اوضاع الدولة العثمانية الاجتماعية والثقافية في عصورها الاخيرة !

اوضاع الدولة العثمانية الاجتماعية والثقافية في عصورها الاخيرة ! *
د. رضا العطار

لقد تدنى مستوى الادب والفن وغياب الحركة العلمية في الامبراطورية العثمانية !

و في القرن الاخير من حكم آل عثمان ظهر عدد قليل من الروائيين لاول مرة في تاريخ الادب التركي، كما ظهر لاول مرة كتاب قصة قصيرة ومسرحيات ونقاد للادب ومؤلفون في علوم اللغة.

وظهر في هذه الفترة تسعة روائيين كان ابرزهم اثرا احمد مدحت (1844 – 1912 )

وكمعظم المثقفين الاتراك، عمل مدحت في عدة وظائف حكومية وكتب في عدة صحف تركية كانت قد بدأت في الظهور والانتشار. وقد نُفي الى جزيرة رودس نتيجة لافكاره وكتاباته التحررية – وهناك التقى بالزعيمين التركيين المنفيين نامق كمال وايبوزيا توفيق. وكان مدحت واحدا من الروائيين الاتراك الذين حاولوا تقليد الشكل والجنس الروائي الغربي ونقله الى التركية. وقد اشتهر بروايته البوليسية (اسرار جريمة غامضة).

ثم ظهر في هذه الفترة روائي آخر وهو سيزيا سامي باشا، وكان سيزيا كباقي اولاد الباشوات قد تلقى تعليمه في مدارس اجنبية، واجاد اللغة الفرنسية والالمانية والانكليزية، وقد مكتنه هذه اللغات من الاطلاع على الاداب والثقافة الاوربية. ودفعه تفتحه هذا الى الالتحاق بجمعية (تركيا الفتاة) في باريس حيث شارك في تحرير جريدة (سرايا الامة) التي كانت تصدر هناك كصحيفة معارضة لنظام الطاغية عبد الحميد الثاني – – ثم عاد الى تركيا بعد نجاح ثورة 1908

ومن الملاحظ ان الثقافة الفرنسية كانت هي الثقافة الادبية الغربية السائدة في القرن الاخير، خاصة وان العثمانيين بداوا اتصالهم بالغرب منذ عهد الخليفة سليم الثالث، في الثقافة والادارة والدبلوماسية – وهي حركة كان لفرنسا الفضل الكبير فيها من خلال مدارسها المختلفة التي انتشرت في تركيا مما خلق طبقة من الكتاب الاتراك، راحت تقلد الاجناس الادبية التي كانت سائدة في الادب الفرنسي ومنها المسرح الذي كانت فرنسا تقود مسيرته الاوربية في القرن الثامن والتاسع عشر بجدارة كبيرة. فظهر على اثر ذلك ثلاثة كتاب مسرحية اتراك بارزون.

وكان نامق كمال احد هؤلاء الثلاثة، الذي قدم عام 1873 مسرحية (ارض الاباء) على مسرح (جدك باشا). ثم كتب بعدها مسرحية (الطفل التعيس) متتبعا فيها خطى فيكتور هيغو – وكان مسرحه مسرحا تاريخيا واقعيا ووطنيا، فكان كمال الى جانب فنه مصلحا سياسيا ومثقفا نهضويا، وضع مشروعا متكاملا للتنوير التركي كانت اهم بنوده :

1 – ان انجازات الغرب محتملة الوقوع في تركيا – من خلال انتصار افكار الحرية والتقدم على الشخصية الشرقية.

2 – يجب على الاتراك وباقي المسلمين في العالم ان يتخذوا من الحرية عقيدة وليس مجرد لغو اذا ارادوا للاسلام البقاء.

والى جانب هذه المجموعة من الادباء والنقاد ظهرت في هذه الفترة مجموعة من المؤرخين منهم احمد وفيق باشا الذي درس الفرنسية في مدرسة سانت لويس واصبح سفير بلاده في ايران وكتب (نسب الاتراك) و (مذكرة في التاريخ التركي) و (اللهجة التركية) – – كما ظهر الاديب احمد سيادت الذي كتب ( قصص الانبياء وتاريخ الخلفاء) – – وظهرت في هذه الفترة اول مؤرخة في التاريخ التركي وهي فاطمة علية التي كتبت (المرأة في الاسلام) و (سيرة الفلاسفة).

