العواطف المكبوتة تلد الفن

العواطف المكبوتة تلد الفن، * د. رضا العطار

) يختلف الادباء والشعراء والفنانون في اساليبهم واهدافهم . ونستطيع ان ننتفع بما يؤلفون دون ان نعرف الجهود التي ترجع اليها هذه الاساليب والمناهج .

لكن المؤلف لا يؤلف في الفن , حيث الميدان يتسع للعواطف والاذواق والاتجاهات والاخلاق , الاّ اذا كان قد وجد في حياته ما يحمله على اتخاذ خطة دون اخرى وهدف دون آخر .

ولذلك نحن نفهم الكتاب او القصيدة او الرسم او اللحن اكثر , اذا عرفنا حياة المؤلف والتفاصيل الخاصة مما لقي من افراح او اتراح . وربما نزل به من كوارث او مصادمات , وبما كان له من علاقة اجتماعية او عائلية . لأته وهو يؤلف , انما يتوسع بشخصيته , وينقل الى الجمهور احساساته . اذ هو يتخيل الخيال او يحلم الحلم , الذي يسد عنده نقصا في حقائق الواقع .

وليس من شك اذن في الارتباط بين حياة الكاتب وفنه . فقد تجد كاتبا يدأب في الدفاع عن الحرية وينضوي الى الحركات التحريرة ويسرف ويضحي , بحيث نكاد نحس انه يشذ عن المألوف . وهو في شذوذه هذا يتأنق ويتفوق . لان غرامه بدعوته يحمله على العناية حتى يصل الى غايته . وهذه العناية هي الفن .

اعتبر صبيا نشأ في بيت يتسلط عليه اب قاس محافظ يمنع ابنه من الاستمتاع بالمسرات المألوفة , او هو يحمله على اتخاذ اساليب من السلوك المرهق بدعوى الوقار . او اعتبر صبيا آخر قد لقي طغيانا من اخيه الاكبر . بحيث لم يكن ليستطيع الدفاع عن نفسه لحداثة سنه . او اعتبر تلميذا وجد من معلمه في السنوات الاولى من الدراسة الابتدائية عنتا بلا مبرر .

ففي كل هذه الحالات نجد هؤلاء الصبيان , عندما يبلغون سن الرجولة , كارهين لكل انواع السلطة الحكومية او الاجتماعية او الدينية او هم على الاقل يتوجسون منها . وهم في هذه الكراهية يراقبون هذه السلطات سرا او علانية محاولين الوصول الى نقاط الضعف فيها كي يبرروا موقفهم منها . وهو موقف الكراهية او التوجس .

وهنا نجد اذن ذلك المؤلف الذي يسرف في الدفاع عن الحرية وينضوي الى الحركات التحررية , لأن دفاعه عن حريته الشخصية قد استحالت الى دفاع عن حرية الشعب كله . وكراهيته للحكم المستبد , او القانون الجائر هي في صميمها كراهة للأب القاسي الذي عرفه في طفولته او لقواعد الوقار التي قيدت نشاطه وهو مراهق .

وليس الفن الذي يتجسم في قصة او رسم او ابيات من الشعر او الحان من الموسيقى , او حتى في مقال عابر , ليس الفن سوى التفريج عن عواطف محتبسة , اي مكبوتة , لم يكن في مستطاع الفنان ان يفرج عنها في الواقع , فأفرج عنها في الخيال . وهو اذا لم يكن قد فعل ذلك في الخيال , لكان قد ادى به الكبت الى التفريج عنها بالخمر او الجريمة او الجنون .

وقد قال فرويد – كلنا مرضى – وهو يعني بهاتين الكلمتين ان لكل منا كبته واحتباساته وكروبه . التي تحتاج الى التفريج . وقد يكون الانتقام تفريجا . ولكن الاخلاق المتمدنة التي نأخذ بها والاعتبارات الاجتماعية التي يجب ان نراعيها , تحول بيننا وبين الانتقام , واذن نحن نحلم ونتخيل حالا اسعد من الواقع . فإذا كنا على شئ من القدرة على التأنق في التعبير , استحالت اخلامنا الى اعمال فنية كالشعر او الرسم او القصة او المقالة . ثم اتجهت حياتنا الفنية تلك الوجهة التي اقتضتها ظروفنا العائلية الاولى ايام الطفولة وايضا مركزنا الاجتماعي .

