نعم للقيم الأنسانية، لا للقيم الاجتماعية !

نعم للقيم الأنسانية، لا للقيم الاجتماعية ! ) *) د. رضا العطار

وقد يخطر بذهن القارئ عندما نذكر الحياة الفنية اننا نقصد الزخارف والبهارج، ولكن الفن الخالص والبلاغة الحقيقية يعنيان في لبابهما حكمة وسدادا، لان كلمات الحكمة هي اسمى انواع البلاغة والفن، ولكن ما هي الحكمة ؟

الحكمة هي العمل احيانا بالمعرفة، وهي احيانا تجاهل المعرفة، واخيرا هي التميز بين القيم والاوزان. والانسان يختلف عن الحيوان من حيث انه يتعقل في حين ان الحيوان غريزيا يندفع. ونحن نهدف الى قصد في عملنا في حين هو يعيش جزافا، ونحن نقرر مصيرنا بايدينا في حين هو ينساق خاضعا للقدر، وقد يخالف قولنا هذا ذلك المنطق الآلي الذي يرتب النتائج على الاسباب ولكنه يطابق المنطق العملي الذي نحيا به في مجتمعنا.

وحياتنا في عصرنا الحاضر تضطرب وترتبك بل احيانا تلتغز، وقد كان لآبائنا اعلام قديمة يسترشدون بها في طريق الحياة الساذجة التي كانوا يحيونها. ولكن هذه الاعلام لم تعد تكفي لأرشادنا في طريق الحياة الجديدة، ولذلك نحن في حاجة الى تعاليم جديدة نتعلم بها كيف نحيا الحياة الفنية اي الحياة الحكيمة وكيف نقضي سبعين او ثمانين سنة على هذا الكوكب ونحن ننمو وننضج الى الايناع. فلا تكون حياتنا مكابدة مؤلمة بل التذاذا روحيا وماديا، ونحن في مجتمعنا انما نحصل من التعليم في الاغلب بقصد الارتزاق وليس على اسلوب الحياة السامية لاننا ننسى ان الحياة اعم واهم من الكسب. واننا نكسب كي نعيش ولا نعيش كي نكسب، وبعبارة اخرى نحن نحيى من اجل ان نعيش، ولسنا نعيش من اجل الحياة.

وقد صارت الحال كذلك لان شبح الفاقة يلوح على الدوام في مخيلتنا، ولذلك صار التعليم من اجل الارتزاق يغمر كل شئ آخر. لاننا نعيش في اقتصاديات القلة في حين ان اقتصاديات الوفرة على الابواب تنتظرنا بل تنادينا. ولا نحتاج الا ان نومئ باصبع الرضا فيغمرنا الخير الوفير الذي لا نعرف فيه معنى الفاقة او الحاجة. وعندئذ اي عندما نومئ هذه الايماءة ونرضى بالتعاون بدلا من المباراة في الانتاج نستطيع جميعا ان نعيش العيشة الفنية ونحيا الحياة الكريمة وان نتوخى مأربا فنيا في كل ما نتناول من معارف او معايش.

وهنا يثب علينا المتشائم : لكأنك ترى الدنيا مشرقة في الوان الورد وقد غمرت السعادة جميع البشر بما سوف يدبرون من تعاليم او انظمة. ولكن اين هذا التفائل من حقائق الدنيا من الامراض والرزايا ؟ الرجل الذي يفقد نور عينيه ويرى الدنيا ظلاما، او الأم التي تفقد طفلها، تطوي لحمه الطري ووجهه الحلو في تراب القبر ؟ من الشاب يسمع حكم الاعدام من طبيبه الذي يعلمه بمرض لا يعالج ؟

ولكن هذا التشائم قد بولغ فيه، لان الكوارث نفسها جزء من فن الحياة وحكمتها. وذلك الانسان الذي لم تصيبه كارثة تصل الى مخ عظمه، وذلك الذي لم يحس اللوعة يغص بألمها ويجمد من هولها. ذلك الانسان لم يحي الحياة الفنية ولم يعرف حكمتها. واقل ما يقال عنه انه لم يعش الحياة الكاملة ومع ذلك نحن نبالغ. فان كلا منا يعرف ان اعظم المصائب التي كان قد توقعها لم تقع له. وان بعض هذه المصائب كان مفيدا قد انتفع به. انظر الى قول داروين :

( لو لم اكن متمرضا الى حد عظيم لما اتممت كل هذا القدر الكبير من الاعمال ) وذلك لان التزامه سرير المرض قد اتاح له الفرصة للتفكير وتصور الاحياء على طراز جديد.