كانت العمارة ابرز مظهر ثقافي في تركيا منذ ان انشئت الامبراطورية العثمانية. فلم تهتم الادارة العثمانية باي مظهر من مظاهر الثقافة كما اهتمت بالعمارة لعلاقتها المباشرة بما كانت تحرص عليه السلطة العثمانية اشد الحرص وابلغه، وهي الهيبة السياسية الممتثلة ببناء القصور والهيبة الدينية المتمثلة ببناء المساجد الضخمة – ومن اجل العمارة التي تحفظ للسلطنة هاتين الابهتين السياسية والدينية – – لذا اضطرت الادارة العثمانية قبل القرن الثامن عشر وبعد ذلك الى الاستعانة باوربا والاتصال بالغرب. من اجل احضار المهندسين والفنيين والرسامين والمواد الاولية كالزجاج المعشق والخشب المحفور وزراكش الجبس واعمال الحديد المزخرف. وكان كل من ايطاليا وفرنسا هما المصدران لتجهيز تركيا بالوسائل المادية والمعنوية هذه.

فلو تأملنا قليلا لاتضح لنا الفارق الكبير بين العدد المتواضع جدا من الادباء والمثقفين والفنانين في الدولة العثمانية ابان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبين الاعداد الكبيرة من نظائرهم في الدول الاوربية التي كانت تعج بهم قياسا، ذلك لان اوربا لم تنهض وتزدهر الا بعد ان تخلصت من الديكتاتورية المتمثلة في سلطة رجال السياسة ومن سطوة رجال الدين، مما اتاح لها التحرر من قيود الفكر التي كانت مفروضة على مواطنيها، في الوقت الذي كانت بلدان الشرق العربي لا تزال ترزخ تحت وطأة الكابوس العثماني.

كانت الثقافة التركية في القرن الاخير من حياة الدولة العثمانية محدودة جدا لكنها كانت متنوعة، فلم تقتصر على جنس ادبي دون الاخر، فظهرت في هذه الفترة مجموعات من المثقفين انتجت معظم الاجناس الادبية من شعر ورواية وقصة قصيرة ومسرحية وتاريخ ومذكرات وترجمات ونقد ادبي وصحافة – وكان هذا التنوع في الانتاج الثقافي يحسب ايجابيا للثقافة التركية في هذه الفترة.

لقد ظهرت في الفترة مجموعة من المثقفين المعارضين للسلطة العثمانية المنظمين وغير المنظمين، منها ما كان نشاطه في اوربا ومنها ما كان نشاطه داخل تركيا نفسها – وقد ادت هذه المعارضة الفكرية السياسية من خلال جمعية (تركيا الفتاة) ومن خلال جمعية (الاتحاد والترقي) الى زعزعة حكم الطاغية عبد الحميد الثاني والثورة عليه وعزله عام 1908 وكان ذلك انتصارا كبيرا للثقافة والمثقفين الاتراك.

اما الصحافة فلقد لعبت داخل تركيا دورا مهما في التنوير التركي الذي شق طريقه في هذه الفترة بين جبال الاناضول – وقرأنا كيف ان مجلات ثقافية ك (الفجر الجديد) و (كنوز المعرفة) وغيرهما من الدوريات كان لها اثرها الواضح في التنوير وفي اشعال نار الثورة ضد الطغيان والاستبداد السياسي.

كما كان ابرز المثقفين الاتراك في هذه الفترة مقدرة نضالية شجاعة وروحا فدائية عالية من اجل محاربة الطغيان والفساد وتعرضوا للقهر والتشرد والنفي والسجن مما ترك في الادب التركي ما عرف بالادب الوطني الذي قاده في هذه الفترة الشاعر فكري توفيق والشاعر محمد امين والمسرحي نامق كمال.

استطاع المثقفون الاتراك في هذه الفترة ان يستفيدوا استفادة كبرى من الباب الذي شقه بعض السلاطين من امثال عبد العزيز واطلوا منه على الغرب – – فنقلوا الاثار الادبية الاجنبية الى اللغة التركية ونشروا في المجلات الثقافية التي كانت تصدر في هذه الفترة تعريفا بالثقافة الاوربية – مما زاد من شقة الانفتاح على الغرب وثقافته وافكاره وعلومه وادى بالتالي الى ثورة 1908.