والعواطف المكبوتة هي التي تلد العمل الفني . فاذا لم نكبت الحب فاننا لن نؤلف عنه الشعر . واذا لم نحس العجز في حياتنا الشخصية فأننا لن ننشد التفوق الاجتماعي او الفني . واحساسنا بالضعف يحملنا على ان نتقوى بالرياضة البدنية او الذهنية . لذلك يجب اذا استطعنا , ان نعرف حياة المؤلف وظروفه العائلية كي نصل الى الجذور التي جعلته يتخذ اسلوبا دون آخر . لان هذا الاسلوب هو اخلاقه التي تعلمها . او اضطر الى اتخاذها . منذ صباه . والاغلب ايضا ان الهدف الذي نصبه لنفسه قد تعين منذ صباه , ولا بد ان الصورة التي اتخذها هذا الهدف , قد اختلفت من الصورة التي كان يرسمها لنفسه ايام الصبا , ولكن هذا الاختلاف لم يكن من النوع وانما كان في الدرجة واللون فقط اي كان الاختلاف فنيا .

ومن هنا قيمة الترجمة الذاتية يكتبها المؤلف عن حياته . وهو بالطبع لن يقول كل شئ , ولكنه يرسم لنا المراحل الزمنية والبيئية التي تنتمي اليها مبادئه واهدافه . وقد تكون القصة التي يؤلفها بخياله اصدق من ترجمته التي يذكر فيها حقائق حياته . ذلك لانه يحس من حرية البوح والاعتراف في القصة الخيالية ما لا يحس في الترجمة الذاتية .

ان سيكولوجيى فرويد تسمى – سيكولوجية الاعماق – لاننا نتعمق الشخصية ونحاول ان نرد ما فيها من تفوق او تخلف . او اتجاه سديد . او انحراف سئ , الى العوامل الاولى ايام الطفولة . الى المركبات النفسية الخاصة . والى محاب ومكاره . قد رسخت حتى لم يعد في المستطاع التخلص منها . ويمكن ان نتعرف اسلوب الكاتب وهدفه اذا تعمقنا نفسه وهبطنا على المشكلات القديمة التي كانت تشغله ايام صباه .

نستطيع مثلا ان نعرف كثيرا عن المؤلف اذا نحن تأملنا الكلمات التي تتكرر في مؤلفاته . لان هذا التكرار لا يأتي عبثا , ذلك اننا حين نحب شيئا نلهج به , ولهجتنا تدل على اتجاهنا . وكذلك نستطيع ان نعرف الكثير عنه حين نتأمل المجازات والاستعارات التي يؤثرها على غيرها لانها احلامه التي تنبع من نفسه . وليست احلام النوم عندنا سوى مجازات واستعارات مقلوبة , بحيث نكسب الهدف المعنوي تعبيرا ماديا . كأن اطير نحو السماء عندما اعبّر عن شسوقي الى الرقي او احساسي به . او اسقط من الشرفة حين اعبّر عن سقوطي الاجتماعي .

فنحن هنا ازاء رموز تجري في الاحلام وتدل على مسكلاتنا الشخصية ولكن للأديب ايضا رموزا تجري على قلمه . وهي تنبع من اعماق نفسه وتكراره لها يدل على سلوكه ونظرته للمجتمع والحياة . ثم النزعة العامة في مؤلفاته توضح لنا موقفه من المشكلات الاجتماعية والسياسية . لكن هذه – الاعراض – لن تكشف لنا شخصية المؤلف ولن تفسر لنا اتجاهاته الاّ اذا عرفنا حياته العائلية الاولى وموقفه الاجتماعي .

هل كان فقيرا في طفولته وقد عذّبته الفاقة ؟ . وهل شقي في معيشته العائلية , وهل كابد قسوة ابويه ؟ . وهل هو ينتمي الى الاقلية ام الاكثرية في الشعب ؟ . وهل نجح ام خاب في حياته المدرسية ؟

مثل هذه الاسئلة تنيرنا , اذا استطعنا ان نحصل على الاجابات الصحيحة عنها . عن كثير من البواعث التي تبعث الفنان على اتخاذ اتجاه لو اسلوب معين . وهذا التعمق السيكولوجي للفنانين والمؤلفين ودلالة حياتهم العائلية الاولى في انتاجهم الادبي او الفني , وفي مذاهبهم الاجتماعية او السياسية , لا يمكن ان نحققه الا اذا كان هؤلاء قد اعتادوا التأليف عن حياتهم الشخصية . ومما يؤسف عليه كثيرا ان قليلين من ادباء العرب قد عرفوا الرجمة الذاتية , ولم انهم كانوا قد عرفوها ومارسوها لأنارونا عن عصرهم وبيئتهم , واوضحوا لنا العوامل التي كونت مؤلفاتهم وفنونهم . وفي عصرنا الراهن وبيئتنا العربية لا تزال – الترجمة الذاتية – بعيدة عن الوجدان الادبي . وهذا نقص عظيم نأسف عليه نحن , كما سوف يأسف عليه اكثر , اجيالنا القادمة . (

* مقتبس من كتاب الفن الحلم الفعل لجبرا ابراهيم جبرا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here