أمجد توفيق يتوارى في نص إشكالي لتعزيز المكانة الغامضة للسردية في رواية (طفولة جبل)

حمدي العطار

رواية (طفولة جبل) للروائي أمجد توفيق الصادرة من دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع سنة الاصدار 2021 وتقع في 251 صفحة ، يجعلك الروائي من العنوان (طفولة جبل) الى المشاهد الثلاثة تشعر انك امام رواية اشكالية تهتم بالفلسفة والميتافزيقيا لا تنطلق مثل باقي الروايات (الاصلاحية) من الاخلاق! والسردية الاشكالية لا تعكس لنا الواقع بل تمنح فرصة للتأويل المبتكر للواقع، انها ليست رواية احداث على الرغم من وجود الاحداث لكن تلك الاحداث والشخصيات (بارق – بهار – احمد – مريم) فضلا عن (الجبل- الشجرة- النهر) كل الاشياء في هذه الرواية تمتلك الاحاسيس والمشاعر وتتأثر وتؤثر وتعبر عن ما يعتقد الكاتب والقارئ في مساحة التأويل ، ليس هناك ارتباط بالزمان والمكان بل هناك بنية منطقية وبنية لغوية تخاطب قلق القارئ لا قناعته “ في الفجر الفضي، يخلق الجبل كل يوم، قريبا، قويا، متماسكا” هذا هو الاستهلال الغامض الذي يخلق لدى القارئ العديد من الاسئلة (ما معنى هذه العبارة؟! مثل هذا المدخل يجعل القارئ يعرف دون ان يدرك او يفهم وبوده ان يسأل الروائي او النص (ما الذي تفعله هذه العبارة) !؟ قد يستطيع الناقد ان يجد تأويلا مناسبا لمثل هذا الالتباس ولكن التفسير يعطي للقارئ شيئا ثم يسلبه منه – كما يقول -وبيردسلي-” كيف يفكر الجبل؟ هل يفكر في العمق أو الامتداد أو الارتقاء؟ طفولته تمنحه الانتماء..تمتد صخوره لتؤكد غناه وقدرته.. يرتفع رأسه ليؤكد الشموخ والشجاعة..يغوص في الأرض ليؤكد رسوخه وصلابته”ص7 التأويل قد يبرر الغموض ويفتح افاقا للتأمل لان القراء يشعرون بهذا التفسير عند القراءة.

في الرواية التجليات والاكتشافات حتى تعتقد بالانسنة حينما يجتمع بارق مع الجبل او عندما تحتمي بهار بالشجر “اما لحدقتي الطفل أن تستريحا من اتساعهما المترع بالدهشة؟” في السرد هناك حوار يقرب المسافات بين الراوي حينما يكون ضمير المخاطب (الانا) والمروي عليهم والشخصيات حينما يكون ضمير المخاطب (هو) “يقرر الجبل توديع شقيقه، ويقرر الشقيق الطفل أن يحتفظ بالجبل، ويدخله معه إلى الغرفة المحتفية بالمدفأة- على نار المدفأة يبدأ الحلم، وتتعرى الأسرار- تهتك لعبتها، وظلمتها، ودهشتها.. ليس للحلم أو السر إلا وظيفة الاحتفاظ بالجبل في ليل الطفل كي يشهد خلقه صباحا من جديد. وكل يوم..”ص12

هنا تركيز في (بؤرة السرد) – التبئير- اي حصر حقل الرؤية عند الراوي لأن السرد يجري في بؤرة تحدد اطارا للرؤية، وهذا النوع من السرد يجعل الانتباه يتوقف على جوانب معينة من النص (أجمل سارد، استمعت إليه، كان الجبل) في مثل هذه الاعمال السردية سوف نضطر الى تغليب عنصرا او منهجا على الاخر ، فالنقد البلاغي الذي يهتم بالمضمون والاخلاق والميتافزيقيا لا يكون كافيا لأستيعاب التأويل الذي يمكن الوصول اليه فلا بد من الاستعانة بالنقد (السيمائي والبنيوي) لأن (شكل السرد) يدفعنا بهذا الاتجاه “إنني أنحني أمام كل سارد، قرأ أو روى أو كتب عن جمال ينتمي إلى طبيعته”ص14 نحن امام انسنة الجبل

