فكرة التطور وفوائدها ؟ ح3

فكرة التطور وفوائدها ؟ ح3 (*) . بقلم د. رضا العطار

الفرق بين الرجل الذي تشرّب عقله وصُبغ ذهنه بنظرية التطور لداروين، وبين الرجل الذي يجهل هذه النظرية، كالفرق بين انسان قد اكتشف ملكوتا عظيما وبين آخر عاش عمره محبوسا في صومعة يظنها انها تجمع كل ما في هذا الكون من خلائق ومكنونات.

فرجل التطور يعتقد انه عاش في الدنيا ملايين السنين وانه مرتبط وسائر الاحياء من نبات وحيوان برباط قوي متين. فعلاقته بهذا الكون اشبه شيء بديانة علمية قد ارتكزت دعائمها على اصول العقل والتجربة.

فالإحساس بحقيقة التطور هو نوع من الديانة الطبيعية، بها نشعر اننا وجميع الاحياء اسرة واحدة نشترك واياها في وحدة وجودية وهذا الإحساس يحملنا على احترام الحياة كائنة ما كانت. ثم ان هذا التاريخ الذي كنا نعده بضع مئات من السنين قد صرنا الان نعده بمئات الالوف من السنين. وكنا قبلا نعرف من التاريخ وقائع الحروب واخبار الملوك، فصرنا الان نطلب من التاريخ ان يدلنا على تطور الاسرة والقبيلة بل تطور الزراعة والصناعة والحضارة.

وانما يتجه نظرنا الى هذه الاشياء لما سبق ان رسخ في اذهاننا من ما لا يلابسه كأنها اشياء تجري عليها سنة التطور وانها تتدرج من الحسن الى الاحسن ومن البساطة الى التراكيب. والانسان تسترقه الكلمات بل كثيرا ما تكون اللغة بمرونتها سببا في تقدم الامًة كما تكون بجمودها سببا في تأخرها. فكلمة التطور لها الان سلطان على العقول.

فرجل الدولة الدكتاتور يقول بكراهية الثورات، لأنها نابعة من سنن تهدف الى تطوير الوضع الاقتصادي والثقافي والسياسي لشعبه نحو الأحسن.

فلو لم تكن كلمة – التطور – موجودة لما نزعنا هذه النزعة في السياسة والعلوم والاداب والصناعات، فهذه الكلمة قد تملكتنا وصيغت عقولنا ووجهتنا في وجهات جديدة لم يكن يعرفها آباؤنا. فأنك لم تجد مثلا كلمة – تقدم – في المعاجم العربية، مما يدل على معناها الذي نفهمه الان، فلم يكن يُسمح للأمم العربية ان تفكر في التقدم، اي انها لم تفكر في طريقة لتعميم التعليم بين الاهالي، او في رفع مستوى الصحة العامة او في ايجاد نظام صناعي لتحسين حال العمال، وانما كان كل حاكم قانعا بان تسير البلاد كما سارت في عهد سلفه، وكثير من هذه القناعة كان يرجع الى ان هذه الكلمة بمعناها الحديث لم تكن معروفة، لأن للكلمات سلطانا على العقل بل نحن نفكر بالكلمات.

وكذلك الحال في كلمة – التطور – فانها غرست في الاذهان فكرة تدرج الاحياء ورقيها جيلا بعد جيل، فصار الرقي اساس طبيعي وصارت مخالفته من الفرد او الامًة او الحكومة اشبه شئ بالخروج على السنن الطبيعية. وصرنا نغضب من الحكومة التي لا تفكر في ترقية الشعب بالتعليم وتحسين صحته وتهيأة السكن والحياة الكريمة له الى جانب ترقية الزراعة والصناعة او نحو ذلك او التي تنكر حق الامًة التطوري في الرقي الاجتماعي او السياسي او الاقتصادي، لأن فكرة التطور قد جعلتنا ننزع هذه النزعة.

ثم ان لنظرية التطور فضل آخر في فهم طبيعة الانسان، فلا يمكن فيلسوفا ان يعرف كنه النفس الانسانية ما لم يعرف تطور الجهاز العصبي في الانسان وعلاقته بالاحياء الدنيا والعوامل التي جعلته يرقى الى مستواه الحاضر. بل ان فلسفة – فرويد – مبنية كلها على ان اهم ما في خواطر الانسان واحلامه وهواجسه يرجع الى الغريزة الجنسية التي هي اقوى في الحيوان. فالحيوان الذي يقاتل ويموت من اجل انثاه لا يزال حيّا في الانسان حتى في بعض طقوس عباداته وفي فنونه الجميلة التي يمارسها وينسبها الى ارقى الاعمال الذهنية.

بل لا يمكن فهم بعض امراضنا وكيفية علاجها ما لم نفهم نظرية التطور، فبعض انواع الجنون – ردة – من الانسان الى الحيوان القديم الذي لا يزال كامنا مقهورا فينا قد تغلبت علي انسانيتنا. فبعض المجانين يزحف ويتسلق ويقعد قعدة القردة. فكثير من الجرائم هي نتيجة هذه الردة، فأسلافنا في الماضي السحيق كانوا يمارسون هذه الجرائم وكأنها اعمال عادية لا حرج فيها.

وقد استفاد الطب الحديث من نظرية التطور فترك العلاج بالأعشاب وعمد الى العلاج بخلاصات الحيوان مثل هورمونات غدد الصماء، ونجح في ذلك. وذلك لان التطور يدلنا على ان مصلحة النبات تخالف، بل تناقض مصلحة الحيوان ونشاهد كثيرا ما يحتمي النبات منه بالحسك والمرارة والسم. فلا يمكن ان نعتمد عليه في اتخاذ دواء منه. اما الحيوان فان تركيبه هو تركيبنا وما ينفعه ينفعنا، ولا عبرة بما يحدث اتفاقا كأمكان التعالج من الحمى بنبات الكنين، كما انه لا عبرة بان الحيوان يعيش على النبات لان للنبات مصلحة في ذلك لنقل بذوره من مكان الى آخر.

وكذلك رجل التعليم لا يمكنه ان يدرك طبيعة الطفل ما لم يفرض انه حيوان صغير، ففي الطفل والقردة كليهما غريزة الاستطلاع وفيهما حب التسلق والتلصص، وفي احلام الطفل ما يذكرنا بحياة الغابة والنوم على الاشجار، اذ معظم ما يراه الطفل في نومه انه يهوى ساقطا، فيصح من نومه فزعا باكيا.

ومن العلوم التي احدثها التطور علم – اليوجينية – الذي يقصد به اصلاح ذرية الانسان بأساليب صناعية، فبمثل ما عملته الطبيعة لترقية الانسان في الماضي، يجب على الانسان ان يعمل لترقية نفسه في المستقبل. ففكرة التطور قد شملت جميع المعلومات البشرية تقريبا وبها امكن تفسير اشياء عديدة كانت قبلا غامضة لا يمكن فهمها.

الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان للعلامة سلامة موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here