هل وصولُ الإخوانِ المسلمينَ إلى الحكمِ مذمومٌ أم ممدوحٌ؟

حينما كتبنا مقالنا الأخير بعنوان (لِمَ يكرهونَ الإخوانَ المسلمينَ؟) جاءت تعليقات البعض؛ فيها هجوم كاسح؛ وبألفاظ نابية؛ وبذيئة؛ مع سب؛ وشتم للإخوان المسلمين؛ لأن ذنبهم؛ أنهم يريدون الوصول إلى الحكم؛ ليحكموا الناس بشرع الله تعالى.

ففي نظرهم المريض، وعقليتهم السقيمة، وجهلهم المطبق بالإسلام، وعدم معرفتهم عن ماهية دين الله، الذي أرسله الله تعالى مع كل الرسل، بما فيهم خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، إلى كل البشر، يعتبرون أن سعي أي جماعة مسلمة؛ للوصول إلى الحكم، هو: عمل مشين؛ وناقص؛ ومعيب؛ ومذموم؛ وغير لائق بها؛ ولا مناسب لها؛ أن تهتم؛ أو تسعى إلى الحكم.

في نظرتهم المحدودة؛ حرام على الجماعة المسلمة؛ أن تصل إلى الحكم، وتحكم بشرع الله؛ الذي فيه كل العدل، والحق للبشرية جمعاء. ولكن حلال على الأحزاب العلمانية، واليسارية، والتحررية، والأحزاب الراديكالية؛ أن تصل إلى الحكم؛ وتحكم الناس بالجبروت؛ والطغيان؛ والاستبداد؛ فهذا مقبول لديهم.

وهذا تصور خاطئ، وسوء فهم للإسلام؛ نتيجة ترسبات الثقافة الجاهلية؛ التي تبثها وسائل الإعلام المعادية للإسلام؛ والتي تصور الإسلام؛ على أنه دين؛ يشبه الكهنوت المسيحي؛ وظيفته فقط في المسجد؛ ودور العبادة؛ وليس له علاقة بالحياة العامة؛ والسياسية، والقضائية، والدولية وسواها.

سنبين في هذا المقال حقيقة طبيعة دين الله، وكيف تم تطبيقه على مدار التاريخ، بدءاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وانتهاءً بآخر دولة حكمت بالإسلام في القرن العشرين.

إن مفهوم الدين هو: الدينونة، والخضوع، والاستسلام، والانصياع الكامل، لأوامر الله تعالى في الحلال والحرام. وهو ما يعني؛ تطبيق الشرائع والشعائر في وقت واحد، وليس تطبيق الأخير في دور العبادة، والمساجد، وترك الأول للطغاة، لكي يحكموا الناس بسلطانهم البشري، وقانونهم البشري المنسلخ عن سلطان الله، وقانون، وتشريع الله.

وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) ﴾ التوبة.

ويعلق سيد الشهداء سيد قطب على هذه الآية في الظلال فيقول:

(ودين الحق – كما أسلفنا – هو الدينونة للّه وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة . وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل . . ولا يدخل فيه طبعاً تلك الديانات المحرفة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم . كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين , وهي تقيم في الأرض أرباباً يعبدها الناس من دون اللّه , في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها اللّه .

واللّه سبحانه يقول: إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . ويجب أن نفهم “الدين” بمدلوله الواسع الذي بيناه , لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه . .

إن “الدين” هو “الدينونة ” . . فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء . .

واللّه سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على “الدين” كله بهذا المدلول الشامل العام !

إن الدينونة ستكون للّه وحده . والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة للّه وحده .

ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول اللّه – [ ص ] – وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان . وكان دين الحق أظهر وأغلب ; وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة للّه تخاف وترجف ! ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه ; خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى , المنوعة الأساليب , التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء . .

ولكن هذه ليست نهاية المطاف . . إن وعد اللّه قائم , ينتظر العصبة المسلمة , التي تحمل الراية وتمضي , مبتدئة من نقطة البدء , التي بدأت منها خطوات رسول اللّه – [ ص ] – وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور اللّه . .)

ولقد كان الهدف الرئيسي لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هو: إقامة دولة الإسلام؛ وأن يكون هو الحاكم لها؛ وليس ليجلس في المدينة ليلهو، ويلعب، وينجو من أذى قريش؛ ومحاربتها له؛ ولأصحابه.

فبمجرد أن وطأت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض المدينة، أصبح فعلياً هو الحاكم لها. بدليل أنه قبل وصوله إليها، كانت قبيلتا الأوس والخزرج تعدان تاج الملك، ليتوجوا عبد الله بن أبي بن سلول ملكاً عليها. فلما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، عطل عليه، أن يكون ملكاً عليها. وأصبح هو الحاكم الفعلي لها. وأقرت، واعترفت جميع قبائل المدينة العربية منها، واليهودية، بتوليه لهذا المنصب.

ومن ثَمَّ! بعد أن حاز الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المنصب الرفيع؛ قام بتنظيم معاهدة، أو وثيقة سميت (صحيفة المدينة) نظمت العلاقة بين المسلمين، وبين اليهود، وبينت لكل منهما حقوقه، وواجباته. وهذا مما يُثبت، ويدعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو في موقع الحاكم.