(للجبل قدرة السخرية.. وللطفل قدرة الاسى) والا (كيف يتحول الأسى إلى جبل أو يتحول الجبل إلى أسى

محاكاة الجمهور السردي

اتصور حينما كتب امجد توفيق هذه الرواية كان يتصور الحيرة التي سوف تصيب (الجمهور السردي) وهو يتابع شخصية بارق وبهار ومريم وفيروز واحمد، فالمجنونة في هذه الرواية تمثل بؤرة للسرد في القسم الاول للرواية “الصبي -بارق- يدرك أن الأمر جزء من كل.. والصبي مرتبط بعالم تغسله الشمس والأمطار، ليصبح ذا طاقة إضافية لأبتلاع أي فهم، فالفكرة في رأسه ليست أكثر من ومضة أو بريق لعيني، قطة تمرق سريعا، والفكرة عجينة طرية لا تتماسك على شكل أو لون أو تكوين..أوراق التوت مثقلة بالندى”ص24 الا يحتاج هذا السرد القريب او يضاهي الشعر الى ان تغلق الرواية وتتأمل ما فيه من اسرار والغاز وخفايا، اننا حينما نعطي في التوصيف مرجعية للرواية بأنها تنتمي للفنتازيا لا نقصد تلك الاحداث الخارقة أو السحر الموجود في الروايات الشعبية بل هو اللامنطق الذي يخلق رواية حرة لا تفرط بحريتها المعلومات المتناقضة والمستمدة من عالم التجربة (كان الصبي- بارق- يحب شجرة المجنونة وطيورها، هذا مؤكد، لكن أن تعي هي ذلك ، فهذا ما يقرب من السحر أو السر).

نص متراكب

يشعر الجمهور السردي ان النص متراكب فضلا عن الالغاز والابهام فإن النص يبني ذاته ويحتاج الى جهد الجمهور السردي للمحاكاة حتى تكتمل عملية التأويل “ حفنة من اللوز الاخضر أم حفنة من الأسرار..ما علاقة اللوز الأخضر يالأوراق الخضر لشجرة التوت؟ والى أي درجة لونية تنتمي خضرة اللوز؟ انها تنتمي إلى درجة اسمها الحيرة..حيرة مزروعة في رأس صبي فوجئ في ضوء الشمس، وضجة الطيور بفعل أمرأة مجنونة..كانت راضية، وكان قلقا..كانت مبتسمة، وكان مندهشا”ص27 .

الجمهور السردي وهو يستمر بقراءة هذه الرواية يفقد ايمانه بالحتمية ، ويميل الى المصادفة لأن مصدر الرواية هو (الخيال)، الحيرة تتولد من قدرة الروائي ان يربط بين التجربة والمفاهيم (والا ما معنى أن يصادق صبي نهرا يدعى- الروبال- ويتعرف على كائناته، تلك التي تعلن عن نفسها، وهي تلك التي تحتفظ بحياتها سرا عن الأعين..كان للصبي مساراته الخاصة، وهي مسارات عجيبة، لا يستدل من يتابعها أو يراقبها إلى نمط أو رؤية أو قانون لها).

البطولة هنا للنص وليس لبارق او بهار او مريم على الرغم من الاحداث التي تؤثر في نوعية السرد مثل (اغتصاب بهار وقتلها- ضرب بارق- عشق مريم- عزلة بارق – ثقافة بارق وتأملاته وصداقته للافعى)..

لا تخلو الرواية من الاسقاطات التي تؤشر الى هموم الناس وعذاباتهم كما هي تؤشر محبتهم للحياة لأن (الارتباط لا يعني سوى المعرفة/ والمعرفة الحقة لا تعني سوى الحب/ وكل معرفة لا تبن على الحب، مطعونة) ليتكون لدى الجمهورالسردي وهم المحاكاة كشكل من اشكال التلقي “ إنها الحرب يا عزيزي/ وما علاقة الحرب بنا؟/إنها هواء مسموم، وماء مسموم، وهي تستهدف عالمنا الجميل”ص51