وكانت المؤسسة الدينية قد حذرت هذا الانفتاح وخطره على السلاطين وعليها – ولكن التاريخ اخذ مجراه واكد حتميته – وتحققت نبوءة رجال الدين من ان الانفتاح على الغرب سيقود الى الدمار والخراب عليهم، – وقد حصل هذا بالفعل – فكانت ثورة 1908 خرابا ودمارا للمؤسسة السلطانية والمؤسسة الدينية المتعاونتان دوما سواء في الماضي او في الحاضر – – ثم تبعتها ثورة 1923 التي كانت الطامة الكبرى والكارثة العظمى للمؤسسة السلطانية وللمؤسسة الدينية – عندما الغت هذه الثورة الخلافة العثمانية الدينية واعلنت الجمهورية العلمانية الحديثة بقيادة مصطفى كمال اتاتورك.

لم يقتصر الانفتاح من قبل الاتراك في هذه الفترة على المسيحيين واليهود دون المسلمين الاتراك حيث برزت النخبة المثقفة من بين صفوف هاتين الفئتين في معظم الاحوال – ومن هنا نقول ان المسلمين في تركيا كانوا اكثر وعيا من مسلمي بلاد العرب واكثر منهم اقداما وشجاعة في اتصالهم بالغرب والاخذ منه ومد الجسور الثقافية بينهم وبينه – وقد ظلت هذه الروح سائدة وقوية الى ما بعد قيام الجمهورية التركية في العام 1923 حين مدت تركيا جسورها مع الغرب بشكل اقوى واعتبرت نفسها فيما بعد دولة اوربية.

من الواضح ان اللغة الفرنسية كانت في مقدمة اللغات التي حرص المثقفون على تعلمها – فقد كانت هذه اللغة قاسما مشتركا بين معظم المثقفين الطليعيين في تركيا مما اتاح للادب التركي ان يستفيد من الادب هذه اللغة ويطور ادبه تبعا لذلك ويأتي بالاجناس الادبية الجديدة من رواية وقصة قصيرة ومسرحية ومذكرات وخلاف ذلك باعتبار ان الادب الفرنسي في القرن التاسع عشر كان في قمة ازدهارها وكان في مقدمة الاداب الاوربية المتطورة.

ان معظم الشعراء والروائيين والقصاصين الذين أثروا الادب التركي الحديث في القرن التاسع عشر قد انحدروا من الطبقات الارستقراطية، طبقة الاغنياء والباشوات وليس من طبقة الفقراء والجياع وشغلوا مناصب رفيعة في الدولة تبعا لذلك – ورعم هذا، فقد كتبوا ادبا انسانيا، فضحوا فيه الواقع المريض والحياة الفاسدة والقيم البالية – ولم يمنعهم انتماؤهم الى الطبقة الارستقراطية من ان يكونوا قريبين من حس ونبض الشعب، وتلك ظاهرة تكاد تكون فريدة في ادب الشرق عموما حيث يسعى معظم ابناء هذه الطبقة الى التخلي عن الثقافة والادب خوفا من رميهم بالمعاصرة والحداثة والعداء بالتالي للنظم السياسية القائمة، كما عليه الحال ولا يزال في معظم الانظمة العربية في الوقت الحاضر

ومن الملاحظ ان معظم المبدعين الاتراك الذين جاؤا بالجديد في الادب والثقافة ظهروا في القرن التاسع عشر الذي كان بمثابة القرن الذهبي بالنسبة للثقافة التركية نتيجة للانفتاح الذي بدأه بعض السلاطين هذا القرن ونتيجة لازدياد البعثات الخارجية العلمية الى اوربا وبدأ انتشار المدارس الاجنبية في العاصمة استانة وبدء انتشار دعوة لتعلم اللغات التي كانت قوية مدوية.

ومن هنا يتبين لنا ان الشعب التركي من خلال عناصره الثقافية كان يعي تماما الهوة التي هو واقع فيها. وكان يدرك عمق هذه الهوة واتساعها وصعوبتها، وكان يحاول من خلال مثقفيه الخروج منها والبروز على سطح الارض. وان الجهل والتخلف والطغيان والاستبداد كان مرتكزا وراء اسوار الباب العالي – اما خارج هذه الاسوار فقد كانت النار تتقد وتشتعل من حين لاخر لحرق الاوراق الصفراء وطرق ابواب الشمس بقوة.

* مقتبس من كتاب التكايا والرعايا للدكتور شاكر النابلسي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here