الهيئات المثالية لأفلاطون

الهيئات المثالية لأفلاطون

محمد كريم إبراهيم – محلل وكاتب عراقي

ما التي تجعل التفاحة تفاحة؟ هل هي لونها أم طعمها أم شكلها؟ ما هو الشيء الأساسي فيها الذي يجعلك تتعرف عليها مهما تغيرت صفاتها؟ هذا ما كان يفكر فيه الفيلسوف الاغريقي افلاطون عندما اكتشف نظريته الخاصة لتفسير الحياة ومكوناتها, وهي نظرية ما زالت ذو صلة منذ اكتشافها حتى يومنا هذا, وتدخلت ايضًا في صناعة مفهوم جديد للجنة للأديان وقدم حافزًا لعلماء النفس بالبحث عن الإجابة في دماغ الانسان.

لغرض فهم جوهر الأشياء مثل التفاحة, توجب على افلاطون الادعاء بأن عالمنا الذي نعيش فيه ليس حقيقي بنسبة مئة بالمئة, وإنما هو ظلال لعالم آخر أكثر مثاليةً منه, عالمٌ ثابت لا يغيرهُ الزمان ولا المكان, فهو عابر لهذه الابعاد المكانية والزمنية نحو بعد آخر. نحن نرى ونتحسس أشياء فانية تتغير شكلها مع مرور الزمن ومع الظروف كالتفاحة التي لها عدة الوان واشكال وتذوق, التي تكون في بداية نضوجها في هيئة معينة وكذلك في فسادها تكون في هيئة أخرى. لكن مع ذلك تبقى هناك صفة تجمعهم معًا وهي روح التفاحة نفسها, يجعلنا نتعرف عليها مهما كانت ظروفها, هذه هي جزء من العالم المثالي الثابت الذي ينعكس في عالمنا المتغير. باختصار, هناك تفاحة في عالمنا, وهناك تفاحة في العالم الهيئات المثالية لأفلاطون, تفاحتنا هي نسخة رديئة من تفاحة عالم الهيئات المثالية, تفاحتنا ستتغير مع الزمن, تفاحة عالم افلاطون تبقى ثابتة كما هي.

هذا العالم الهيئات المثالية يحفظ في داخله اشكال الأشياء والكائنات التي هي موجودة في عالمنا وكذلك التي ستبرز للوجود في المستقبل أو التي انقرضت من الماضي. ومن هذا المنطلق جاءت فكرة الأرواح الخالدة التي تظل على حالها مهما اختلف الجسد وتغير شكله, وكذلك فكرة الجنة المثالية التي تحفظ أرواح البشرية الجيدة فيها. ومن جدير الذكر إن الأشياء السيئة والفاسدة والكائنات الشريرة منبوذة تماماً من هذا العالم المثالي الذي خلقه افلاطون, لذلك اضطر بعض الأديان خلق عالم مثالي ثاني للأرواح الغير النقية والاشياء المؤذية والمدمرة (مثل النار) للهيئات.

اعتزَ أفلاطون بعلم الرياضيات كثيرًا, لأنها باعتقاده مفتاح لمعرفة ذلك العالم المثالي بسبب قدرتها على تحليل واستخراج أُسس الأشياء وإيجاد قوانين عامة مشتركة تربط بين العديد من الكيانات. مثلاً مهما كان طول ضلعي المربع ومن أي مادة صنع ذلك المربع وفي أي زمان ومكان كان, فإن مساحته دائما طوله مضروب على عرضه. هذا الأمر أبهر أفلاطون كثيرًا, حتى يُذكر إنه كتب في باب مدرسته (لا يدخل هنا من لم يدرس الهندسة).

ما نعرفه اليوم من دراسات علم النفس إن هذا العالم المثالي موجود جزء منه في دماغنا الذي يسمى بالمخطط العقلي: فهي من طبيعة أدمغتنا البشرية أن تصنف الأشياء التي نتحسسها وتضعها في مرتبة مناسبة حسب العامل المشترك بينهم. جميع المعلومات التي تأتينا بشأن التفاحة (من لون وشكل بالعين, من ذوق باللسان, من شم بالأنف) نجمعها معًا ونضعها تحت مسمى معين, فإذا رأينا تفاحة صفراء بدلا عن الحمراء, نعلم مباشرة بأنها “تفاحة” من خلال صفاتها الأخرى (الشكل, الذوق, الشم, والملمس). والذي يميز دماغ الانسان عن الحيوان ليس الحجم, بل سرعة تكوين اتصالات بين الدوائر العصبية, وهذه الميزة تجعلنا فاهمين اكثر للعالم المشترك بين تلك الأشياء (مثل الرياضيات ومسلماتها). بالرغم من أن أفلاطون فهمَ على إننا عشنا يومًا ما في ذلك العالم المثالي وإننا لو حاولنا جاهدين سنتذكر بعض الأشياء المثالية منها كالهندسة, أي إننا ولدنا بتلك المعلومات عن العالم الهيئات المثالية لكننا فقط نسيناه بعد ولادتنا ووعينا لهذا العالم الدنيوي.

إذًا, نحن نسكن عالم الظلال حيث اجسادنا لا تجسد شيئًا سوى نسخة رديئة من ارواحنا, كما الدنيا تمثل نسخة رديئة من الجنة! لماذا نبذنا إلى هذه الحياة من العالم المثالي؟ ما هو المراد منا لكي نعود الى مثاليتنا؟ هل كان أفلاطون محقًا في كل هذا؟ كلها تعود عليك لتقتنع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here