تعزيز المكانة الغامضة

لقد توصلنا الى تحديد البطولة في هذه الرواية وهو (النص) الغرائبي ، هو الوحيد القادر ان يقودنا الى مضمون الحكاية ووصف الشخصيات ومواقفهم والدلالات الايحائية والمكانة التأويلية، نص يقرأ اكثر من مرتين حتى نصل الى قناعة ونفهم الشفرات المتعددة (شفرة لسانية وشفرة تأويلية وشفرة افعال واحداث وشخصيات) انه نص يصلح ان يكون درسا للتمرين في كتابة الرواية ما بعد الحداثة، لا يهتم القارئ – كما هي شخصية بارق ومريم وبهار- الى الاجوبة المقنعة بمعايير أخلاقية- بل الفعل يولد من الانفعال العاطفي والتلاحم الانساني، فنجد ذلك الوصف يتألق حينما تسلم مريم – المسيحية- جسدها الى بارق- المسلم – بتفاعل جميل ومغر وبعبارات فيها من الايحاء العاطفي والجنسي والانساني الشيء الكثير “لا شيء كالخريف، يمكن أن يعري الأشياء ليكشف جمالها” يا له من وصف جميل لفصل غير مرغوب به! لكن كلمة (يعري) هي مربط الفرس لما سوف يأتي ، لا يفضل استخدام كلمة (سقوط) المشهورة بتساقط الاوراق من الاشجار في الخريف، بل هو يتعمد ان يكون للجملة مدلول جديد “لا شيء كالخريف، يمكن أن يصل الحزن بالفرح، ويبعد اوراق الشجرة عن بعضها” الروائي امجد توفيق خبير بالتلاعب بالكلمات ليتجنب تكرار نفس المعنى في جمل عديدة وهنا استخدم فعل (يبعد)- وهذه شفرة لسانية – ليفسح المجال ويخلق الفراغات لأشعة الشمس ان تصل الى الكوخ والى السرير الذي احتوى جسد مريم بعد ممارسة الجنس مع بارق “خلال مساحة بين غصنين سمحت أوراقهما لأشعة الشمس أن تخترق نافذة الكوخ، وتستقر على جسد فتاة عارية..تصطدم – شفرة افعال- لأن النهدين عند الفتاة عائق جسدي لأشعة الشمس وكلمة الاصطدام هي المناسبة لجعل خيال المتلقي يتفاعل – تصطدم أشعة الشمس بنهدي الفتاة، ثم (تسيل)- هنا تشبيه الاشعة بمادة سائلة قابلة للسيولة ليس للاسفل بل للاعلى– ثم تسيل باتجاه العنق- لكن ، لتغرق – كأنه بعد الاصطدام والسيولة يأتي الغرق- في شعر فاحم انتشرت ذؤاباته على وسادة..نحن امام سرد تشكيلي بشفرات افعال وشفرات خيال تأويلي قادر ان يحول المقطع الى لوحة تشكيلية “ تثني الفتاة ساقها اليمنى، فينعكس الظل على النهد الأيمن، ونصف الشعر” في السرد هناك الانزلاق الانطولوجي بكافة الاتجاهات –مكان وفراغ-، فلا يغيب على المتلقي اهمية الربط بين المكان (الكوخ- السرير- الاشجار) والزمان (الخريف) والمؤثرات الخارجية (أشعة الشمس) “نصف الأوراق هجرت أغصانها، والنصف الآخر ثمل بالخريف- كلمة موحية على تأرجح الاوراق وضعفها – فأخفى بعض ألوانه، وأظهر ألوانا أخرى لم تألفها..فتى في الظل يرقب الضوء والظل على جسد يتموج في الضوء والظل، فيفتح خريطة الغرائز..أية نقطة في جسد الفتاة تختصر لون اللوعة، ورائحة عصارة معتقة حلمت بها الانثى الأولى، وجن في سحرها “ص188

الخاتمة

رواية (طفولة جبل) تجربة سردية فيها من الابداع بقدر ما فيها من المتعة والتشويق ، وهي رواية تستحق الاهتمام النقدي فجوهر النص قائم على التجريد ، في كل محور من الرواية هناك حكاية مؤلمة ، وفي الرواية ثلاثة محاور او عائلات اختلطت همومها مع بعضها بعضا لتعزيز المكانة الغامضة للمضمون الحكائي، النص للتواصل السردي معه نحتاج الى الكثير من التأمل والخيال..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here