حربٌ يهوديةٌ مسعورةٌ على المقابرِ والمقاماتِ الإسلاميةِ

حربٌ يهوديةٌ مسعورةٌ على المقابرِ والمقاماتِ الإسلاميةِ

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

فيما يبدو أنه أوسع هجمةٍ وأكبر اعتداءٍ مقصودٍ ومنظمٍ، يقوم به المستوطنون الإسرائيليون وحكومتهم على المعالم العربية والإسلامية في فلسطين المحتلة، فقد تكرر قيام مجموعاتٍ كبيرةٍ من المستوطنين اليهود، ومعهم جنودٌ من جيش الاحتلال مدججين بالأسلحة، ورجال الشرطة وعناصر بلدية القدس، المزودين بتعليماتٍ صارمةٍ وقاسيةٍ، بالانتشار في محيط المسجد الأقصى وأرجائه، ومداهمة المقابر والمقامات الدينية في أنحاء المدينة، وذلك بعلم وموافقة الحكومة، ومباركة الجيش وقيادة الشرطة، الذين يقومون على حراسة المستوطنين وحمايتهم، وتسهيل مهمتهم ورعاية جريمتهم، والاعتداء على الفلسطينيين ومنع مقاومتهم، والتصدي لهم وإطلاق النار عليهم في حال دفاعهم عن مسجدهم ومقدساتهم، وقبورهم ومقاماتهم.

يتعمد الإسرائيليون حكومةً ومستوطنين الاعتداء على حرمة المقابر، ويقصدون شطبها وإزالتها، وتجريفها وإنهاء وجودها، فهي شاهدٌ على وجود الفلسطينيين، ودليلٌ على عمق تاريخهم وأصالة انتمائهم، وهي وشيجة قربى ومشاعر وصلٍ، وهي رموز عقيدة راسخةٍ وشواهد وطنٍ عتيدٍ، تثير الشجون وتحرك المشاعر، وتعمق الانتماء وترسخ الوجود، فتراهم لغايةٍ يعلمونها ولهدفٍ يريدونه، يجوسون خلالها تخريباً وهدماً وتدميراً، فيكسرون الشواهد، ويهدمون القبور ويجرفونها، ويخلعون الأشجار الصغيرة ويقتلعون الأعمدة واللوحات المنصوبة، ولا يبقون فوق الأرض أو تحتها على أي شيءٍ يدل عليها، أو يشير إلى بقايا الوجود وأصل الأثر.

لا يستعدي الإسرائيليون الفلسطينيين الأحياء فقط، وإن كانوا يقولون أنه لا يوجد فلسطيني جيدٌ إلا الفلسطيني الميت، ومع ذلك فإنهم يكرهون الفلسطينيين الأموات كما يكرهون الأحياء، ويحاربون الأموات كما يحاربون الأحياء، ويهدمون القبور كما يهدمون البيوت، ويجرفون المقابر كما يجرفون كروم العنب وأشجار الزيتون، ويدمرون الشواهد كما يشطبون أسماء المدن والبلدات العربية، وينكرون وجود الأجداد والأصول العريية، كما يزورون التاريخ ويشوهون الحقائق، ولعل من الأموات العرب والمسلمين المدفونين في أرض فلسطين، من يستفزهم اسمه، ويزعجهم قبره، ويغضبهم ذكره، ويخرجهم عن طورهم إطلاق اسمه على الشوارع والمدارس، والمشاريع والمساجد.

يتطلع الإسرائيليون لإخراج الفلسطينيين من أرضهم، وطردهم من ديارهم، ومنع عودتهم إليها أو مشاركتهم فيها، لكنهم يعملون أيضاً لاستخراج الفلسطينيين الموتى من القبور، وإخراج ما بقي فيها من عظام، وهدم المقامات التي تحمل اسمهم وتحفظ ذكرهم، فحلمهم الدائم أن يجعلوا فلسطين خالصةً لهم وحدهم، فلا يشاركهم فيها أحدٌ من الفلسطينيين سواء كانوا أحياءً فوق الأرض أو أمواتاً تحتها، فهم يحسبون حساب الشهداء ويخافون منهم أكثر، وكأنهم ما زالوا أحياءً يتصدون لهم، وأبطالاً يقاتلونهم، وأشباحاً يطاردونهم، فهم كانوا ولا زالوا يبعثون فيهم القلق، ويزرعون في نفوسهم الخوف، ويهددون وجودهم، ويستهدفون هويتهم المزورة وتاريخهم الكاذب.

صبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي جام غضبها وعنيف سياستها على المقابر المقدسية عموماً، فاستهدفت العديد منها واستولت على أرضها، وما زالت تخطط لتجريف ما بقي منها، ولكنها اختصت بمخططاتها العدوانية ومشاريعها التوسعية، المقبرة اليوسفية الإسلامية، ومقبرتي باب الرحمة ومأمن الله، وبدأت اعتداءاتها بهدم أسوارها، وزحفت نحو قبورها، وصادرت أرضها، ومنعت تمددها وأوقفت الدفن فيها، وأعلنت عن مخططاتها باستخدام أراضيها في المشاريع التهويدية، رغم أنها تعلم أن هذه المقابر تتبع وزارة الأوقاف الأردينة، التي تشرف عليها وتنظم العمل فيها، علماً أنه يوجد في المقبرة اليوسفية الإسلامية، التي يزيد عمرها عن ستمائة عامٍ، مقابر لمئات الشهداء الأردنيين.

ليست قيمة المقبرة اليوسفية الإسلامية، المشادة على أرضٍ مساحتها 4000 متراً مربعاً، في مقام الأموات المدفونين فيها، ولا بالشهداء المنتشرين في رحابها، ولا بصرح الشهيد المشاد في وسطها، وإنما قيمتها في قدمها العميق وتاريخها الممتد لمئاتِ السنين، حيث يعود تاريخ إنشائها إلى الدولة الأيوبية، التي أولت القدس والمسجد الأقصى اهتماماً خاصاً ورعايةً كبيرةً، وحرصت الدول الإسلامية التي سادت بعدها على الاهتمام بها والحفاظ عليها، فقد شكلت لهم هويةً وانتماءً، يزورون فيها أجدادهم، ويجددون العهد معهم، ويؤكدون على البيعة المقدسة التي كانت معقودةً في أعناقهم، ليحفظوا الأمانة، ويصونوا البلاد ويكرموا العباد، ويقيموا العدل بينهم، وينشروا السلام في ربوعهم.

يريد الإسرائيليون بالعدوان على مقابرنا والاعتداء على مقاماتنا، خلع جذور العرب والمسلمين من المدينة المقدسة، ليبنوا مكانها ما يسمونه بــــ”الحدائق الوطنية”، ضمن مشروعاتٍ كبيرة لتوسيع حدود مدينة القدس على حساب حقوق سكانها الفلسطينيين، ولا يرى الاحتلال في انتهاكه لكرامة الأموات ومساسه المهين بمكانة الشهداء ورمزيتهم، أي عيبٍ أو غضاضةٍ، أو عدوانٍ أو مهانةٍ، بينما يقدس أمواته، ويحفظ رفاتهم، ويصون قبورهم، ويتبرك بمقاماتهم، ويحرص على تسوير مقابره وحرستها، والاعتناء بها ونظافتها.

قبورنا في هذه المقابر وغيرها قبورٌ حقيقيةٌ، فيها رفات الآباء والأجداد، والقادة والحكام، والصحابة والصالحين، والشهداء القدامى والمعاصرين، وهم جميعاً معروفون بالأسماء والصفات، ومبينٌ على شواهدها وفي سجلاتها الرسمية، تاريخ وفاتهم وسير حياتهم، بينما يقوم اليهود في المدينة المقدسة وحولها، بحفر قبورٍ وهمية، وبناء مقاماتٍ كاذبةٍ، لا أصل لها ولا رفات فيها، ولعل بعضهم مدفونٌ في أماكن أخرى معروفة ومعلومة، ولكنهم يكذبون ليزوروا التاريخ، ويخدعون أنفسهم وغيرهم بأصالة انتمائهم وقديم وجودهم، رغم يقينهم أن وجودهم طارئ، وملكهم عابرٌ، وتاريخهم في المدينة متقطع، وهو في أغلبه في ظل الدولة الإسلامية ورعايتها.

لا نستخف أبداً بالهجمة الإسرائيلية على مقابرنا العريية والإسلامية، ولا بعدوانهم المقصود على مقاماتنا، فهم يريدون طمس وجودنا، وشطب هويتنا، وإلغاء حاضرنا، ونزعنا من ماضينا، وفصلنا عن تاريخنا، ضمن مخططٍ كبيرٍ وشاملٍ، ومشاريع خطيرة واستراتيجية، لتهويد المدينة المقدسة، وصبغها بالروح التوراتية القديمة، والهوية اليهودية التاريخية، وعليه فلنعلم أننا بدفاعنا عن أمواتنا، وبحفاظنا على رفات ومقابر شهدائنا، إنما ندافع عن حاضرنا ومستقبلنا، ونحمي أنفسنا وأجيالنا، ونصون هويتنا ونحفظ كرامتنا.

بيروت في 14/11/2021

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here