وانها لحكمة تلك التي نطق بها كاهن انكليزي قبيل خلع الملك تشارلس الاول حين قال

( ان اعظم ما ينكب به انسان ان لا ينكب وان اعظم ما يعاقب به الانسان الاّ يعاقب )

وكثير ما نعيش سادرين ذاهلين حتى اذا ما اصابتنا مصيبة تنبهنا كأننا قد استيقظنا من نوم عميق فأنبلج لنا نور وانكشفت لنا حقيقة، ما كنا لنراها لولا هذه المصيبة. وايام المرض في السرير كثيرا ما تكون ايام التنبيه والتجديد. نحن في حاجة دائمة الى استعمال ذكائنا كي نميز بين لذة العاطفة ولذة التعقل وبين السرور الزائل والسعادة الباقية وبين الامتياز الذاتي في النفس وبين الامتياز المادي في العقار اي بين ما نكونه وبين ما نملكه.

والحياة الفنية هي الحياة الجميلة ومع جميع التعاريف للفن والجمال لا نزال عاجزين عن تعريفهما الصحيح الذي يحدد كلا منهما ولكن من منا لا يعرف الفن والجمال ؟

ان هناك اشياء نعرفها بالاحساس النفسي واشياء اخرى نعرفها بالاختبارات الذهنية، وليست الاولى دون الثانية وان تكن في مرتبة اخرى. واذا كنا ننشد الفن والجمال في الاثاث والبناء والرسم فاننا يجب ايضا بل بأكثر عناية وهمة ان ننشد الجمال في الحياة في الشخصية الرشيقة والذهن اللبق والجسم الانيق والمعارف المنسقة واللغة البليغة كما في الاخلاق السامية والاهداف الروحية والعلاقات الانسانية.

نحن نعيش في المجتمع المتمدن بدستور اخلاقي نأخذ 99% منه من العائلة التي نشأنا فيها والشارع الذي مارسنا فيه اختبارات الطفولة، ومن زملاء المدرسة والحرفة، ومن هؤلاء ممن تحملنا حياتنا الاجتماعية او السياسية على الاحتكاك بهم. ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا المجتمع ونأخذ بالقيم التي يعينها لنا.

وكثيرا ما نأخذ بقيم واوزان فاسدة لان المجتمع الذي نعيش فيه فاسد وكثيرا ما يخفي علينا هذا الفساد فنندفع في التيار لا نقف ولا نتردد، ولكن احيانا نقف ونتردد، وعندئذ يكون التقلقل والبحث المربون، الذي يؤدي الى ظهور قيم واوزان جديدة .

والقيم والاوزان اما ان تكون اجتماعية واما ان تكون بشرية. واذا كان المجتمع راقيا كانت معظم قيمه انسانية. يستنكر الخطف و القتل والسطو والسرقة الى جانب محاربته مظاهر الفقر والمرض والجهل والتعصب وصيانة الصحة وتنوير الاذهان بالمعارف وتوزيع الثروة بحيث لا يكون في مجتمعنا فقر مؤذ ولا ثراء كافر .

اما اعتبارات القيم الاجتماعية فتنحصر في اقتناء القصور والسيارات والاراضي والتباهي بالمنصب والجاه والالقاب والتزين بالجواهر والتفاخر بالولائم ومظاهر الاعراس ونحو ذلك. و نزيد الايضاح ونقول: لو فرضنا ان صديق لنا قد مات وترك زوجته وجملة اولاد. فالرجل الذي تغلب عليه القيم الاجتماعية سيسير خلف الجنازة ويحضر الصلاة و مجلس الفاتحة ويعزي اسرة المتوفي وقد يبالغ في اهتمامه فينعاه في الصحف المحلية، ثم يعد نفسه قد انجز ما عليه .

