هذا هو السر من وجودنا في الحياة

هذا هو السر من وجودنا في الحياة (*) د. رضا العطار

ان المقالات التي تنشر تباعا، ما هي الاّ قطرات من ماء عذب، تضاف الى نهر المعرفة الجارية وئيدا في ثنايا وعينا الاجتماعي وشموخنا الوطني ، ذلك النهر الذي تنهل منه البشرية، ما يغذي روحها وعافيتها الفكرية، ويرفع من حاجاتها الثقافية. وهي المهددة دوما للأنهيارعلى ايدي اعداء الحياة.

عندما حصل طالب كلية الحقوق على نسخة من كتاب استاذه الجليل (س)، تفاجئ كثيرا في رؤية عبارة ( القط يأكل ويشرب ) تتصدر الصفحة الاولى ! فحار في امره وظن ان الاستاذ اراد ان يتحدث عن ( حقوق الحيوان !) لكنه في الحقيقة لم يفهم فحوى هذه العبارة، او بعبارة اكثر دقة، انه لم يحسن فهم المغزى الذي ترمي اليه او الدلالة التي تعنيها، ولكنه اخيرا وقف على معناها:

انه يريد ان يقول ببساطة ان القط ليس كائنا اخلاقيا يلتزم بقانون ومبادئ، في حين ان الانسان هو الموجود الاخلاقي الذي يضع القانون ويلتزم به، يحقق به كيانه الانساني. ومن ثم فأنك لا تكون انسانا على الاصالة الا اذا حققت الجانب الانساني فيك.

فإن الجانب الذي يميزك عن القط: جانب الفكر والمعرفة من الناحية النظرية، والسلوك الاخلاقي من الناحية العملية. اما اذا اقتصرت مهمتك في الحياة على ان تأكل وتشرب، فإنك تبقى في مرتبة القط، لأن القط ايضا يأكل ويشرب … فهي اذن دعوة تهيب بنا الى التعالي والى الارتفاع عن مستوى الحيوان والسمو الى افاق رحبة تحقق ماهية الانسان وذاته الحقة التي تجعله جدير بأن يكون كائنا اخلاقيا.

وهذا يعني ايضا ان هناك طبيعتين مختلفتين للأنسان: الطبيعة الاولى هي الطبيعة الحيوانية، التي تتحكم فيها الغرائز والشهوات والنزوات والميول والنزعات، وهي لا اثر فيها للأخلاق. من حيث انها منفلتة، تتميز بالاندفاع والتهور، المتغايرة كلية مع ماهية الاخلاق الحقيقية المنضبطة بفعل سيطرة العقل الموجود لدى الأنسان.

والانسان عادة يبدأ بفطرته الحيوانية الاولى، منذ ان يدخل في سلسلة طويلة من التهذيب والترويض والتدريب، بغية التحديد من سطوة الغريزة عليه، يتعلم من ابويه في الاسرة ومدرسيه في المدرسة ورفاقه في الحياة ومن يلتقي بهم في مجتمعه، بل انه ليتعلم من قوانين المجتمع ونظمه الكثير من انماط السلوك الجيد وكبح جماح الغرائز والميول والاندفاع لأشباع الشهوات … الخ، رحلة شاقة يبتعد فيها الانسان عن (الفطرة) ويتحرر من الطبيعة البهيمية ليصل في النهاية الى الطبيعة الانسانية.

لكن كيف يمكننا ان ننفي السلوك الاخلاقي عند الحيوان ؟ ألسنا نتحدث احيانا عن صفات الحيوان، صحيح اننا كثيرا ما نتحدث عن شجاعة الاسد، وجبن الارنب، ووفاء الكلب، وخبث الثعلب، واخلاص الحصان، وغدر الذئب، ووداعة الحمل، وخيلاء الطاووس، وصبر الحمار… ولكن ذلك كله ليس الا لونا من الوان المجاز واسقاط القيم على سلوك الحيوان تماما كما نقول ( الزهرة تبتسم ) و ( الورد يبتهج ) بل اننا نقول احيانا بأن الحيوان ( يضحك ) لكننا واهمون. اسمع ما يقوله الشاعر :

اذا رايت نيوب الليث بارزة * * فلا تظن ان الليث يبتسم

فليس وفاء الكلب الا لونا من الوان الارتباط الشرطي بين الجوع وصاحبه الذي يقدم له الطعام، ولك ان تتخيل ما الذي كان يحدث لو ان صاحب الكلب بدلا من ان يقدم الطعام له، اعتاد ان يضربه كل صباح ! اذن فالفعل الخلقي فعل ارادي يمكن للفاعل ان يختار سواه. وفي استطاعتنا ان نقول اننا لا نلتقي والحيوان في هذه النقاط.

ان السلوك الاخلاقي يتطلب وجود حرية عند الكائن الاخلاقي بحيث يجد امامه طريقتين : كان يمكن ان يسلك على نحو كذا لكنه سلك على نحو مخالف، كان يمكن ان يسرق لكنه آثر ان يكون امينا، كان يمكن ان يكذب لكنه يفضل قول الصدق. ومن هذا الاحتكاك والصراع بين طريقين متعارضين تبرز الاخلاق، ولهذا فان الرجل الذي يعيش وسط مغريات المدينة، يسلك سلوكا مغايرا من سلوك الراهب الذي يعيش في صومعة في قلب الجبل، او في وسط الصحراء. لان رجل المدينة يمنع نفسه بأرادته من ارتكاب الموبقات، بينما الراهب (فاضل رغم انفه) وهو قد يتفق مع الفيلسوف الالماني (نيتشه) قوله: ( كم اشتهي ارتكاب خطيئة ! )

ولهذا فإن من الفلاسفة من يعرف الانسان بانه ذلك الكائن الاخلاقي الذي لا يتحدد وجوده الا من خلال القيم، فهي همزة الوصل بين التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري او قل انها همزة الفصل بينهما. فاذا رايت رجلين يتشاجران بالايدي والارجل كما تفعل الديوك، فاعلم انهما قد توقفا عند الطبيعة الاولى ولم يتطورا ! واذا رايت من يكذب او يسرق او يرتشي او يخون – فأعلم ان المسافة بينه وبين الانسان ذو الطبيعة الانسانية بعيدة جدا، ذلك الكائن الاخلاقي او المخلوق السامي. ولا يغرنك انهم يأكلون ويشربون.

فالقطط، تاكل وتشرب ايضا.

* مقتبس من كتاب افكار ومواقف لمؤلفه امام عبد الفتاح امام.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here