ إنما ما حدث كان شبيها بتجليات مباغتة ، مثلما يحدث في حالة التماس كهربائي على شكل اهتزازات رجراجة مع اشتعال كامل على شكل زلزلة عقلية وصحوة ذهنية كبرى ، عندما اكتشف أنه ليس مصادفة حكم بلده أناس غرباء سموا أنفسهم حينا ” بخروف أبيض ” و حينا آخر ” بخروف أسود ” مثلا ، كذلك غيرهم من غزاة دخلاء ، معتقدا ، أن مرد ذلك يرجع ربما إلى خرفنة البيئة المحيطة ذاتها ، فهذه البيئة كانت و لا زالت تنتج بشرا ، جيلا بعد جيل ، غالبيتهم الساحقة أشبه بخراف مدجنة من ناحية الاجترار والتكرار لنفس علف القناعات و اليقينيات والأفكار الثابتة والجاهزة إلى جانب القبول بالمسكنة والمذلة ، طوال عقود وعصور ،إذن فأن البيئة نفسها ساعدت و تساعد أيضا على القبول بحكم الأجانب و خادمه و جندرمته المحليين على أساس أنه ضرب من ضروب القدر والمصير الحتميين ..
ويضيف بطل قصتنا :
و قد جعلني هذا التجلي المفاجيء نفسه أن اكتشف بأنه أنا أيضا كنتُ ” خروفا مدجنا ، مثل غيري من الخرفان في هذه البيئة المتطبعة على الخرفنة الاجترارية الدائمة ..
فأول خطوة تحرر وانعتاق لنفسي قمتها هي : فتح نوافذ ذهني ودماغي على مصراعيها المطلقين في مضمار تحرري من طبع وسلوك الخرفنة ، وأول خطوة مهمة هي عدم تصديق كلام ملفق أو مختلق من نسيج خيال يقوم على نحو أن فلانا قال نقلا عن فلان أنه سمع أن فلانا قال والخ ..
إنما يجب عليّ أن أخضع هذا الكلام أو ذاك لمنطلق و غربلة الوعي اليقظ والصاحي و العقل السليم قبل تصديقه. كأمر واقع و مسلم به ..
فلن أقبل بعد الآن أن يقوم أشخاص آخرون بتشكيل وعيي وأفكاري تصوراتي على أساس ووفقا لقيّمهم وتصوراتهم ومعتقداتهم السقيمة والرثة ..
بالطبع لم يكن الأمر سهلا، فلابد من خوض صراع مرير لتحقيق التحرر من قبضة و قيود البيئة الصارمة والشديدة ..
لذا فقد كان عليّ أن أجسد تحرري النظري بالتمرد الطبيقي والعملي ..
إذ ذات مرة طلب مني والدي أن أتهيأ لزيارة مرقد رجل صالح أو مقدس مع العائلة ، فقلت له ليس عندي رغبة في مثل هذه الزيارات بعد الآن !..
فاستغرب من ردي الرافض فسألني لماذا ؟ ، أجبتُ أنني إلى جانب احترامي لهؤلاء الأشخاص “الصالحين” بدأت أشعر واقتنع أنهم بشر مثلنا فلماذا يتحتم عليّ تقديسهم وزيارتهم كواجب طقسي لابد منه ..
أزداد والدي استغرابا ودهشة ، متسائلا مع قليل من نظرة استنكار وانزعاج :
ــ بشر مثلنا ؟.. ماذا الهراء الذي تقوله ؟..أرى أن الكتب التي بدأت تقرأها في هذه الأيام بدأت تفسد عقلك وتخرجك من جادة الصواب القويم..
أجبته مبتسما بلطف وبنبرة ودية ولطيفة :
ــ ليس بالضرورة أن يكون هذا الشخص أو ذاك صالحا لا لشيء فقط لكونه منحدرا من كذا أسرة عريقة أو تلك معروفة تاريخيا ، ربما بسبب مصادفة بحتة ،إنما وحسب اعتقادي لكي يكون هذا الشخص أو ذاك صالحا فعليه أن يقوم بأعمال خيرية وإنسانية يقدمها للبشرية جمعاء ، فمثل هؤلاء الأشخاص من عاملي الخير موجودون بكثرة في العالم في وقتنا الراهن ، ولكنهم لا يعتبرون أنفسهم صالحين أو مقدسين يجب تقديسهم أو عبادتهم ..
آنذاك احتد والدي غضبا قائلا :
ــ كيف تسمح لنفسك أن تساوى بين هؤلاء وأولئك ؟
ــ لماذا لا ؟..أليس كلهم بشر مثل بعضهم بعضا ؟
أجاب على مضض مع نبرة شك و تردد :
ــ نعم ولكن ..
ــ هل كانوا يأكلون ويشربون مثل باقي البشر؟
ــ نعم ..
ــ هل كانوا يتبولون ويتغطون مثل باقي البشر ؟
ــ نعم ..
ــ هل كانوا يتعبون و يمرضون مثل باقي البشر؟
ــ نعم…..
ــ هل كانوا يتزاوجون وينجبون مثل باقي البشر ؟
ــ نعم….
هل كانوا يهرمون ويموتون مثل باقي البشر ؟
ــ نعم ..
فختمت محاججتي قائلا :
ــ هل رأيت ؟… كيف أنهم لا يختلفون عنا كونهم بشرا مثلنا في كل شيء !.. بالطبع هذا لا يعني عدم تقدير هم و احترامهم مثلما يستوجب الأمر احترام حرمة الموتى ..
غير إن والدي و على الرغم من إقراره بكل هذه الحقائق فإن تطبعه وتكوينه النفسي المترسخ عبر عقود طويلة على تقديس بشر مثلنا ، قد جعله كل ذلك أن يبقى مترددا في قبولي حججي ليضيف :
ــ ولكن ..مع ذلك وأنه ….
قاطعته حاسما الأمر برمته :
ــ بالنسبة لي بعد الآن .. لا ولكن ..ولا أنه.. إنما باختصار شديد أنا لم أعد أعتبر نفسي خروفا بعد الآن.. لقد غادرت القطيع !، و لن أعود لعهد الخرفنة مرة أخرى أبدا ..خلاص!.. .. انتهت اللعبة بالنسبة لي وحسمت أمري مرة واحدة وإلى الأبد ..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here