وما هاجر إلى المدينة؛ إلا ليكون هو الحاكم، ليس لأجل هذا المنصب، فهو ليس تشريفاً ولا تكريماً له، كما أنه ليس مُعيباً، ولا مُشيناً له تولي هذا المنصب. فهو أعلى، وأسمى، وأرفع من هذا المنصب الدنيوي، ولكنه تكليفٌ من الله تعالى، لكي يُقيم شرعه، ويطبق قانونه، ودستوره في الأرض التي ُيقيم فيها.

فمنصب الحاكم هو: وسيلة لإقامة دين الله، وتطبيق شرعه، وليس هو غايةً؛ لأجل الجاه؛ والسلطان؛ ولأجل اكتناز الأموال؛ والضياع؛ والتباهي والافتخار به.

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، وقبل دفنه، تسابق الصحابة إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة؛ لاختيار واحدٍ منهم، ليشغل منصب الحاكم، حتى لا يبقى شاغراً، وتتعطل مصالح الأمة.

وقد كان حرص الصحابة على اختيار حاكماً؛ ليكون خليفة عن رسول الله صلى الله وسلم؛ ليس حباً في هذا المنصب؛ وإنما حباً في استمرار إقامة دين الله؛ وتطبيق شرعه.

هذا هو الهدف الأساسي، والرئيسي لمنصب الحاكم هو: إقامة شرع الله تعالى كما قال تعالى لداوود (يا داوود إنا جَعَلناكَ خليقةً في الأرضِ، فاحكمْ بين الناسِ بالحقِ ولا تَتَبعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عن سبيلِ اللهِ).

ولهذا كانت كلمة أبي بكر رضي الله عنه، حينما اختير لمنصب الخلافة (إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، أطيعوني! ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله؛ فلا طاعة لي عليكم).

لأن تطبيق شرع الله، لا يتم إلا عن طريق سلطان الحاكم. ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).

ولهذا رفض أن يتنازل عن منصب الحاكم، حينما طلب منه الثائرون، المعتدون، لكي يحافظ على حياته، ولا يقتلوه. وقال قولته المشهورة (لن أنزع قميصاً ألبسنيه الله تعالى) وذلك بناءً على وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الصحيح:

فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: يا عثمان, إن الله عز و جل عسى أن يلبسك قميصًا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني, يا عثمان, إن الله عسى أن يلبسك قميصًا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني ثلاثًا. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.

وجاء في مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، لعلي القاري: (فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ) وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا تَخْلَعْهُ ثَلَاثًا، وَالْمَعْنَى إِنْ قَصَدُوا عَزْلَكَ فَلَا تَعْزِلْ نَفْسَكَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِأَجْلِهِمْ؛ لِكَوْنِكَ عَلَى الْحَقِّ وَكَوْنِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ, وَفِي قَبُولِ الْخَلْعِ إِيهَامٌ وَتُهْمَةٌ، فَلِهَذَا الْحَدِيثِ كَانَ عُثْمَانُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – مَا عَزَلَ نَفْسَهُ حِينَ حَاصَرُوهُ يَوْمَ الدَّارِ.

فآثر أن يُقتل، ولا يتنازل عن الحكم. مما يدل على أهمية هذا المنصب، وقيمته البالغة، ليس لأجل الحاكم، وإنما لأجل مصلحة الأمة المسلمة.

فقيمة الحكم، وأهميته في الإسلام هو: أنه وظيفةٌ، وتكليفٌ من الله تعالى، ومسؤوليةٌ كبيرةٌ، تُلقى على عاتق الحاكم، لخدمة شؤون المسلمين، وليس للوجاهة؛ ولا للإثراء؛ وجمع الأموال؛ وتحصيل عرض الدنيا الزائل؛ الفاني. فمنصبُ الحكمِ؛ يُعتبر مغرماً؛ وليس مغنماً.

وبناءً على ذلك! فمن الواجب الشرعي، أن يسعى الإخوانُ المسلمون بالقوة إلى الوصول إلى الحكم، وليس عن طريق الانتخابات الهزلية، التي لا تفرز إلا أراذل الناس. وحتى لو نجحوا في يوم من الأيام، فإنهم مهددون بالانقلاب عليهم – كما حصل في مصر منذ ثمان سنوات ونيف – إذا لم تكن لديهم قوة تحميهم.

ولا قيمة للفكرة مهما كانت عظيمة، ورائعة، إذا بقيت في الخيال، أو الفكر، أو بقيت نظرية في القراطيس والكتب، دون أن تُطبق في عالم الواقع.

فالإسلام! جاء ليُطبق على أرض الواقع، وليس ليُدَرَّس في المدارس، ويُتغنى به في المساجد، والمحافل. وهكذا طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة حالما هاجر إليها، ثم سار على نفس الطريق الصحابة والتابعون من بعده. وهكذا يجب على الإخوان المسلمين؛ أن يطبقوه؛ ولو كره الكافرون.

21 ربيع الأول 1443

28 تشرين الأول 2021

موفق السباعي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here