ولكن الرجل الذي تغلب عليه الاوزان والقيم الأنسانية قد يهمل قسما من هذه (الواجبات) لكنه يبحث عن حال الارملة واولادها. فاذا وجد انهم في حاجة الى المال تبرع من جيبه الخاص دون ان يبوح بسره لأحد. ثم هو يرعى الاولاد بالنصيحة ويهيئ لهم وسائل التعليم ويرعى العائلة تلك الرعاية الاقتصادية ويفضي عليهم قسطا من العطف الأجتماعي دون الشفقة، هذه الرعاية التي فقدتها الاسرة بموت عاهلها. ومن هنا نعرف الفرق الهائل بين الضمير الحسن الرحب، وهو الضمير الانساني المجدي وبين الضمير الاجتماعي غير المجدي .

ومن هذا المثال نستطيع ان نتوسع ونقول: ان للمال والصحة قيمة بشرية مطلقة. ولكن المال اذا ما تجاوز حدا معينا، يصبح له قيمة اجتماعية فقط. والشاب الذي ينشد في الفتاة جمالها انما ينشد قيمة بشرية ولكنه عندما ينشد ثرائها انما ينشد قيمة اجتماعية. ومن هنا ايضا نقول ان للزواج قيمة بشرية ولكن ابهة مراسيم الزواج، وجهاز العروس ومكانة ابيها ونحو ذلك تعد من القيم الاجتماعية. وكثيرا ما تستهلك القيم والاوزان الاجتماعية مجهودنا وصحتنا كما تحول بيننا وبين القيم البشرية. كأن نندفع في جمع المال فنفقد صحتنا قبل الخمسين لان المجهود في هذا الجمع كان اكبر مما نتحمل. وفي الوقت نفسه ربما حال هذا الجمع دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير اذهاننا.وهما من القيم البشرية.

كثير من الناس يغمرهم المجتمع بقيمه واوزانه فلا يرتفعون فوقها، ولذلك نجد ان كل اهتماماتهم منصبة في المظاهر كشراء سيارة من الطراز الاول، او اقتناء قصر افخم – كل ذلك من شأنه ان يزيد في همومهم، يعرضهم الى مشاكل نفسية. ومع ان زيادة الف دولار او نقصها في حساب البنك لن يضيرهم ولن يزيد سعادتهم او ينقصها — ومن هنا نتذكر الرجل المحموم بالنجاح ينفق كل مصادره الحيوية في التفوق في حرفته لكنه يفشل في ادارة عائلته اوالمشاركة الايجابية في مجتمعه ولا يدري ان النجاح كان يجب ان يكون كليا يشمل الاسرة والمجتمع والمهنة والفراغ. وكثير من الامراض النفسية المنتشرة في ايامنا الراهنة تعزى الى الاندفاع في هذه القيم الاجتماعية دون التفكير في القيم الانسانية .

و (الرجل الاجوف) الذي تحدث عند الشاعر – اليوت – انما هو رجل قد غمره المجتمع بقيمه واوزانه، فنسى كلمة الامبراطور ماركوسي حين قال: ان اعظم ما يشتاق اليه ويتمناه في هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل شجرة.

و عندما نبحث عن شخص ما و نسأل عنه، ونقول من هو؟ – – – يكون الجواب إما:

جواد سليم، مثقف، صادق، امين، سعيد ؟ وإما يكون الجواب: عنده منزل كبير به اثاث فاخر و عنده سيارتين اخر موديل وعنده اراضي و لقب الجلبي وحساب في البنك وعلمه عند الله الخ

فالحياة الفنية الصحيحة تقتضي التميز بين القيم. وان نجعل القيم البشرية تعلو على القيمة الاجتماعية ويكون لها المقام المحمود، سواء في انفسنا او في غيرنا. والرجل الطيب هو في النهاية الرجل الانساني وليس الرجل الاجتماعي، اي هو الرجل الذي يتعمق ويصل الى الجذور — وعندما نتأمل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام نجد ان كل اهتمامه كان منصبا على القيم الانسانية، وهي جوهر الأخلاق في الاسلام .

* مقتبس من كتاب فن الحب والحياة للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here